محمد بوعجيلة
لم يكن لهذه البقعة الشاردة في غياهب الزمن سور، فلا هي قلعة ولا هي مدينة، ولأن الأشياء العظيمة لا تمنحك فرصة للتفكير، قررت أن أراها قرية، القرية التي لم أستطع التخلص من ملامحها التي تحشو دماغي، فكل الأشياء تشير إلى أننا نقبع داخل ريف حقيقي ومنمق.
فما الذي يزيل من أدمغتنا غبار الأبقار التي تتجول وكأنها في حظيرتها الخاصة، وكأننا المتطفلون، ولن أتطرق للحديث عن الكلاب، فما يثير غريزتي غير تلك الأشجار المعمرة التي تنتظرنا ونحن في طريقنا إلى ذاكرتنا القديمة، وتلك الجذور الضاربة في أعماق الجبل وكأنها تحتضن المدينة.
حتى الكلاب التي أحاول جدياً أن لا أتطرق إليها أتحسس نظراتها وأنا أحشو هذه الكلمات، حتى أنه ينتابني شعور عميق أنني لص يسكن المسجد العتيق، وأن علي أن أرسم الإسفلت المجعّد، والخيول الثلاثة والممرات السرية وكل الطرق التي تؤدي إلى المنصورة، لكل أولئك الذين يعرفون الطريق جيداً ولا يعرفون الصنوبريات والأرز.
أذكر حينما سقطت شجرة الصنوبر، شعرت للوهلة الأولى أن شيئًا ما من جسد المدينة سقط، وأن المدينة تشكو بطريقتها الخاصة، فلا شيء يعجبها، لا الناس ولا الطرق المعبدة، ولا حتى طوابير المصارف.
شجرة المدينة التي حاولت الوصول إلى الأعلى سقطت، هي فقط كانت تحاول الوصول في المكان الخطأ.
فالأشجار شاهدة على حماقاتنا، وسخافاتنا التي نحفرها في لحائها؟ هي شاهدٌ على مأساتنا.
بعضها حين أنظر إليها تقول: “هنا كان يجلس عاشق مني” وأنا حينها أفكر جدياً في قطع سائر أعضاء جسد المدينة، أفكر أن أحوّل سيقانها العارية إلى كربون وأجعله يغزو طبقة الأوزون حتى نصبح مدينة بدخانها وسمومها وتلوثها، نصبح مدينة بلا ذاكرة، فالمدينة ما لم تكن ملوثة ستصبح قرية وريف، ويصبح كافة الناس فلاحين يعيشون حالة الريف ولكن بطرق مختلفة، فالسيارة ستكون بديلاً للحمار، والتسكع في الشوارع بديلاً لصيد الليل، وخطف لحظة غرامية في أزقة الحي بديلاً لعناق شجرة الخروب، أو حتى غناوة علم تضرب في بطن الوادي.
المدينة لا تعرف الافتراضية، إما أن تعيشها بواقعها وتمثل كل شيء وتصنع مسرحا للجريمة، إما أن تذهب إلى أودية الريف وتتمتع بالخيال بين كلمات شعر.. قذاذير.. وغناوة.. حيث تسمعك المواشي وتتكسر أغصان الشماري بين يديك، ويرد لك الوادي صوتك الذي لطالما لم تستطع أن تصرخ به في مدينتك الفاضلة.
فخبز المدينة لا يشبه خبز القرية، وهنا التفاصيل موجعة يا صديقي، فما أعرفه حقا أن الشمس حاضرة، ولكن سور المدينة عالٍ.