القطار الاسود يشق جبل الظلام والغيوم السحت تنقشع عن عينيه فيما القطة الكمشة تندس في حضن الكرسي المجاور ، لم تكن صامته ، لم يكن ثمة ملح على لسانه الذي يلحس الكلام ولم يكن يسمعها فيما هي تتكلم أو تذوب في حلقه رشفات عصير البرتقال تتعتعه ولم تكن ثمة مسافة بينهما رغم أن ثمة فاصل بين الكرسيين . شق القطار الظلمة وطار عنهما فاخذا يسبحان في لجة الليل . لم يلتقيا البته قبل لكن لابد أنهما خلق من طينة واحدة وافترقا ، بهذا يهذى وهي تغط في الكلام كأنه لم يفق من بنج العملية وأن ما يحدث لا يحدث . مرميا على السرير المتحرك ، في طرقة غرفة العمليات ، وهاني الكيخيا يطلب أن أترك له الوصية وأن أبوح له بمالي فيما يبتسم الرجل الماكر الذي اسمه جمال القصاص الذي من جملة ادعائته أني صنوه ، فيما ادلف في اتجاه غرفة العمليات يتكدس كل خاطر غير طيب وتفتح في القلب فجوة أين منها ثقب الاوزون هذه الخدعة الكونية الكبري التي اسمها الحياة . سيدة مصرية وتخينة طبعا تدفع السرير المتحرك نحو مثواه واغط في أحلام يقظتي التي تركتها عند الباب . لقد غيبت كما لم أكن غائبا مرة وفي عته الحياة ظننت الظنون بوجودي الذي تكشف الآن عن الغياب ، فهل للغائب حقيقة وجود أو حتى افتراض . في المذبح وفي الغياب تبين لى دون أن أعلم أن هذا الوجود الافتراض له زاوية واحدة هي شراهة اللحم أن يأكل ، وأن الانسان فتحات تقع بين مدخل ومخرج . افقت من بنجهم وتحرك في البؤبو وجه جمال القصاص قرصني جوع شديد ولم أهتم بمكالمة عاشور الطويبي الذي وصلت مكالمته من طرابلس ساعة خروجي من العملية الجراحية ، كذا لم أتبين حقيقة وجود خالد الترجمان وابنه عمر ، كنت حقا جائعا ولم أهتم البته بما حصل لي ، فقط الطعام هو حقيقة وجودي وعندى من القوة اللازمة من أجل الحصول عليه . لم يكن ثمة أحد غيري ولم تكن ثمة مكابدة لغير الجوع عقب ما فعله بي شياطين اللحم من جراح وطاقمه ، واذا كنت قبل افكر في ما طلب منى من مبالغ طائلة – طائلة عندى طبعا- فإني هذه الساعة أغفر لهم دمويتهم الملحاحة في استلام المبلغ اللازم من أجل تمزيق احشائي واخراج ما اندس منها وفيها من حصوة .
تقدم الشرطي منى وفتش احشاء ملابسي تحوطا ، تحسس كل ما يغطى جسدي ، أخرج جيوبي واستل كل ما ليس قماشا مربوطا ببعضه ويتلحفني ، في وقفة الخائف تلك وقفت مدهوشا وبي مس وغياب وحاجة تلح بأن أقضيها والشرطي غير المكثرت يقوم بمهمته الروتينية ، ويربط لساني جفاف منبث في الحلق ، وأن كل ما يحدث لا يحدث حين وجدتنى في زنزانة واسعة كما الكون وضيقة كما الوجود واقفا . غابت رغبة قضاء الحاجة برغبة البكاء ، وبين البين والبين تبين أني كما لم أكن ، أو كما لو أنى لم أوجد . كنت خائفا لهذا كنت جائعا ولولو تمنحني في رحلة القطار بين القاهرة و الاسكندرية عصير البرتقال رطب حلقي لم أتبين كم عشقت هذه المرأة التي عرفتها في التو والتي انتشلتني منى ، كما تبينت كم كنت جائعا . درت كما الثور الخائر القوى افتش عن لاشئ كى اسكت عصافير البطن التي صمت آذاني ، أول الحيرة أخر اليقين لقد تقينت من وجودي من صريخ بطنى ، بدأ أن ليس ثمة بدء وأن لا خاتمة ، فكأن الزنزانة الوجود أو ما قبل وما بعد . عربة القطار هي غرفة مشفاي ، أخذت ألعق جراحي لادفن جوعي ، تسارعت نبضات القلب ساعة ارتشفت عصير لولو ساعة فكرت أن أكل ظلى الذى شفته شمس الكوة ؛ الخطوة التي أدفن فيها جوعي في اللامتناهي الذي سربلني في هذه اللحظات حيث لم يغدو للزمن من معنى . ان غرفة النقاهة تعصر روحي كما تعصر بطني جسدي ، ليس ثمة من مأوى لوحيد وان كان في زنزانة أو غرفة نقاهة أو قاطرة تشق الريح ، شعشعت الوحدة في كل الاحوال وامتص خرطومها دماغ الروح . كنت بين يدي الشرطي اتحسس وحدتي ، واتحسسها ولولو تتسرب مع عصير البرتقال في الحلق ، وقد علق في هذا الحلق وجود اصدقائي الذين حاطوا بي والممرضة توقظ يقظتي ، وتزيل أثر البنج مدلكة جبهتي بيديها اللتين لا أتحسس وجودهما وان تحسست الأثر . كنت اهرول في الشارع تائها عن نفسي في محاولة أن اغطى الآلآم بأن أصل إلى أخر قطار ؛ أخر فرصة لى لمغادرة القاهرة صوب الاسكندرية صوب بنغازي صوب بيتي كى أدفن نفسي في قبر الدنيا كما يحب الليبيون أن يكنون بيوتهم ، في الاسكندرية خالد الترجمان ينتظرني كى نسافر ساعة وصولي . وصلت لاهثا كرسي القاطرة وكذا وصلت لولو لم أعرها انتباها ، فقد كنت ألملم جراحي واندلقت على جسدي المنهوك منتهكة نفسي كبلسم ، اجتاحتنى لعثمة كما تدفقت عرقا أغرقني كما أغرق المحيط ، ونبش الجفاف حلقي أما الجوع الذي أخذ يقرصني فقد بدأ لى والخوف يكشر عن أنيابه وكنت أتبين ظله منعكسا على الحائط الذي ينتصب في مواجهتي ، ضاقت الزنزانة ساعة سمعت أقدام الحارس تغادر ، كان وجوده ونس ، انصت لدقات القلب الهلع والدم يتدفق في الاطراف ، كنت كما لم أكن قبل أحترق دائخا وماكينة الجسد تحرق سكرى وتبدد طاقتى ، كأنى ولدت في التو وأن الصرخة العالقة تقطع أوتار الحنجرة . عيناها تنغرسان في عيني وتشفطان الدم أحسست بأن هذا المرض اللعين ضغط الدم يستمد من نظراتها حجة كي يبدد ما تبقي من قواي ، وأن لولو وهي تمنحني نظرتها وبيدها علبة عصير البرتقال تدخل في مواجهة مع ما انتابني من خوف ولهذا قطعت خيوط ترددي بأن دست علبة العصير في يدي . كنت وحيدا في مواجهة جسارتها ، دكني نقال المرضى ؛ سرير بروكست الذي حملنى إلى غرفة العمليات المزدحمة بالجراح ومساعده والطبيب المخدر وطقم الممرضين ، دك النقال في الغرفة الفخ الذي أحاطني ؛ أيدى اخطبوط باردة كيدى ميت كانت يد الطبيب الجراح قد مست جبهتى ووكد ذلك نظرته الزجاجية ، توكدت أن كل طبيب يعانى من الوحدة لأنه عشير الموت ؛ الموت الجائع أبدا . حين سرى البنج هزتنى رعشة وحاجة ملحة للطعام سكنتى كذا همدت جائعا وغاب عنى كل ما كنت أتصور وجوده . تطوحت في الركن منفردا وكذا كانت الزنزانة الهيولى ، ضاق تنفسي فأخذت أشحذ الهواء بكل همة ليست عندى ساعتها ولم يكن بمقدوري التفكير ، في هذه الغياهب لم يغب وعيى وان كنت غائبا في هيولى طلع سديمها كسحب ركامية وغيوم سود تبدد الظلام ما حوطنى ساعة انفردت بى الزنزانة الانفرادية . لم يكن على دراية بما يحدث فان يخترق فتحة قضيبه قضيب بلاستيكي ويمخر قناته ناهشا مثانته فالحالب ، لم يدر بخلده ايما شئ من ذلك حتى ساعة أطلعوه على الحصوة في زجاجة مملؤة