د. بهجة ادلبي
الابداع لديه مغامرة بين الحلم والواقع، بين الذاكرة والنسيان، بين الوهم والحقيقة، بين الكلمة والمعنى، يكتشف الكائن فى الامكنة والازمنة ينتظر زمناً قد يأتى وقد لا يأتى، يختبر التأمل فى الصمت، يعرى العالم كما يعري الخريف الشجر يفرد فى الروح فيضاً من الاشراق لتصعد على سلم الحرف الى وجدها.
أغوته الكتابة بفتنتها واصطفته لحمها فاستجاب لها بكل ما أوتى من حلم، (مفتوناً بلعبة الكلمات مستمتعاً بقدرته على بناء عوالم من الوهم وخلق الشخصيات تمشي وتتكلم فوق الورق) وعلى رغم انه اختبر فضاءاتها كلها مقالة ودراسة وبحثاً ومسرحية وقصة ورواية، لينوف ما انتجه على المئة كتاب هى حصيلة عمر من الشغف بالكلمة والشغف بالابداع الا انه كان اكثر شغفاً بفتنة الرواية التى منحته مفاتيح اسرارها، فأيقظت(اي الرواية) فى ذاته اسئلة اخرى، فلكل نص ابداعى اسئلته الخاصة به، كل نص هو مغامرة جديدة وموعد جديد مع الدهشة والعذاب، لعوالمة ايقاعهاتها المدهشة وفضاءاتها البكر التى تاتي من كاتب كتب عن نفسه كمرآه يكتشف فيها العالم، وكتب عن الناس كمرايا للذات يغوص في خفايا النفس كمغامر فى بحر الغموض والمجهول يحلق بالخيال حيث شهقت بصيرة قلبه فانتبه الى بياض الوجود، يحلم بعالم افضل للانسان.
ان تكون الكلمة خلاصه الوحيد
ان تكون الكلمة خلاصه الوحيد
ان تكون الكلمة خلاصه الوحيد
لم تكن الكتابة لديه ترفاً ولا استجابة لظرف ما او حالة ما وانما هي فعل يمارسه يومياً منذ بدأ النشر فى (1959)
لتصبح مواجهة وتحدياً موافقاً ومسئولية ومبرراً للوجود ومعنى الحياة، فوهبها عمراً من الغربة والحلم، لتهبه حضوراً متميزاً فى المشهد الابداعى العربي، ببصمته المتفردة واسطورته الشخصية التى اودعها احلامه ومغامراته واسئلته بقدر ما أفردت فى روحه قلق الوجود فاذا بها (انعكاسات فوق مرايا الحلم مع كائنات خفيه مجهولة وطرق على بوابة الليل والمستحيل).
د.أحمد ابراهيم الفقيه المتفرد بلغته واسلوبه، وعلى وجه الخصوص فى انتاجه القصصى والروائى، يأسرك بشفافية لغته التى تلحق بك الى رؤاها واحلامها وعوالمها، ببساطتها واشكالياتها وازماتها التى تتصل بتحولات الازمنة والامكنة، بخطابه الذى وسع طاقة الكشف فى النص عبر اختباره لطاقة الحلم وطاقة اللغة فى الذات، وطاقة الذات فى اكشاف العالم.
لا شك ان مقاربة الخطاب الروائي لدي الفقيه تحتاج الى مغامرة نقدية ان لم تواز مغامراته الابداعية على الاقل تقاربها، لانه خطاب له خصوصيته وخصوبته شكلاً ومضوناً ولغة ورؤية، ففي الشكل اختبر الارث الحكائي العربى مستلهما التقنيات الحكائية فى ألف ليلة وليلة ومناخاتها الاسطورية ليوصل طاقة القص العربى فى الخطاب الروائى المعاصر، وفى المضمون اختبر الواقع عبر حركته فى الذات وعبر تحولاته فى الذاكره معبراً عن صوت الانسان المأزوم المحاصر والمقموع، يقول:
عندما اكتب عن الناس فأنا ايضاً اكتب عن نفسي وعندما اتحدث بأصوات مختلفة ادرك تماماً ان كل هذه الاصوات المختلفة المتباينة المتضاربة المتصارعة انما هي صوتى.
وعلى رغم ذلك فتعامله مع الواقع كان حذراً يبحث عن وسيلة يستعين بها على كشفه واستيعابه دون نقله او ترحيله
فوجد ضالته فى البحث عما فوق الواقع وتحت الواقع لتقديم مشهد روائى او قصصى اكثر ثراء وعمقاً مما يعطيه الالتزام بالواقع.
فالحياه كما يري ليست فقط ما نراه ونسمعه ولكن هناك اكثر من ذلك الذي نراه ونسمعه يهتدي اليه المبدع الحقيقي
هو الذي يدرك تلك العلاقة الخفيه بين الخيال المحلق فى عوالم الحلم والاسطورة وبين معطيات الواقع واستيعابه بعين الفن وبصيرة الابداع.
اما فى اللغة فقد استعان بروح الشعر كحالة ليشحن طاقته اللغوية فى التعبير ما يجعل السرد الروائى اكثر توهجاً واكثر زخماً وكثافة فى توسيع المعنى من دون ان يكون ذلك على حساب الحدث والتفاصيل فى الخطاب الروائى
فاختبر لغته فى مختبر الشفافية والشاعرية التى توسع طاقة الكشف فى النص كما توسع طاقة التأويل والمعنى لدي المتلقى لتستجيب الرؤية لديه فى استدراج التاريخ ببصيرة الروح منطقاً من فهم خاص للعلاقة بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الروائية، فاذا كانت الاولى منجزة فى الماضى فان الثانية هى ما يبثه الروائي فى الاولى من روح الخيال دون ان يكون ثمة تناقض بين الحقيقتين، فلابد ان تبقى مساحة بيضاء بين الحقيقة والروائية وبين التاريخ ومن هنا فالرواية التى تستلهم التاريخ تضئ عتمة الماضى بمصباح الحاضر.
احمد ابراهيم الفقيه علامه فارقة فى المشهد الروائي العربي، فهو صاحب الثلاثية المتفردة وصاحب خرائط الروح الثلاثية المتفردة وصاحب خرائط الروح اول ملحمة روائية عربية بأثنى عشر جزءاً، شكلت ملحمة الحب والحرب والرحيل والاغتراب، متخذة من التاريخ مختبراً لطاقة التخييل منسجمة مع رؤية مؤلفها للعلاقة بين التاريخ والرواية ليكتب عبرها تاريخ ليبيا كما تجلى فى ذاكرته وفى روحه وفى مخيلت، عبر نموذجه الانسانى وشخصيته الاشكالية عثمان الشيخ او عثمان الحبشى ليرسم خرائط النفس ومجاهلها وخرائط المكان والزمان فى تحولاتهما ما وسع الرواية والقراءة والمعنى فى خطاب ألف المختلف وفارق المؤتلف