ينأى المقال بنفسه عن البحث في المخيلات الروائية المُسقطة على الواقع الليبي، وينصّب في قلب الواقعيات المجتمعية المنتجة للسياسة، وهو ماكرّسنا له جُل مقالاتنا ببوابة الوسط منذ خريف الربيع السياسي الليبي 2014 المُراوِحة بين هجاء البرلمانية الليبية المعطلّة للمجتمعية حتى نهاية عامنا 2018، وموازيتها المجتمعية الليبية التي عطلّت البرلمانية، منذ شبهة تزييف انتخابات عام 1952 بعد عام من استقلال ليبيا الوليد إلى انقلاب الجيش عليه عام 1969.
ومن البرلمان ننازح إلى اعترافات الإنسان التي تنفست رائحة أمكنة كـ مدينة تگاست في الجزائر الشمال أفريقية الرومانية 354 ميلادية، أو جنيف السويسرية عام 1766، أو في طرابلس مابعد الكولونيالية 1952. اعترافات أوغسطين خاطبت الأبدية لتؤكد قطعياً طبيعة النقص الوجودي في الزمنية الإنسانية، واعترافات جان جاك روسو، وإن طغى عليها عنصر “البارانويا”، رهاب الإحساس بالاضطهاد والمطاردة، إلا أنها قدّمت في الوقت ذاته صورة عن شجاعة الكاتب وتصميمه على إعادة تقييم ما يعتبر القيِّم والتافه، الصواب والخطأ في العمران البشري.
قفل دولاب زجاج في مكتبه وسلّم لي المفتاح الكاتب بشير الهاشمي، وهو يغادره إلى وظيفة أخرى في منشأة نشر الكتب الحكومية التي عملنا وقتها كلانا بها. وقد أوصاني، بأن أحافظ على مكتبة ليبية قيمة، أتيح له جمعها من مكتبات الباعة الخواص، كانت قد سُحبت مع كتب كل الاتجاهات الفكرية التي طالتها يدُّ ماسميت بالثورة الثقافية عام1973. مالفتني من الكتب رواية “اعترافات إنسان” للكاتب محمد فريد سيالة التي صدرت سنة 1961. حتى ذلك العام 1981 لم تصدر مايمكن تسميته بـ رواية ليبية إلا “من مكة إلى هنا” للصادق النيهوم التي طُبعت عام 1967 وكنت قرأتها عام 1971 مستعارة من زميل فصلي المدرسي الثانوي الأوّل.
لم أجد وقتاً لقراءة اعترافات إنسان سيالة كاملة، وإني أكتب عن كاتبها بسبب وروده إسماً مبتدأ به فصلًا حمل الرقم 17 حرّره الباحث في التاريخ الاجتماعي الليبي على عبد اللطيف أحميده، وترجمه الكاتب محمد عقيلة العمامي، وأصدرته جامعة أكسفورد كتابًا باللغة الأنجليزية في الربع الأخير من 2017 بعنوان “تقاليد الرواية العربية” بتحرير الباحث وائل حسن.
نعود إلى عام 1981 عندما أصدر الكاتب خليفة حسين مصطفى بعد مجموعته القصصية الأولى “صخب الموتى”، 1975 ما أسماه بروايته الأولى “المطر وخيول الطين” كتب عنها وقتئد الناقد الأدبي رمضان سليم مقالاً تحت عنوان “نحو الرواية الليبية” متشكّكاً في روايتي النيهوم ومصطفى أن تكونا نوعياً روايات وكذلك “رأيت في عيونكم مدينتي” للشاعر الغنائي أحمد الحريري، وهي رواية أحرقتها الحرب الأهلية اللبنانية في المطبعة البيروتية، ولم ينجُ منها إلا ثلاثة نسخ كانت واحدة من نصيبى عثرتُ عليها في الدولاب الزجاجي المذكور آنفاً. وأعرتها لرمضان سليم فكتب عنها مقالة وظلت بحوزته إلى أن أتت النار على كتبه فاحترقت للمرّة الثانية. أذكر إني انحزتُ له في رؤيته دون التفات لرواية سيالة الذي جرؤ أن يكتب روايات “الحياة صراع”، نشرت مسلسلة بمجلة (هنا طرابلس الغرب) عامي 58/59 ، و “وتغيرت الحياة” مخطوط، ونشر “اعترافات إنسان” دّالة طريق نحو رواية ليبية تبحث عن معناها في المجتمعية وليس كمن يجدّف في بحر لاماء فيه إلى تخوم مملكته في ظُلمة الألف ليلة وليلة، أو يشّق سراب صحراء لاتبدو فيها إلا أشباح الطوارق الضائعين.
مرثية الصحفي فاضل المسعودي ـ بتوقيع ابن المُقفع ـ في عزائه، ترصد بحس، نابه في المجتمعية الليبية، المحطات الزاخمة بالنشاطية الثقافية لقرينه الكاتب محمد فريد سياله، حضور متميز ككاتب للمقال والقصة وإذاعي ومحاضر فى الثقافة والأدب والقضايا العامة، ومؤسسا مع آخرين “جمعية الفكر” فى طرابلس بداية الستينات. والذروة إصداره جريدة “الفجر” المستقلة التى أوقفت ضمن ما أوقفه الانقلاب العسكري من صحف ومجلات ووسائل إعلام عام 1971. ويأسف المسعودي أن رفيقه سياله الصحفي ظل تسعا وثلاثين سنة، وحيدا فى منزله المحاصر بصخب الغوغاء ولغط الدهماء وأحداث الفوضى، يجتر المرارة ويتحسّرعلى ليبيا المنكوبة، ويعيش قابعا فى زوايا النسيان.
من مفتتح عام 2000 مكثُ بعده أشهراً في ليبيا، كنتُ أترّدد فيها على الكاتب الأديب الموسوعي خليفة التليسي في مكتبه بالدار العربية للكتاب، ماكان يشغله وقتها أنه يريد أن يتوفق في إنجاز كتب خاتمة لمسيرته التنويرية والمعرفية، كان أحدها كونه عمل فيه لسنوات بإعداد وتقييم فكري للجلسات التي رصدها في البرلمان الليبي ويحوز نسخ محاضرها وعبرت وقتها عن القضايا الملّحة في المجتمعية الليبية.
بدعوة كريمة من إبنته المكتبية فاتن سيالة دخلت إلى صفحة الكاتب محمد فريد سيالة على الفيس بوك، فوجدت مرفقات إلكترونية لمقالاته التي كتبها في الجرائد والمجلات الخمسينية والستينية وقد جمع بعضها كتابه “نحو غدٍ مُشرق”. للأسف لم تنفتح لي محتوياتها عدا مقالٍ واحد هو من حظ موضوعة مقالي بعنون “في البرلمان الليبي” بجريدة طرابلس الغرب 15/ 4/1952 ويبدو من إشارات الكاتب أن أعضاء البرلمان تبادلوا نقاشاً فيما يطرحه في كتاباته من آراء جريئة في قضية المرأة الليبية وتحريرها وتطويرها فيما أطلق عليه عنواناً لكتابه المذكور نحو غدٍ مشرق، مؤكداً لنفسه صفة الكاتب الاجتماعي نافياً عن قلمه الخوض في السياسة وتطوراتها في تلميح للأزمة الحزبية التي كشفتها نتائج الانتخابات البرلمانية الأولى في 24 فبراير 1952 في ليبيا المستقلة. الأمر الذي يؤكد أن نوّاب الحكومة التي أزاحت نواب الأحزاب المعارضة عن طريقها تحاشت السياسية، واستبدلتها بالحوار في قضايا المجتمع التي الحالة السياسة وأزمتها الليبية إنعكاس لها.
هذا التحوّل التكتيكي لم تستشرفه اللغة المعمّمة التي توّخاها الفصل المخصص للرواية الليبية في كتاب جامعة أكسفورد. فكاتبه رغم جهده المبذول في العرض أفقياً تعوزه عمودية تدقيق من عاش التباسات المجتمعية بوعي مبكر بحكم ولادته وترعرعه في طرابلس مابعد الكولونيالية وتحوّلها باكتشاف النفط وتصديره إلى الكوزموبولتية. الحاضرة التي توجهّت لها التطلعات الشبابية من كل الأطراف الليبية للدراسة والعمل والعيش. لقد أسبغ الباحث علي عبد اللطيف حميدة على مواضيع الروائيين الليبيين مابعد سيالة منزع العالمية في سياق اهتمامات محلية وثقافية محددة، وهو ما مثّل في نظره تميزًا فريدًا في تحضر ليبيا المتمظهرة حينها في مجتمع هيمنت عليه منذ 1951 ملكية قوية، ومجتمعات جهوية، مع مدن كبيرة إلى حد ما، وإن كانت ضعيفة نسبيًا. وهو مادفعه للقول أن الرواية – في ذلك الوقت – كانت نتاج مجتمع بورجوازي، بسمات رأسمالية واضحة الانتماء إلى الطبقة الوسطى، التي ظهرت وتطورت في المجتمع الليبي، بعد الاستقلال، الذي اهتم كثيرًا بالتعليم.
يسرد لنا الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه بعفويه قصّه الذي ضيعت نباهته رواياته الملحمية المتأخرة إنه في ذات يوم في أثناء عمل الكاتب محمد فريد سيالة مديرًا لتحرير صحيفة “الطليعة”، كان يستبقيني أحيانًا ليأخذني معه في سيارته بعد الفراغ من عمله، لحضور ندوة أو المشاركة في مأدبة، وفي ذاك اليوم وجدته يأخذني إلى سوق شعبي هو سوق الثلاثاء ثم يأتي إلى ركن في السوق، عبارة عن حانوت صغير من الصفيح، تباع فيه الخضار والفاكهة، ويخلع سترته الأنيقة، ويرتدي عفريتة زرقاء فوق بقية ملابسه، وينخرط، مع عاملٍ هناك، في إنزال البضائع من عربة يجرّها صاحبها، وعرفت أنه شريك في ملكية ذلك الحانوت، وأنه يذهب في أوقات فراغه للمناوبة مع شريكه، من أجل تحسين دخله ورفع المستوي المعيشي لأسرته.
لو ترجمنا هذه الـ ” Anekdot “* وألحقناها بالفصل الذي حرّره الباحث ع. ع. حميدة عما أسماه رواية ليبية في الكتاب الجماعي عن الرواية العربية لربما تُحدث الحكاية إرباكاً عند القارئ الأنجلوسوكسوني المستهدف من ناشر الكتاب جامعة أكسفورد في مسألية التصنيف الطبقي الشائع في المجتمعات الأوروبية.
* اللغة الثانية للكاتب هي اللغة الألمانية. وفي الإنغليزية يعبر عن نفس الجنس الأدبي بـ “Anecdote”. (المحرر).