الدكتور محمد مسعود جبران
آبَ الفؤاد إلى أفيائِها طَرَبا
واستروح السحر من أنسامها رضَبَا
قد عللتني من الأمواه صافية
كأنها الراح تعلي فوقها حَبَبا
أعبُّ من نهرها ألطاف مرشفها
مثل اللجين ينسّي صفوها التعبا
عروسة الكون تاهت في ملاءتها
ففاح من نشْرها ما كان محتجبا
يا درة الشرق في أخلاقها عبقت
وفي بنيها فصاروا مثلها نُجبا
زهر المشارب إن تمسَسْك عارفة
من العوارف تلق الخير والحسبا
يا نكهة الشام في أغوارها برقت
شم الفوارس أفدي جيشها اللَّجِبا
بنو أمية ماسوا في مساربها
كباشق الطير يمضي في الفضا عجبا
هل تذكرون صلاح الدين إذ زحفت
منه الزحوف جهادا تدحر الصلبا
سنابك الخيل تمضي من مضاربها
توري العثير إذا ما أقبلت لهبا
في مجتلى الفخر ترنو من منارتها
على المدائن تُسدي للعلا قشبا
أنهلتُ روحيَ من أسوارها نُحتت
إذ أكبر الدهر منها معقلا أشبا
على القباب من الماضين مزدهر
وفي المآذن ألقت للسنا شهبا
تُزهى دمشق وفي الأمصار مغتبط
قد هزها الكبر من تاريخها نسبا
فتلك أرباضها بالزهر كاسية
ريح الخزامى يُساري بينها قصبا
أشم من عطرها أنفاس مَنبجها
قد راقني قدها إذ عانقت حلبا
يا جلق المجد ما في المشرقين يد
تدافع الشام عما كان قد ركبا
أتى بتاج من الأضواء فانتظمت
ربوعه الفيح من أبهائه خصبا
يا روعة الشام في قسيون مافتئت
تضفي الوداد على زوارها حدبا
هفا المشوق إلى رياك فانبجست
في خافقيه من الآمال ما طلبا
أين الندامى بوادي النيربين شدا
من ظرفهم سمر قد أترع الأدبا
عانقت فيك رُواء الفن في نَسَق
من السناء أصيلا ليس مجتلبا
والشعر يطرب في أفنانه غردا
يهوى الحسان ويحسو كأسه عنبا
أبا عبادة هل في الوتر قافية
فقد عدمت لسانا في الربى ذربا
في الغوطتين وهل في الكون من شبه
في النمنمات أفدِّي الوشي والهضبا
أستلهم الشعر من عينيك أغنية
وأنثر العطر في أردانها رطبا
وأجتلي بالروابي بوح ساقية
من الجداول تُجري ماءها سكبا
والطير تبدع من إيقاعها نغما
حلو اللحون إذا يعروك مرتغبا
وموكب الغيد يلهو في أزاهره
مرفَّه العيش يشدو بالغنا لعبا
مضى شبابي حزينا غير مؤتلق
فهل أكون بشيبي للضنا لقبا
قد زرت سوحك والأحداث فاجعة
أذري الدموع وأشكو الهم والتعبا
مفرَّق الشمل لا الخلان تؤنسني
وأبصر الأهل صرحا قد بدا خربا
أذهبت نفسيَ في الآمال مبتهجا
يشوقني الود في استحلابه سحبا
فما اجتنيت بأرض الشوك والهفي
سوى المتاعس تؤتي بؤسها كربا
يا بنت قسيون تفني الدَهر مفخرةً
لا يعرف الحِبُّ من أطوائك الرّسبا
أُحببتُ نهركَ هلْ في الماءِ فرحتهُ
أو الدموعُ تراءَت تملأُ الهُدبا
فحدثيني حديث الألف عن زمنٍ
شعارُه الغدرُ في انسانه انسحبا!
أرض الشآم أراك اليوَم صامتةً
تشابهين أشماً أُنكر الصخبا
في مُقلتيكِ من الأحزانِ معلمةٌ
وفي جبينكِ يبدو النفحُ مستَلباً
من راعَ سربَك حتى صرت واجمةً
حيرى الجفونِ أَلا تبدين لي سببا
أرى المآقي تباري من هواطِلها
ماءَ الينابع تُذري الدمَع مُختضبا
أنا الغريبُ وطيفُ الهمّ يتبعني
حيث اتجهتُ ألاقي الهَم مرتقبا
أشكو إليكِ كما تشكينَ مشأمةً
تعلوُ الفواجُع في أعماقنا غلبا
فكفكفي الدمع في الأهوالِ واحتسبي
وعلميني بهاءَ الصبر قد عذُبا