بالماء ؛ لم يتبين الخيط الاسود فما بالك بالابيض ، الآما مبرحة اجتاحته في زنزانته ، واعتصر جنبه مخلب حديد أو مشهاب نار أرجعه أنذاك إلى سبل المكان في تكيفه مع واقع الحال ، ثم حذفت ذاكرته ذلك كما حذفت غيره وطيبت من جراح . لقد تعودت أن تنسي ما لا تحب لهذا تسربلت بالنسيان حتى غدوت تنسى ما تحب أيضا . قبض على أول مرة مستسلما لارادة المجهول ، لم أكن أعرف مصيري رغم تيقني من أن التهم التي ستكال لى ملفقة ، محاولا أن أنسى هواجسي باعتبار أن لاخيار فكل ما سوف يحدث سوف يحدث ، لهذا الاعتبار انشغلت بصوت عربة الطعام التي تخترق الكوردورى . كنت مستسلما لقبضة لولو ، ولاشئ يمكن توقعه ساعتها . فكر في الموت كما تفكر الحب لكن الجوع الذي استولى عليه محى مشاعره ، في الزنزانة كان عليه انتظار ما يحدث ولا يحدث متشبتا بأمال يعرف أنها كاذبة ؛ في أن يتبدد الوقت وتفتح مصارع الابواب ثم يعود إلى ما كان عليه في انتظار أن يحدث شيئ ما ، غاب في غيابه لاهيا عنه فليس في هذا المطرح امكانية للتجسد لهذا تبدد جسده كهيولى ، حينها ذهب عنه النعاس لكن دوخة أخذته في مطارح لا كنه لها . وان كانت قاطرة فلم يحس بايما حركة غير حركة شفتي لولو والرعدة التي طوحت جسده بين مخالب هذه القطة الناعمة حتى أنها لاتدرك ، وهي تطير به على بساط مسرودها الذي يأخذه أينما حطت ذاكرتها ، ان الشغف مزق أحشائه لأن تحط به ، أغدقته بها و تدفق موج كلامها يطوح به . وحيدة سعفها انصاته فتسردبت من كل مسامه مدغدغة توقه لأنثي لا يعول على مكان بدونها ، امرأة تشفها مرآة النفس وتجسمها الاحلام ، تصبب عرقه وجف حلقه ولم يتبين وجه لولو وان غرق في عسل عينيها اللتين لم يكن يدرك لونهما. ارتشف من العلبة عصير الروح ، عصير البرتقال الذي ناولته قبل أن ينال منها نظرة وتدفقت عليه كالنيل فك أسره ومزق السد العالى ، هذه الفتاة المصرية لا تعرفها و لا تعرفك ، لكن قبل ذلك هل تعرف من أنت في هذه اللحظة التي تقرأ فيها ما تكتب أو تكتب فيها ما سوف تقرأ . في لحظة كهذه ينتابك الانتحار لا لشئ غير أنك تفتقد المجذاف وان ضاقت الزنزانة فإن هيولها بحر متلاطم الامواج ، لهذا تتعلق بخيط الحلم الواهن وتتبع خيط الحائط الذي يتسلل كلون باهت فيغدو مسربا إلى حيث لا تعرف ، لا تفهم ، فتشتهي أن لاتشتهي شيئا ، في الزنزانة الحرية أن لا تكن لديك رغبة . لم ارغب شفتي لولو اللتين اندستا في وجهي وهي تهمس : ولعة بفيروز وبحزنها الشفيف ، وليس عندي في دنيايا غير صوتها ، في الشقة ما من صورة فما بالك بتلفزيون ، أن تسمع أنت لست وحيدا مخيالك ينهمر ويدر حليب الذاكرة ، الصورة شبح يقطع وصل الوحدة وصب الروح . رسم من خيط الحائط حبل وصل يزحف كخيط عنكبوت يصطاد كل حركة ، فكرة طائشة ، حلم مصروع ، وجع يبعث السكون والجوع سكين الوجع الذي ينخره . تمخط الآمه ونهض مستشفا حركة عربة الطعام ما يلوح عن بعد كخيط ضؤ هو مشنقة لعاشق مصدور بالخيبات وتسكنه الخسارة ، عرف منذ أمد أن العدو لا يخون لكنه لم يعرف البته أن الحبيبة تقطع الانفاس . شهق كالعشاق في مرويات العرب مفتقدا المقدرة على الزفير وقد لمست لولو كتفيه ودست رأسها بينهما منتحبة من أنها ستفقده قبل أن تجده وأن هذا ديدن الحياة معها . لم يكن القطار ساحة الضيق التي التقيا فيها قد قطع نصف المسافة بعد بين القاهرة والاسكندرية لما سمع نبؤتها ، لما أحس البوم يلقمه شؤمه . كن رجلا قال هانى الكيخيا وهو يودعه في عتبة غرفة العمليات ، مت واقفا – قال جمال القصاص – وأنت مربوط على السرير . تبعثر الكلام وتقطعت أوصاله فالفشل الكلوي كخيبة العاشق كلاهما بحاجة لعملية اصطناعية ، دخلت غرفة العمليات مبهوتا ومتلهفا لاستسلام محارب لم يبق من سلاحه غير نظراته . كنت باعتبارى كاتب قد خسرت النظر منذ أمد دون نظارات لهذا كنت في ساحة السجن أعمى بعد أن سحبت نظاراتي منى ، كتمت زائيري وقد ضرب الحارس يدي والصحن الذي في يدي الممدودة ليده الممسكة بمغرف الطعام ، رغم معرفتي بان السجن كاف كسبب للاهانة والضرب ، لكن المعرفة لا تكفي للقبول بالاهانة ، قفل الحارس الزنزانة دون أن أخذ الطعام فيما اطفئت الاهانة مكلبة البطن وهدئت من جزع . قص وحدته بمقص الكلام وشجذب شجر الكلام بالغناء اصطف الـ دو رى مى في صا ، العصافير على كوة الزنزانة ورددت الاركان ما سمعت : كيف الراى يا ريم الجليبة .. الخفة عيب والحبسة مصيبة ، سكنت شرايينه منصته . فيما بعد حين حكم عليه بالاعدام وخفف للمؤبد شارك في الزنزانة زملأ له في الكتابة ، من زملائه كاتب قصة ينسج القص من الشريان في ليلة قطع هذا الزميل القاص شريانه معللا ذلك بان شرايينه فسدت وأخذت تنبح بدلا أن تسرد : حين تروى القصص ، لا تنتبه النباتات إلى نموها والطيور تنسى أن تطعم صغارها ، لم يكن صديقي القاص الذي قطع شريانه يعرف هذه القولة الهندية الحمراء ، لكنه كقاص فهم أن الدم الحكاية وأن الشريان الحاكى . حبست أنفاسي لولو بحكيها وشدتني اليها بتفاصيل حكايتها وتغلغل لسانها كسكين ، الرقة جرحتنى فعويت وقد أخذتني من فمي لولو كمشة الانوثة كيف تسنى لها ذلك : أن تسكرني بحكيها : أن أذوب في علبة عصير البرتقال الذي منحتنى دون سابق معرفة : أنها في اللقاء الاول تسلبني الريبة ؛ خجلى ، الخوف ، توجسي من أقتحم ايما امرأة ، الاحساس بأنى مرفوض من النساء جملة . لعقت ما انسكب من العلبة من عصير ، وكانت برودة انبثت في اوصالى وجوع يخلبنى كأن لم أكن قبل ، لسانها يخرج ويدخل فمها اثر كل لعقة وحلقي يجف . جف دمي بعيد أن دلفت لغرفة العمليات وبهر الضؤ عيوني ، كشفات صبت نورها على جسدي المسجى كنت احرك رموشي خائفا من لا شئ . لم يكن لى غير أن أنسج قصة وكل سارد ينسج في حكيه قصة عشق ، مفرد كنت ، كل مفرد تزاوجه مفردة لتسرد قصة كذا حدث السجين وكذا قال محدثا نفسه أو مفترضا متلق . احتار في البداية ، لم يكن يعرف المبتدأ فصاغ الخبر أن بورتا بينتو السجن ، ما بني بين الحربين العالميتين في العهد الايطالي ببلاده ، هو مرقده الآن ، كما ضم فيما مضى بعض مما يحتفل اليوم بنضالهم ضد المستعمر الايطالي ، وأن هذا السجن حين بني في الثلاثينات من القرن العشرين كان يقع في أطراف المدينة ، يقع الآن في وسطها . هذه الفكرة دغدغت مشاعره وأخرجته مفردا بصيغة الجمع كذا تأولى وضع المبتدأ فيما حكاه لنفسه ، منصتا لأنفاسه ككاتب شفاهي ينقر الفراغ ليملأ الكلمات المتقاطعة خائفا من خوفه ، وكخواف خائفا من حارسه . لهذا انطفاءت مشاعره وقرص الجوع ما بين فخذيه ، انتصب يتحسس نعومة الحوائط ملامسا الهواء الخاثر ، ورائحة دمه المحروق تمتزج بالعرق السائل المندس بين جسده العاري والثياب التي تمسك به ، لم يكن في حلم كما لم يكن في يقظة فتشبت بما تبقي له من قوة مطلقا حسرة على شكل صرخة مكتومة . بين اليقظة والنعاس تخثر الوقت كما تميعت صورة الممرضة الجميلة وهي تدلكه وتعده للتخدير ، مع تلاشي صوت الطبيب تلاشت قواي . خدر لذيذ طازج ذاب في ريقي ، مع أول رشفة من عصير البرتقال انسكبت في حلقي ، مع أول رنة من صوت لولو انسلت من حنجرتها وتخللت شرياني : الرجل الذي أحببت كان طبيبا ويكبرني بأكثر من عقد ولم أشف منه رغم أن علاقتي به تقطعت منذ أمد ؛ السكرى الذى علق بي من أثر هاتيك العلاقة يشدنى اليه وأن تحب طبيبا أن يتمارى الموت في عينيك ، لهذا سكنني مع المرض الذى يسكننى فهل أنت الشافي ؛ أحتاج لأبرة انسولين مرتين في اليوم . كنت بحاجة لملقى لولو لقاء العابرين هذا حرك أحشائي وبدأ أنى أريد أن أبتلعها ، منذ ذاك ، منذ حية الاسطورة الاولى تسكننا تلكم الحية وليس تهكما أو مصادفة هذا التقارب في لغة العرب بين الحية والحياة و لا بيني وبين لولو ، هذا التداخل وهذا الجوع في كلينا لكلينا . لم يكن في الزنزانة الانفرادية غيرى والوقت الذي يتجسم بين فترة طعام وأخرى ولم يكن لخيوط الشمس التي تدليها من الكوة تأويلا أبعد من الضؤ الذي يشدد الظلال ، لم يكن في الجب غيري كى يتأول اللاموجود بالموجود ففي هذه الهيولي لم يكن ثمة وجود . وحدى تحوطنى عصبة موحدة الملابس والاقنعة وفي الايدي ما يقص وما يمزق وما يفك وما يخترق ، داهمتني أفكار وهاجس أن تكون هذه المرة رحلة دون اياب ، تمترست خلف نظرات بلهاء ألقيتها في فضاء لم ألتقيه قبل هذه . عنوة أخذت أبحث عن ما لا أعرف ، واسبح في المجهول ، وكنت أرصد هذا العبث الذي يكتم الانفاس ، فلم أكن عند هذه الايدي التي تقلبني سوى حالة ، أرصد في عيني مساعد الدكتور ؛ صرافا مرابيا ، فصاحة الجريمة والعقاب ، ربطت بعناية فائقة وخيل لى أن أمرا مدبرا مجئ إلى هنا فثمة عناية مفارقة دبرت حشوى بهذه الحصوة وأن أهدد بفشل كلوى ، ان هذا العبث قد خطط له مدبر في قبضته يمسك بمصيري . شد قيدى ودفعت نحو زنزانة السيارة التي تضيق بجسدى واقفا فما بالك لو خطر خاطر في القعود ، مكبل اليدين والعينين جرجرت مكتوم الانفاس ، كل شئ مرتب سئلت عن ما أقرأ ولمن ومن أعرف ، من هم أقاربي ، وضعي الطبقي ، ثم أمرت أن أقدم اعترافا بانى أنتمي لتنظيم ماركسي لينيني يهدف للمساس بالنظام وسلامة المجتمع ، وأن هذا التنظيم يتكون من الاسماء التالية ، وقدمت لى قائمة تتكون من اثنى عشر شخصا أعرف بعضهم و لا أعرف الاخرين . دهشت ودهستنى فكرة الرقم 12 ، بدأ وكأن كل شئ عادى ويمكن القبول به افتراضا على الاقل ، لكن لماذا هذا الرقم التاريخي ، كأن كل متهم هو المسيح وأن حواريه اثنى عشر ، قهقهت كثيرا في السر والخاطر وقد رأيت الصليب يصنع في بيت النجار يوسف . تهكمت مما يدور في رأسي ومرة ثانية لا يجب أن ننسى أن هذا التهكم هو أيضا دار في السر بيني وبين نفسي ، وان كنت الآن أبوح بما جال في خاطرى فلا يعنى هذا زوال الخوف والتوجس ، بل عدم المقدرة على الامساك بالبول الذي كأنه أخذ يتسرب متسللا ودون أن أحس به حتى . كنت مشغولا بفكرة النبيذ والخبز وقد اختلست النظر نحو المحقق الذي يأكلنى بنظاراته ملتهما الخبز متجرعا الشاهي ، في تلك الحالة لم يكن ثمة شيئ واقعي حقيقي غير جوعى وشبع هذا الكائن الذي يأكل قبالتي ، لم يحدث ما حدث إلا عند اعادتي للزنزانة ، وقد افقت من الرعب وأعدت ترتيب الأمر في محاولة للتخلص من أنياب الجوع التي نشبت في جلدى الداخلى ، أخذت أعوئي ولم اتبين ان كان ذلك يحدث حقا أو أنه كابوس . دخل الدكتور الجراح الذي لم أره غير مرة ، صمت المكان ووجدت نظراتي مركزا ، داهمني الدكتور المخدر ، امسك بفكي بين يديه ووضعت الممرضة قناعا على وجهي ، دخلت في سكر وتعته ؛ في يمينى نهر من خمر في يساري نهر من لبن لهذا لم أجد مفراَ من أن تكون الميزة لبنا ، مّرة كانت الخمرة فتلعثمت من اعياء ورغبة القيء . تناهى إلى ذهنه : هذه الحالة رقم 12 قال الدكتور . كنت أسير على صراط بين الخمر واللبن حين اجتاحتنى نيران لم أتبين مصدرها ، سعى أن يذهب إلى أبعد ما يمكن وانتظر .. كانت لولو تسعى في ردن الكلام وتلتهم أذني وتنبش القلب كسهم يطير ومع ذلك يبقي ساكنا ، تطوحت في الركن أتحسس خيبات في شكل كدمات وظلال القضبان تشتد مع ضؤ الشمس الذي يشوى الوقت بهدؤ ، شممت احتراق وغمرت رائحتي أنفي لذا تنبهت لصوت عربة الطعام وتوكدت من أنى لم أكل نفسي . منذ أيام لم تفتح الكوة لغير صحن الطعام ، منذ أيام لم أستطعم شيئا غير هذا التشوش الذي هو في طعم الوحشة وعلى اللسان نبت شوك الخرس ، وكما اغلقت الزنزانة اثقلت النفس بقفل خرافي ، لكي يفتح الحارس كوة الزنزانة عليه فتح سبع أقفال لم أكن أعرف و لا فكرت في ذلك البته : 7 ؛ هذا الرقم السحري الذي يذكر بألف ليلة وليلة . لقد تشبت بالموت المخلص وقد صلبت في غرفة شرر يتقد من عيونها الزجاجية ، مخالبها الحديدية تملأ كل الزوايا ، وأشباح البياض تأسرني . طلب الطبيب سكوني لما لم يكن لى حيلة غرس الحجر الصلب أظافره الطويلة في أحشائي ، والمغيث يمزقني كان الموت المخلص ومن هذا المخلص أستشف وجوه الحبيبات ، الاصدقاء ، أمى ترفرف منديل الوداع ، والطفولة تدغدغ اللحظة ، لن نقوم بعملية جراحية ، لن يكون ثمة دم بالمرة ، نمرر من فتحة القضيب انبوب في رأسه مشبك ينغرس قابضا على الحصاية يقتلعها ويسحبها ، لن يكون هناك ألم . عندما يكون الموت المخلص لا يكون ثمة ألم ، ثمة وجه امرأة تحبها كنت قد اخفيته عن نفسك ينبثق تأسف لذلك ، لكن هذا البزوغ حسام يقطع توترك ويوقظ شهوة الموت ؛ موت محارب قاتل حتى أخر سهم في جعبته يرفض الأسر . تواترت الاسئلة في زاوية ظلت يقظة فيه رغم الوهن والنعاس الذي يخيم على يومه ، يستيقظ ساعة ينصت لحركة عربة الطعام ، يدب في الاركان ، يجره جسده ، يخيط الامتار القليلة التي تضمه ، في المترين يتمشي لساعات ، ماراثون كل يوم : أن يغط في النوم أكثر الوقت ، أن يتمشى أكثر الوقت ، أن لا يستيقظ البته .
الأثنين 1 – 1 – 1979 م ..
