أين ليبيا التي عرفت؟
المقالة

أين ليبيا التي عرفت؟ (20)

محمد نجيب عبدالكافي

رحلاتي عبر ليبيا

حرن قلمي عند منتهى الحديث السابق، دهشًا هو الآخر، من جمال ما أمليه عليه فتوقف واستراح، فسكتُّ عن الكلام المباح، وها أنا أعود لأتمّ ما كنت بصدده بهدوء وانشراح. شمس تغيب غربا، وبدر يطلع شرقا، ظلام يزحف على النور غربا، وضوء يخذل الظلمة شرقا، قرص منير يغرب، وآخر مضيئ يشرق، سلسلة ألوان متكاملة متناسقة تملأ الأفق الفسيح في ذلك الشفق المليح، بما تستلطفه الأنظار فيثير في النفس الرضا والإيمان . أسرعت مندهشا مسحورا أزيل غطاء عدسة مصوّرتي أعدها لتسجيل ما أحسن الله خلقه وتنسيقه، لكن عندما نظرت من خلال العدسة لم أجد شمسا ولا حمرتها بل آثار أشعة يداهمها الظلام . عندها تعلمت أو تذكرت سرعة الشروق والغروب بالقرب من خط الاستواء.

الصورة: الغروب في جبال أكاكوس،تصوير الفنان ميلود العمروني
الصورة: الغروب في جبال أكاكوس،تصوير الفنان ميلود العمروني

جاء رفاق البعثة وجيئ بالطعام فدار الحديث ثم تواصلت السهرة في أعماق صمت الصحراء تحت أشعة ضوء الكوكب الفضي، فتعلمت وعلمت أثناءها الكثير، خاصة ما له صلة بالجيش الليبي الفتي: نظامه المحكم، ضباطه وأفراده، تكوين وتدريب جنوده وضباطه وتسليحه. بعثات إلى عدد من البلدان السابقة في مجال الدفاع للاطلاع والتكوين والتدريب، وسلسلة من الدروس والملتقيات، غايتها زيادة التعلم وبث الروح الوطنية والتقوى، إلى غير ذلك من أسمى المبادئ.عدنا إلى قلعتنا حيث قضينا ليلتنا نجترّ ونسجل ما حفظناه طوال اليوم، فكانت مفاجأة ثانية لي غير سارة هذه المرة. فصديقي الدكتور فولفرام متفق مع مجلة في ألمانيا على موافاتها بسلسلة مقالات عن الرحلة والاكتشافات التي قد يُعثر عليها، فما راعني، وأنا أقرا ما قدمه لي، إلا أنه مليء بما لم يحدث. لأن رحلتنا، لا حتى ذلك الوقت فقط، بل إلى أن عدنا بعد أكثر من أسبوعين، لم يحصل لنا أثناءها مايقلق أو يزعج بفضل الله والسائق الدليل وحسن الحظ. لم يُرض هذا صديقي، فاختلق زوابع وأخطارا ومغامرات لتجلب القارئ – على حدّ قوله – فمزقت ما كان بيدي غاضبا صائحا: حتى أنت يا فولفرام؟ استغرب رئيس البعثة فسألني عمّا أعنيه بسؤالي. قلت صنيع صديقنا قاسيناه ونقاسيه من معظم الصحافيين والمراسلين الذين يزورون بلداننا، وهو ما يزيد في عدم التفاهم والتقارب وفي عمق الجفوة وحتى القطيعة. عاتبه الأستاذ وذكرته بمواقفه وتأييده قضايانا فاعبر واعتذر فقال الحقيقة.

– أكاكوس

غادرنا سردلس في الصباح الباكر لنبدأ رحلتنا الحقيقية، مستعدين لكل الأتعاب والمفاجآت لكن، رغم الطرقات بل المسارب والدروب الرملية والحجرية وطبيعتها المتآكلة، لم يحدث ما ضرر يشتكى ولا ما هو غير عادي. أرض قاع صحصح منيف قطعناها مرورا بعدة قرى، استرحنا في بعضها، بين رواد ما يشبه المقهى، قاعة مفروشة حصرا يقدم فيها الشاي. كنا نستقبل في كل مكان بالترحاب، ونُزوّد بما نطلب، ونُعطى المعلومات المفيدة إنسانيا واجتماعيا وتقليديا، فكنت بذلك أسعد مخلوق. كانت الحاجة، كي لا أقول الفقر، يكاد يلمس لمسا، لكنه مغمور تحت رداء من الأنفة والعزة، وستار من القناعة والجود. أما في الطريق الطويل فكنت فيه التلميذ المتشوق إلى المعرفة، وكان معلمي سائق سيارتنا التارقي كما سبق القول. أطلعني فأفادني الكثير الكثير عما جَهِلْتُه – كما يجهله الكثيرون منّا، من حال وأوضاع التوارق : نظامهم الاجتماعي والعائلي، عاداتهم، طرق عيشهم، تنقلاتهم، مفاهيم الأدب والأخلاق عندهم، ودور وقمية المرأة لديهم. بكل صدق أقول: لو لم أحصل خلال الرحلة إلا على هذه “الدروس” لاعتبرتها كافية لنجاح رحلتي.

بلغنا هدفنا المرسوم متعبين مغبرين، لكن سالمين هانئين، بين أيدي أو أحضان سلسلة مرتفعات أكاكوس العجيبة الغريبة الثرية.….. (يتبع)

بالذاكرة المزيد من الارتسامات فلي عودة إن طال العمر.

_______________________
* الصورة: الغروب في جبال أكاكوس،تصوير الفنان ميلود العمروني.

مقالات ذات علاقة

لَيلةُ العِيدِ وَبَوحُ الأُمنيات!!!

رضا محمد جبران

الشماعة والتناقضات الليبية

ليلى المغربي

بثوا الهدوء في الداخل كأول الإجراءات الإستباقية لمواجهة عاصفة كورونا في الخارج

علي بوخريص

اترك تعليق