هل ولد المسيح حقا ؟ أم أنه القبر الذي افتتح في مهرجان سمى العام الجديد ؟ في الشقة المقابلة للشقة التي أسكن فتاة شيوعية أقصد من دولة شيوعية ، أعتقد أنها بلغاريا .
أشاهد الآن الساعة تقترب من منتصف الليل ، أردافها تهتز فيهتز العالم . وانى أعتقد أن العالم محموم وحبل بزلزال المناجم . وفي هذه الساعة هناك من انتهي من حسابات المؤسسات واندلف لأول مأخور ، يحتفل بفتح حساب عام جديد . أتسأل في اضطراب لماذا ترقص هذه الفتاة ؟ هل ترقص لميلاد المسيح أم لموته ؟ . واجيب ” ملعون من لم يرقص في حضرة أنثى ” .. واللعنة على .
طوال اليوم لم أفطن أنها ليلة رأس السنة أو ذيلها ، لم أفطن البته ، كنت محاصرا ، محاصرا بشبكة عنكبوت ، منتظرا انقضاض العنكبوت ، الانقضاض على جسدي المترهل .
أظن أن القلق والخوف هما اللذان يشدانى ، درت طوال اليوم في شوارع طرابلس ، في الأخير اندلفت لمطعم ، في نفس الوقت الذي فيه صديقي محمد الترهوني في شقتي يتمتع بحوار حار وحميم مع جسد نجاة زميلتي التي كانت معجبة بى وخيبت ظنها . في هذه اللحظة بالذات والشبكة تضيق من حولى يفتح صديقي هذا علم الجسد البشري ، ويتفتق جسده على فكرة الحياة العظيمة ؛ الأنوثة .
أن أكتب على الحائط لا شئ بالمسمار الذي لقيته في الزنزانة ، وأن أتذكر في كل مرة المفاجاءة ؛ رميت في الداخل لقيت سريرا مرتبا احترت في نظافته ، لقد كنت أسكن شقة تحت شقة اذاعة القرآن في شارع طارق ابن زياد خلف جامع بورقيبة في مدينة طرابلس وأنام على فراش على الارض مباشرة ولم يرتب مرة . دنوت متوجسا تحسست الفراش والغطاء الأكثر بياضا من فعل تايد صابون المعجزات ، غمرت بعطر نفاذ فلم التفت لغير السرير ، الحيرة زادت في ارباكى لم أتعجل حل عقدة القصة ، لذا تشابكت خيوط مخيالى وتخللت كل الرغبات هذا المخيال . لم تكن لولو على عجل في سردها لحكايتها وان كان القطار على عجل في قطع المسافة بين محطة المغادرة ومحطة الاياب ، لم انصت لها مأخوذا بها ، متنصتا للفراغ بين مفردة ومفردة تنبجس من بين شفتيها اللتين بدأ لى ورقتى توت ولم أكن شاهدت ورق التوت في حياتي ، غرقت في عرقي وجفاف حلقي .. ولولو ليست على عجل . بدأت أعد الايام بأن أسجلها على الحائط ، أخط رقم اليوم عقب تنبهي لقرقعة عربة الطعام ، وأجد اليوم السادس يعقبه اليوم السابع على عجل أنقر في الفراغ الذي ينقرني ، الزمن كائن عجول واذا ما تشابه الوقت فإنك لن تتبينه ، الحيت كثيرا أن يغادرني الوقت على عجل وعلى عجل حصلت على مرامى ، لم يكن ما سوف يحدث دون أن أتبينه يحدث فقط ولكن أيضا ما حدث كما لم يحدث . تمشيت هذا اليوم كثيرا بسبب تأخر مجئ عربة الطعام ولم يكن ثمة حس أو خبر ، لا شئ يحدث و لا أحد يجئ ، لذلك تطوحت على السرير منهكا ونمت حتى أنى لم أسمع مجئ صوت العربة ثم مجئ العربة حتى صراخ الحارس الذي فتح الباب لأول مرة منذ وقت طال . رمى بصحن المكرونة الجافة على الأرض ولم تندلق المكرونة البلاستيك ، حينها تحركت ، ملسوعا تراجع الحارس وأغلق بيني وبينه الباب موبخا لعنا اليوم الذي أنجبته فيه أمه حتى يعمل في هذه المهنة القذرة ، تحركت والتقطت الصحن لكن المكرونة اندلقت على الارض ، تركتها شاتما اليوم الذي ولدت فيه ، شاتما أبي ثم أمي ، ولم يكن ثمة مرآة لهذا تفيت على الحائط الذى قبالتي وعدت للنوم . حقق المحقق كما يحلو له ؛ أخرج كلاليبه واستل لساني ، اندلقت كبرميل مخروم ، برميل لم يفتح مرة لهذا تعفنت محتوياته ، كلام مخضر مقزز وأحمر متجلط ، جمل متقيحة ، مفردات مصفرة ومتغضنة ، فاحت لغة كنيف . هذا الفاه يتحرك فكه السفلى لينطبق على العلوى ساعة يدلق فيه ما يمضغ ، ولما كان أول الممنوعات استعمال فرشة ومعجون الاسنان فقد تعفن فمي وكلما فتحته أغلق أنفي . اعترفت بما يريد بما لا أعرف ، أسست قبالته تنظيما سياسيا محكما ونصبت نفسي المسئول في لجنته المركزية على الفكر والثقافة ، بذا فإن كل الكتب التي ضبطت عند الزملا هي من قبلى بما فيها كتب لعبة الشطرنج وكيف تحضر الارواح بالسلة والجن الاحمر وألف ليلة وليلة سوداء ، وكذا الجرائد التي تصدرها الدولة والتي صودرت وجوازات السفر والبطاقات الشخصية ثم وقعت على هذا الاعتراف الذي استغرقت كتابته أكثر من خمس ساعات ، وقد كنت خبيرا في الاستجواب بحكم المهنة كصحفي لذا أطلت الجلسة كى أستعمل فمي في غير الأكل . لم يكن لى لسان لقد أكلته وجعلته لولو أذن ثالثة حين باغتتنى : هل أحببت ؟ سبحت في جب غميق ، عنها ذهلت ، تصببت عرقا وعلق لسانى الذي أكلته ، مددت يدي تحسست وجودى من خلال ملمس جسدها الطازج ، يداها قطعة جيلاتى ساخنة ذابتا بين يدى ، .. أحببت ؟ كانت زوجة أو أم أولاد ؛ بيضاء أسنان مشط روبة لبن لحسة قشطة زبدة مخيلتي التي أمخضها كل ليلة وألحس مخيلة السمن والعسل هذه ؛ أو عذراء هندية زبدة كاكاو لم أشهده في غير السينما وحلوى حليب ممزوجة باللبن ، في شراسة النمرة الجائعة تلتهم صغارها وبضراوة تنقض على ذاكرتي تنهشها نهشا وتتخبط في شراكها محمومة ، تموج الذاكرة بلهاثها وبحة الصوت لهذه الحنجرة الرخيمة التي تندس في المسام تتجسد كامرأة وحشية تمزق مشهدى : هذا ما يحدث للروح حين تكون وحيدة : نطع كلبة جميلة ساقاها وتدا جسدى المتداعى ومفتاحى نائم عنها . خيل لى أنى سردت خيط حياتي وأن لولو سلت لساني وأنى كما قميص بنلوب فككت وأنها تعيد نسج هذا القميص : لماذا حين نحب نفقد القدرة على الكلام ؛ نبوح بكل شئ ؟ تحسست لولو ما قلت كما لم ينفك لسانى بعثرتنى وأعادت صياغتى ، أمسكت بكفي وقرأتني . أهذي راقدا على السرير عاريا ؛ قميص العملية انفك عنى ، أحس هذا العرى و لا أفقه شيئا مما أقول ، أخرجت من غرفة العمليات واليقظة تسري في جسدي ، فكت عقدة اللسان كما فك القميص ، فك الكلابش أمر وكيل النيابة الحارس الذي تسلمنى عهدة من مدير السجن . .. أحببت ؟ سأعترف ، كنت خائفا من البوح ، خائفا من النتيجة ، لم أكن مقدرا نتائج اعترافي ، أقول أموت لا أقول أموت ، انى جوعان انى خائف انى أغرق أغرق ترر تررم : الموج الأسود في عينيها يجذبني نحو الأعماق .. تشي فاتشي يادراقة مر البحر لزرق على مذاقه ، دو رى سى مى فا ، العصافير على كوة الزنزانة رددت ما سمعت وما لم أسمع : اتصل بك فرج الترهوني من بنغازي يطمئن على صحتك وخالد الترجمان في طريقه من الاسكندرية إلى هنا . لا شئ يستحق العناء غير أن تحب قالت لولو وكان القطار يقطع الليل ويطوى جسدينا ، لم أر مرة وحيدا مغمورا بالمحبة قلت ، الوحدة تشفنا إنها ماء منه كنا ونكون قالت لولو أنت لست حقيقة قلت وصلنا قالت لولو . لما قالت لم يكن ثمة وقت ذاب الزمن كما تلاشى المكان أو كما الزنزانة هيولى لم أكن أحس مكمن الداء وان كنت أتوجع ويشدنى قئ حتى الغياب وغياب الاصدقاء ، لولو عاشت حياتها وحيدة منذ سنوات طوال ، عقد وأكثر من عقد ترتع في وحدتها لم يدخل بيتها أحد كما لم تدخل غير بيتها ومحل شغلها ومملؤة بالحكى حتى أثملتنى فصاحة مسرودها . غصت الزنزانة بالاحداث حتى خلت أنها مسكونة وأن بي مس ، كنت أفيق في الصباح أحيانا حتى لا يفوتني قطار الشمس وعربات خيوطها الذهبية وأرقب هذه عربة عربة ومن عقب السيجارة أتخذ قلما على الحيطان أدون يومياتي : هذا الصباح لم يكن كالصباحات السابقة ، كأن لا صبح سواك ، كأن شربنا على روض الربيع المهفهف / فجاد لنا الساقي بصهباء قرقف / فلما شربناها ودب دبيبها / إلى موضع الأسرار قلت لها قفي / مخافة أن يسطو على شعاعها / فيظهر جلاسي على سري الخفي كأن قال السهروردي .
الثلاثاء 2 يناير 1979م …
الساعة الآن الثانية عشر ظهرا هكذا أوحت لى الشمس وضجيج الشارع ، وأنا أفقت في التو ولم أعرف الوقت بالضبط لأني لم أحمل ساعة في حياتي ، لماذا والعمر ثانية . كان محمد الترهوني قد غادر الشقة منذ قليل ، وكنت وحدى . اتجهت نحو النافذة ، نظرت إلى الأفق والبحر ، فكرت لو أني على الشاطئ الآخر ، لو أني أستطيع أن أسير على الماء مئة ميل فقط فإن ” فاليتا ” الآن هي الحرية والحضارة والحياة ، انها الفردوس . لكن جارتي البلغارية ، كما أعتقد ، أطلت من النافذة المقابلة لشقتي فسرقني جسدها الفاره بمدفعيها المصوبين من صدرها نعو عيني ، وسرعان ما انفلتت إلى الداخل وتركتني لمستنقع نفسي . قفلت النافذة وجلست أكتب أو أكمل أو أفرغ من الشريط بقية الموضوع : رحلة ” الهجرة إلى الجنوب ” الذي على أن أسلمه للجريدة هذا اليوم لأنه سينشر في العدد القادم . تحرك الشريط ، كان مجاهد ليبي يتحدث عن ذكرياته أيام الحرب مع الايطاليين حيث سجن في ” بورتا بينتو ” الذي سمى الآن ” الحصان الأسود ” ، وكيف خلصته من هذا الجحيم زوجة ” القبطان ” مدير السجن حين عشقته فحولته من سجين لخادم لها ، ثم أطلقت سراحه بعد أن حلمت بأن عصفورها الذي يوجد في قفص في غرفتها قد طار ، وان زوجها وضعها في مكانه ، فسرت الحلم فاطلقت العصفور العشيق . في هذه اللحظة رن جرس الباب دون تفكير قلت هذا صديقي محمد ، فتحت الباب كان هناك رجلان : الاستاذ أحمد الفيتوري ؟ – نعم تفضلوا ! دخلا معى حتى الغرفة التي كنت جالسا فيها ، هنالك عدت ببلاهة لجلستي على الأرض حيث كنت أكتب . وقفا الرجلان كانا متأنقين ويوحيا بأنهما صديقان أو على الأقل أصدقاء صديق . كان صاحب الشنب مرتبكا فيما الأخر عاديا حد البلاهة . قال الأبله : استاذ أحمد البس ملابسك نحن في حاجة اليك لمدة خمس دقائق . هكذا بدأت رحلة الدقائق الخمس ، كانت هناك سيارة بيجو 404 تنتظرنا في شارع طارق بن زياد وهي سيارة ” تعبانة ” توحى بان صاحبها مفلس لا يستطيع حتى شراء طعامها ما بالك بإصلاحها ! . ركبت وكان السائق شابا ضخم الجثة لكنه خفيف الظل سرعان ما دخل نفسي . وإذا كنت لم أفكر فيمن يكونوا فذلك ليقيني بأنهم رجال مباحث ، عرفت بسرعة إلى أين المسير ، في الطريق بدأ حديث ممزق : لا بأس ؟ ، قلت الله لا يوريك باس ، كنت في الصحراء ؟ أجبت ايه ، في رحلة صحفية لمدة شهر ومسافة ألفين كم ، قرأت رحلة ” الهجرة إلى الجنوب ” ، وبالذات أعجبني التحقيق مع الشاب المخترع الذي يقيم في واحة ” مدوين ” وحيدا ، هل حقا بها مئة ألف نخلة ؟ ، أجبت أقل من ذلك بكثير ويسكنها اثنان الشاب المخترع وعمره حوالى ثمانية وعشرين عاما وعجوز عمره ثمانية وسبعين عاما ، وتتوفر على ماء جم . سألني السائق عن زميلي الشاعر جيلاني طريبشان وهل اسمه حركى ؟ ضحكت مؤكدا أن هذا اسمه وأنه رجباني من الجبل الغربي اسما وجسدا . ثم قال انه يعرف زميلي رضوان بوشويشة ، استغربت ملاحظاته مخمنا أن جريدة الأسبوع الثقافي وجريدة الاسبوع السياسي مطلوبتان عند المباحث ، وأن هنالك أمر بتوقيفهما ، ويتمثل التوقيف هذه المرة ليس بمصادرة عدد منها بل في اعتقال المحررين أنفسهم .
أمسك بعقب السيجارة ، وأدون ولكن كيف لى بسيجارة حيث منعت من نظاراتي ؟ ، عقب اعتقالي بأشهر طلبني سجاني أمرا بالخروج بعد أن فتح الباب فظننت شرا كأن أعذب وأن يأخذني للتحقيق ، تساوى الأمر وبدد الخوف المتراكم في قوة أن أعد وأحسب ، تجهزت خوفا وجوعا لمأدبة السجن أثثت نفسي لملقاة كل ما لا أحسب وما يعد لى ، لهذا ركبت رأسي ووطنت فرسي على أن لا ترقب وأن لا شئ يحدث وأن لا أحد يجئ ، اقتادني الحارس لمكتب مدير السجن . حينها دبت اليقظة فيه ومن خلف ستر عتمة البنج على عينيه تبين أول ما تبين صديقه هانى الكيخيا يجلس على الكرسي في مواجهته ، هل يقاضيني ، هل في داخله قاضي مدفون خلف روب المحامي الذي يلبسه كشغل والسلام ؟ ، كان يرقب المشهد وهو في حالة عزلة عما يحيطه ؛ المخدر يجعل حسه مشوش ازاء هذا الصديق الزائر والذي كأنه في عزلة . تمنى لو ينبس بالجملة التي خطرت بباله وكأنها منقوشة على جبهة هاني : ان بعض الناس يطلب العزلة بالهرب من المريض ، والبعض الآخر يطلبها بالوقوف أمامه . أمامه وجد أبيه وفي غرفة مدير السجن وجد نفسه ، انسحب المدير النقيب على الرياني ؛ هذا المدير الذي لن يقابل شبيها له ، والذي يعامل السجين باحترام غير معهود عند أي مدير حتى خارج السجن . انسحب على الرياني تاركا ساحة الغرفة للقاء الأبن السجين بأبيه الزائر الذي حصل دون غيره على اذن بالزيارة بعد أن قيل له أن ابنه قد أعدم ، أبي ذو النظرات الثاقبة التي أخذت تتحسس جسدى وتتفقده لم يكتف بذلك فقبض على كتفي بين يديه وهزني بشدة ، ذهلت لما نظرت لعينيه وبرق ضؤ منهما كأن دمعة حبست في مآقيه ، خيم الصمت كما هو معتاد في لقاء كهذا . أشعل الأب سيجارة فايشروى ثم قدم لأبنه سيجارة وباليد الأخرى أشعل قداحته الرونسون ، ذهل الأبن وجال في نفسه سؤال عن هدف أبيه ؛ هو يعرف أن الأبن يجب أن لا يدخن أمام أبيه مهما كبر ومهما كبرت همومه . متلعثما قلت : ولكنى لا أدخن أكد الأب على ذلك ولكن في نفس الوقت أصر على ابنه أن يدخن ، لهذا وتحت الحاح الأب وضع السيجارة في فمه وأخذ نفس من السيجارة ودون أن يتجاوز حلقه نفث الدخان ، ولأنه لم يدخن قبل ولم يكمد دخان السيجارة شرق بالدخان كاحا الكحة تلو الكحة ، غص بالدخان كامدا غصة أخرى كادت تصرعه ، وبهذه الطريقة سوف يتعلم التدخين . قدم لى أبي أول سيجارة ثم سلمني خرطوشة فايشروي وهو ينصحني بالتدخين ملحا على ذلك وعلى أن اوزع بعضا منه على زملائي ان أمكن . في سحبة الدخان الأولى تكونت وجوه وتشكلت أحلام ، امرأة في ليونة الدبة القطبية الشرهة ، تخطر فينحلب عسل روحى ، ثلج وشلالات نياجرا وهذه امرأة البياض تمسك ريشة وتشكلني فأبدو طائرا ، ثم على نطع في غرفتها الضيقة تحطنى جروا صغير ، تسند سقف الغرفة بساقها الأمرد البربري ، تنسل من خلال نافذة الاحلام تنخل في طريقها رمال صحراء النفس البهيمية تجمع عظامي تغنى فتكتسى الروح باللحم ، وفي خفة الدبة البيضاء تلسعني في ثدي الأيسر . لم أفق من حمة داهمتني من أثر تعرضي للبرد ؛ تمشيت أكثر من ساعتين ثم وقفت قبالة كوة الزنزانة أطارد السحب وأشم طلق السماء التي انهمرت مطرا فسيولا ، وأوجعتني قرصات ريح باردة لاسعة اخترقت قضبان الكوة كسهام مرسلة مع زمجرة اله شتوي غاضب ، وتساقط التبروري حتى مس قضبان الكوة ، ابيض كل شئ ، أخذت أعوى . لحفت بالبياض وسلمت لملاك الموت الذي كان صديقي من سوف ينتزعني من فم ذئب المرض . نظر الطبيب لى من تحت نظاراته : أنت جربت العلاج بالليزر ولم تتحطم الحصوة ، لم يكن من الممكن التوكد إذا ما كان هذا سؤال أم مجرد اقرار حالة مما اطلع عليه في التقرير الطبي الذي جلبته معى . لطخ الورقة البيضاء التي أمامه بخربشات طبيب ، وسلم هذه الورقة إلى الممرضة التي أمسكت بالخيط المربوط بينى والورقة وجرتنى ، في الخارج سلمتنى للطبيب المساعد ، على عجل سجل أرقاما وسلمنى الورقة البيضاء التي اسودت في عيني . ضاق كل شئ فخنقني خيط المرض الذي يجرجرني من بنغازي حتى طرابلس فعمان فالقاهرة . دون جدوى ، أخذت ، أعوى ، مسحت لولو بكفها العرق ما تكاثف على جبهتى من ساعة اندلقت في عيني ، وخضت حليب الركب حتى تزبد دمي من هذا الحضور البهى الفجأة لأمرأة هذه السفرة ؛ خضتني هذه المائدة المتحفة ، هذا المنَ والسلوى بعد متاهة لبستنى من خوف وجوع . طاردت في خيط الدخان جوعي ، كانت تقف عن قرب في الجانب الأيسر مهرة بدوية بهية الطلعة كأنها في انتظاري ، مع خيط الدخان تشكل أطفال يحوطونها وأردافها تكتم أنفاسي ، مددت يدى أمسك بنهدها شخب حليبها ما طيره الهواء البارد ما صفعني على وجهي ، حينها ردت القضبان يدى رفقة وجع سيرافقني ما عشت . كان أبي على حق فلقد تعلمت التدخين غب عودتى للزنزانة ، أخذت أطارد خيوطه ومن فحمه : كتبنا ويا ما كتبنا .. من هذا أيضا طفت فيروز على سطح الذاكرة التي سالت في حلم يقظة طويل لم يقطعه إلا صرير عجلات عربة الطعام . هدنى شبع بعد أن هدني الجوع ، فقليل من الطعام مثل كثير عند تكون جوعان ، قليل من غطاء دفء كثير حين تكون بردان والنوم القليل كثير حين تكون خائف قالت الزنزانة : يا نعيمة .. يا نعيمة .. يا نعيمة كل عصر يزلزل أركان نومى جهر ؛ أذان يكبر بالهة امرأة وقد مرت أزمان على تأنيث المعبود وتوكد الذكر المعبود الأوحد . تردد الزنازين هذا النداء الوجيع ما يطلقه جارى على جنب من لم أر وجهه مرة ، كل عصر يفك أواصر النوم ويطلقني في فيافي اليقظة . كل شئ مباح للطبيب المعالج لهذا يعبث بجسدي ، يتسردب من قناة القضيب ليقلع ما تحجر في الكلية ثم سقط واندس في الحالب ، كنت كتيس حليبه دم ومال وكان الطبيب المعالج شايلوك شهير البندقية التاجر . عصرني صل دس في اللحم حتى طلع الصبح على غير موعده ، ولهاثي تردد القاطرة صداه ، والألم صديد مسحته بمسرودها لولو من اندست في الكرسي المجانب ولم ألحظ وجهها . هذه الكمشة التي ستندس في مسرودى وهي بعد قليل ستترك القاطرة وجهة مدينة برج العرب فيما وجهتى مدينة بنغازي ، تلقمنى علبة عصير البرتقال تلو العلبة ما تحب أن تشرب ويسدها عنه طبيب السكرى ، تسكرني برتقالا فتلزمنى تعتعة تضحكها ، تطوحها ضحكة وتطوحنى تعتعة ، تنسكب في كترى فارشفها وأغرق في عرقي كأن لم أحادث امرأة مرة ، حبل من مسد يشدنى اليها وعنها وجل وجوع . ما اعترفت به وما أقره المحقق وختمته بالتوقيع لم يكفين مغبة أن يعاود الكرة فاستدعا ، مرة للتحقق بعد مطابقة ما أدليت به مع ما أدلى به زميل ، مرة – كما أقدر – ليثبت المحقق لرؤساه جدارته ، مرة – أيضا كما قدرت حينها – ليتسلى ، ولهذا استدعانى مرة في شهر رمضان قبل الافطار بساعتين ففطرت في الطريق إلى السجن والحارس من صحبنى يصب لعناته ، التي اختلطت باذآن المغرب ، لى ولأمى النحس من ولدت مثلى ولليوم المشؤم ما خدم فيه مهنة كهذه . عددت المكان ، عددت زليز الزنزانة كما عددت زليز غرفة النقاهة ، لم أحسب الوقت ، تبدد في المكان وبلعته الحالة ، القطار يشق الظلام ولم أكن ولولو في مكان عددت النمش في عنق لولو . هذا السجن بناه موسوليني في غابر الأيام في باب بن غشير ، ثمة نبع ماء معدني يعباء مائه ، منذ ذاك ، في زجاجات تسمى ” مياه بن غشير ” ، قرية النبع هذه قرية بن غشير ما يقع السجن على بابها في سور مدينة اطرابلس ، هذا السور بناه جيش ايطاليا لحماية المدينة من هجمات المجاهدين الليبيين ، من كوة الزنزانة في هذا السجن تطل المدينة ، وفي مدخله تمثال حصان أبيض جعل للسجن اسم عرف به : الحصان الأبيض ، لكن هذا الحصان في ايام ما أودعت فيه السجن زوق بالأسود فكان لا بد أن يدعى : الحصان الأسود ولم أكن أحب الأحصنة ، و لا اللون الأسود وبالتأكيد اللون الأبيض . لحفت في مطلع العمر بالبياض وسلمت لملاك الموت الذي كان صديقي من سوف ينتزعني من فم ذئب المرض ، كنت أصغر حجما ومقدرة على مصارعته ، ولدت ناقصا ابنا لأشهر سبع أو كما يقال لم أنضج في بطن أمى ، كان لا بد أن أدفع ثمن العجالة كما لم أصرخ عند الولادة مثلما هو معتاد مما لزم أن أصفع ؛ دكت الحصبة جسدى المتداعى فوجلت أمى ، حصنتنى بحجاب وغطاء أحمر ، بإرادة أبي لدك الهزال رضعت النبيذ الأحمر ، ازداد المرض لذا فكنى ، من فم الذئب غطاء أمي ، سى محمد الطيب ، الطبيب الصيدلي صديق أبي الذي لحفنى بالبياض كذا فعل حين طهرت ، سكنت بالرعب الذئب الأبيض منذئذ حتى ساعتى . ساعات يزيد السجن اليوم ، لهذا أقطع عشرين زليزة الزنزانة جيئة وذهابا زليزة زليزة وكل واحدة مساحتها 25 سم ، وهذا يعنى أني أقطع مسافة قدرها أربعة أمتار في الذهاب ومثلها في الاياب أسترق السمع للمصارين وسكين الجوع يقطعها ، أرقب غودوا عربة الطعام ووجل أن لا يجئ يقطع أنفاسي . أمشي في هذه المساحة حتى أربع ساعات وأحيانا أكثرعندئذ في الممشى أبحث عن ظلى ؛ لو كان له ظل لتسنى له أن يأكله ، لو تسنى للمريض أن يقف أن يمشى لكان له ظل ، كما ليس للعاشق المتأبط معشوقه ظل ؛ هكذا حدث لولو . توقف الدم عن المسير عندما اتخذت امرأة حنطة من عمق الزنزانة الركح ؛ جسد نمرة يتماوج مخالبها ساقان من خمر وثدياها يشخبان شررا وهما معا في قبضة اليد وضمور البطن فخ مدسوس بين الفخذين المشتعلين شهوة حية تتلوى عاصرة تنهش ما تضم ، وكد لنفسه أن ليس في السجن حقيقة غير السجن ، ارتاب في الأمر ، تحسس جسده تبين من أن ليس لوجوده وجود ؛ مكان الخلائط هذا تبرعم عنه ساق حنطة بض شرع يهتز مع شهيقه وزفيره الساق على الساق فمس اللحم ارتعش ، ثمة امرأة تذوب في ريقي ، صوت انثوي رخيم يخترق المسافات لم يع أن ميكرفون السجن يصدح : اذاعة صوت الوطن العربي الكبير ، وان توكد مما راى وان في هذا تعين الوجود ، ولما لم يكن له ظل نسج من خيوط الدخان الظل توسده ونام . لحس ما تبعثر من عصير البرتقال وضم ساقيه مشدودا لساقي لولو المنفرجين كأنها تغويه لأن يعود عن ما فيه ، كأن الوحدة عاودتها فلزم ألا يكون ، وكما بلع علب العصير ؛ عصيرها ، أرادت بلعه من ما بين منفرجيها ليعود إلى ما كان ، وتعود إلى ما كانت لأنيسها و ما تحب ؛ وحدتها . قبض على ساقيه منفرجين بكلاليب ووسعت فتحة القضيب فلا بد للحصوة من مطلع ، طلع الوجع عليه من بين فخذيه وانفلق الدم ، خطر خاطر وهو في غيبوبته : ان الطبيب اغتصب قضيبه ، في يقظته توكد من أن لا شئ يمكن التوكد منه و أن الريبة ربيبة اليقظة . ولد لأب خباز يقع بيته في مواجهة المخبز ، وكثيرا ما اقتحم الأب أخر الليل البيت حاملا بين يديه الخبز الطازج وما جهز من طعام تلك الليلة ، ومن عادات هذا الأب أن يضع زجاجة نبيذ بجانب فم النار يدلق جرعة مع الكرويك وهو يولج الخبز المعجون النار كى ينضج ، بين الخبز والنبيذ ترعرع وفي كنف النار نضج ، وحين وقف على قدميه لف في قماط أبيض : قميص الطهارة الذي زخرف بالزعفران بالهلال ونجمة سيدنا سليمان السداسية ، وفتح ساقاه وقضم مقص الطهار بن كاطو قضيبه ؛ كان لا بد من الدم قربان الفحولة . لم يعذب أثناء استجوابه وان ضرب أكثر من مرة ؛ وقد حصل على وجبات متتابعة من الضرب أحيانا لمجرد أن الحارس قصير ونحيف ولهذا لم يحب طولى وسمنتى خاصة ، هذه السمنة التي أكره والناتجة عن نحافتي في الصغر ، وأني ابن السبعة أشهر ؛ مما دفع أبي للاهتمام بي فحشاني باللحوم المشوية والخبز والنبيذ في أخر الليل . لم أخف مقص الطبيب و لا أشعة الليزر التي تدق جنبي لتفتت الحصوة في محاولة أولى كى لا أضطر لعملية مكلفة ماليا ، و لا فكرت في عواقب العملية فلقد نضجت بفعل النار وبفعل أبي : عدت للبيت فوجدته ينتظرني أدخلني الحمام وملأ الأرضية بالماء حيث لا يمكننى الجلوس إلا في الماء أو البقاء واقفا ، حبسني بقفل باب الحمام دون قفل حيث كان بامكني الخروج بدفعة من يدى الصغيرة رغم ذلك لم أستطع الخروج خوفا ، و لا استطاعت أمي و لا زوجة أبي خويرة اخراجي خوفا منه بطبيعة الحال ، كان العقاب بسبب أنني ذهبت حتى سوق احداش الحي المجاور . تركت لولو وحيدة طلق الأب الأم التي تزوجت رجلا أخر وغادرت البلاد كما تزوج الأب وانغمس في شغله كطبيب وفي اسرته الجديدة ، لم تجد ملاذا غير بيتها الذي أجرت و لاذت به ، وكنت الملاذ كما كانت القاطرة ، وفيها تحققنا من وجودنا ومن أن ليس ثمة عالم آخر ، كل شئ تلاشى لا بد أنى ولدت في زنزانة فلقد تكيفت معها من ساعة رميت فيها ، كل شئ تلاشى وبدأ أن حدود العالم هذا الغطاء الأبيض الذي لحفت به فلم يكن ثمة غير هذا اللون الأحادي ما وجب أن أقبل به دون حتى التفكير في اختلاف درجاته . استسلمت لدفء شهيقها وتلاشيت مع زفيرها كجليد قطبي كسفته الشمس الساطعة فلم أتبين الوقت ، كم بقيت في الزنزانة وحيدا ؟ لا أدرى ! كم استغرقت العملية الجراحية ؟ لا أدرى ! ، كم استغرقت لولو من وقت حتى ذوبت جليده وتماهي في لحظة لا حد لها ، كم استغرق منى ذلك ، كم علبة عصير برتقال ؟ ، هل أنت ساحرة في خرجها اللامتناهي من علب عصير البرتقال ؟ ، لم تجبني على هذا السؤال كما لم تجب على أي سؤال ، كانت قد اندلقت في المسام كما دلقت علب عصيرها في الحلقوم . انهمرت الأسئلة من المحقق وانهمرت الأمطار من الكوة كما انهمر الدم من فتحة القضيب ساعة ولجت الكنيف ، ضاق المكان والنفس وعقدة حبل الاسئلة على رقبتي فتلاشى كل شئ كما تلاشيت ، أغدقتنى بجسدها حتى ضاق التنفس وفي متاهاته تهت فلم تكن تريدني قدر ما أرادت أن تذيب وحدتها ولهذا تلاشت عنى ، غمرتنى الوحدة حيث كنت وكما أكون ، لم أكن حتى في المرآة التي صنعت من أوهامي ومن هذا نهضت روحى عازمة على تحطيم شيئا ما ، لم يكن بالامكان فعل ذلك في القضبان فهل أفعل هذا في قبضة يدى ما أرجعت في اللحظة الأخيرة ، ما توهمت أنه وجه الحارس وهو وجهي منعكسا على ماء الجردل ما أغرف منه وأبلل الروح / الزنزانة سطح الصفيح الساخن . الدم تدفق من نافورة القضيب فغرب بياض السرير كأن الطبيب غير مجرى الدم أو كأن الحصوة كانت سدا وانهار ، سبحت في هواجسي حتى كدت أغرق من جهد كناقر الفراغ ، الفراغ قرين الوحدة وكل مكان مغلق ، الكوة عين وحيدة لغول دون ملامح حين غربت الشمس وأدمت الركينة المتكاء الذي أصطاد فيه الضؤ شممت حريق روحي ، اندسست في جسدي ونسيتني كما نساني الجوع ورديفه الخوف ، دفء أخذ يسرى بين فخذي ، الأفعى تنهض من رقادها ولولو تهدهد وسنى . على غفلة فتح الباب طوح الطعام وعلى سرعة بينة أغلق الباب ولم يضطرب سكوني ، انسلت الشمس ولملمت جرحها وانبرى الليل عبد أسود مثقل بلونه ولم يضطرب سكوني ، فرشة السكون تنغمس في علبة النفس وتمس اللون بتؤدة مهدئة من روع الأحمر ومن شدة الأسود ومن أحادية الأبيض وتشكل الجسد ، أنفر من الهمود ناهضا عنى سافحا صحن الطعام خائضا فيه حتى الثمالة . من عقب السيجارة أتخذ قلما على الحيطان أدون يومياتي : هذا الصباح لم يكن كالصباحات السابقة ، كأن لا صبح سواك ، كأن شربنا على روض الربيع المهفهف / فجاد لنا الساقي بصهباء قرقف / فلما شربناها ودب دبيبها / إلى موضع الأسرار قلت لها قفي / مخافة أن يسطو على شعاعها / فيظهر جلاسي على سري الخفي كأن قال السهروردي .
21 مارس 1979 م ..
انها في القلب : / أقول الآن أحبك ، أم أكتفي بصمتي / أكتب الآن القصيدة أم أكتفي بالنزف / أقول أحبك وأكتب في دفتر الصمت صرخة / فهل ابتدئت القصيدة / أعرف أني – الآن – في عينيك سؤال / فهل تكتفين بالزنزانة عن القصيدة ، أم بالجرح عن الجرح / أقول أحبك / أمزق دفتر الصمت بالصرخة الاولى ، بالثانية أبتدئ القصيدة / هل أربط خيط المسافات بيننا بالحلم ، أم أكتفي بالجمرة وأتقد بالدم / أعلن عسيرة الكتابة / عسير قطع خيط الوصل / أعلن تمرد الشعر . / مشرعة أبواب الخاطر لاحتمالات : شهوة صهيل الذاكرة ، حمحمة إمرأة تشكمنى بخيط الشمس / اقفلوا باب انفرادى ؛ لست وحدى / تكتمل القصيدة ببدء مشهدي .
أخذت أعوى غبطة من انزياح الجدران عنى وضيق العبارة في صدرى ، لجلج الكلام وغام مشهدى وتمتة تصهل في مسمعى ، بالامكان الانفساح فاتخذت من مقدم الزنزانة فسحة فاح المشموم وطلع من ثنايات ، غادرت نفسي دون حد وجلت في اللا أين وسعت كل شئ .. كل شئ ، تأملنى فتح مبين فتاؤلت الطريق ريح تمتطى صهوة البحر ، وعلى الحائط خط السابقون ما رددت أوتار اللحظة ؛ الحيوط لا تترك أثر الحراب الملطخة بالدم و لا مبضع ينضح بالزوبعة ، فقط انسان يتحسس الجبهة أحيانا القلب وهو نائم وفي النوم نذهب ونفتح شبابيك الديار إذ تحضر قبل الفجر : أعرف أن الجوع يذهب بالأحلام / ولكن على أن أستمر بالغناء / وأن السجن يغيم الأحلام / ولكن على أن أستمر بالغناء / وأن الموت يقتل الحلم / ولكن على أن أستمر بالغناء . كنت ساعة في القاطرة وساعة في غرفة النقاهة أحس السائل الدافئ ما يبقع سريرى فيوقظ سريرتي ؛ أرى الحياة مرشوشة على الملايات نجوما تتلألأ . ساعة أجد أن ما خط على الحيوط مجرد حالات قمع موقوت وساعة أقرا للولو ما أحب وما لاتكره : كان الله ينتظر لولو / الاسكندرية تنتظر لولو / كان القطار ينتظر لولو / كان المقعد المجاور ينتظر لولو / وكنت أنتظر لولو / كان الله وحيدا / ولولو كانت وحيدة / تآمر الله معى / ليظل وحده وحيدا / لولو .. / الباذخة .. / التى دوكرت وهمي ومضت أوصدت نوافذها / وتركت لى .. / هذا الهذيان العذب / ذابت في الزحام / وتركتني أنا / الوحيد الأحد / أبلل وحشة الليل / بندى عينيها /وأفرد في الروح مقعدا مجاور / يا للمسافة المنكرة / يا للحياة المهذرة / يمطر القطار / دون عطرها / ويذبل المقعد ” شيت ” / اللعنة على هذي الخطا / اللعنة على الوهم / اللعنة على كل التقنية / التى لا تجد / دربا إلى .. لولو .
عفوا لمن هذا الشعر ؟
لصديقى الشاعر سالم العوكلى
أهلا وسهلا أنا لولو الحناوى .
الزنزانة تسع كل شئ كما الرحم فيها تنبجس الدماء حارة تقرص البرد ، حين باغت نفسي وحيد تبين أن الزنزانة ضاجة بوجودى حتى أنى تحسست ضلعى الذي يوجعنى وتوكدت من تململ لولو . شغلت عن الوحدة بالمكان ، اضطجت متأملا هذه الوحدة المسكونة بحشد من الرغبات ، صحت في وجهي أزجره فتورد خجلا من تغضنه . كما في غرفة النقاهة وجدت في تأمل المكان طريقا طويلا كقرين ذوب الزمن في الريق مع توثب الروح ، كانت لولو مدسوسة في طريقي هذا فلم تجدنى كما لم أجدها كنا معا كما أدم وحواء ، شيطان الوحدة يعبث بالمشهد فتتجسد الروح في الجسد كثانى اثنين . بعد أن عددت زليز الزنزانة وغرفة النقاهة أخذت أعد خيوط الشمس وأقيس الظل ، في الزنزانة تمكنت من لعبة خيال الظل فتمسرح المكان بشخصيات تراجيديا عمياء ، كنت مبصرها في تخبطها منذ الأزل تبحث عن مفتاح لما يحوطها من ظلمة ، وكانت لولو تضئ طرقة القاطرة بمبسمها فيما بدأت غرفة العمليات الضاجة بطقم الاطباء والممرضين سراطا مستقيما معمدا بالدم . وعيت ما لم أسمع وقد كابدت الجوع كما كابدت الخوف حين داهم المكان كلب الحراسة ، منعت من الطعام بعد العملية وفي القاطرة حولتنى لولو بعصيرها لبرميل ، وجوعت قبيل التحقيق لكن ذلك قلع الخوف من النفس كما قلعت أمى منى عين الحسد حين عوذتنى . كنت أدفع الحيطان وكانت تنزاح وكان الصلب أثير .
25 – 10 – 1979 م
لم يحدث شئ هذا اليوم ، لكن لماذا أكتب إذا ؟ . لعل هناك ما يستحق ، لا أعرف ، ما أعرف أن السجين كائن من زئبق يمتطى صهوة الريح . كنت جالسا في مخيالى مع الزميل على الرحيبي المحطوط في زنزانة – هنا – ما يقلب مجلة ليقتل الوقت حينما اهتزت أركان الفؤاد وشرر من كهرباء بث اللذة في همود الجسد ؛ صوت أنثوى ، إلى النافذة ، النافذة المسيجة بقطعة من الصلب كى لا نرى الشمس و لا ترانا ، قفزت ، من ثقب ، من حيث تتخلل خيوط الشمس رقبت المشهد سرب حجل ، لم يكن بهيئات الجمال مثل كل السجينات ذبلن لكن كنا نساء ؛ سوداء ضخمة ، سمراء طويلة ، بيضاء بضة ، البضة تحمل طفلة على ثغرها ابتسامة تقتلع الشجر من جذوره فما بالك بقلب السجين قلبي . جمحت البضة كظبية ما ان سمعت صرخة طرزان حينها غاب الكلام حينها لزم ما لزم : اللغة الاولى ، كذا لم يكن بد من صرخة الانبثاق من الفجوة الاولى حتى الفجوة الاخيرة .
29 – 10 – 1979 م
لم يكن يوما ماطرا لكن السحب البساط السماوى ، السحب أعادت تشكيل السماء كما تحب ولم يكن يوما ماطرا وان لم يتوقف المطر الرصاصى في سمائي ، حيث تزوجت الرعود الصواعق منقضة على قبضة اليد تحت الثدى الايسر . لم أهتز كما لم أتوقف عن مواجهة موجات القلق ، كشجرة الصنوبر التي تقف ترقب المشهد على بعد من نافذة الزنزانة لم ترمش لها عين و هز غصن وقع خطواتهم ووقع ما يخطون وما يوقعون في النفس سمعته كما لم أسمع شيئا قبل ، لهذا نمت عميقا لأول مرة هنا والآن ، غبطة زدت في هذا الغرق اللذيذ الذي يهمسنى أن ليس للأيقاظ سوى عالم وحيد مشترك بينهم ؛ وعلى العكس فكل نائم ينجذب نحو عالم خاص به ، وأهمسه : قل لي ، يا ثيدورس ، ألست أنت الذي طردت من أثينا ؟ فيقول ثيدورس ما سمعته صحيح ، ان مدينة الاثينيين طردتني لأنها لم تطقني كما لم تطيق الألهة سيزيف سارق النار .. كنا في نفس العمر تقريبا : واحد وعشرون عاما وكنا شاهدين على نفس الأحداث كما ندرس نفس المجال .. أو هذا ما كان كلانا يعتقد على الأقل . لم يكن أحدنا يعرف الآخر أو لم يكن في واقع الأمر يعرف أحدا حتى نفسه ذاتها .
ولم أفق من نومتي تلك حتى الساعة .