تظل الرواية في تصويرها لتفاعل الصراع الإنساني برؤاه وأبعاده المختلفة، من أكثر الأجناس الأدبية مقاربة للواقع، باستنادها على خيارات واسعة من التصورات السردية التي يمكن أن توفر باستمرار إمكانية الحصول على المرونة اللازمة لمحاكات الحياة البشرية بانفعالاتها وأنساقها السلوكية والثقافية المحتملة.
وهي مدفوعة في ذلك بفتنة الخيال اللعوب الذي يمنحنا هذه المتعة المدهشة في إعادة صياغة تفاصيل الهوامش وإرجاعها مسكونة بالتساؤلات المصيرية للأحداث وتحولاتها على سطح المستديرة، وهو ما يجعل روايات مثل «الحرب والسلام» و«الأخوة كارامازوف» و«الكوميديا البشرية» و«البؤساء» و«بين القصرين»، عوالم يندمج فيها عصر كامل بالمصائر الفردية للشخصيات، ويفسر جوانب من طبيعة تلك التحولات بالوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الفهم لقواعد تشكلاتها وبنياتها.
وهي مدفوعة في ذلك بفتنة الخيال اللعوب الذي يمنحنا هذه المتعة المدهشة في إعادة صياغة تفاصيل الهوامش وإرجاعها مسكونة بالتساؤلات المصيرية للأحداث وتحولاتها على سطح المستديرة، وهو ما يجعل روايات مثل «الحرب والسلام» و«الأخوة كارامازوف» و«الكوميديا البشرية» و«البؤساء» و«بين القصرين»، عوالم يندمج فيها عصر كامل بالمصائر الفردية للشخصيات، ويفسر جوانب من طبيعة تلك التحولات بالوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الفهم لقواعد تشكلاتها وبنياتها.
وإذا كانت الرواية وهم دون أن تبتعد عن الحقيقة كما يقول أحد النقاد، إلا أن هذا الوهم له أثره النافذ في الجمع بين المتناقضات وإذابة تباعدها في قالب من العلاقات الفردية التي تعطي للرمزية خصائصها الإبداعية والفنية.
رواية «ليالي نجمة» للكاتب خليفة حسين مصطفى تشخص وفق هذا الإيقاع ملامح من دورة الحياة اليومية للمجتمع الليبي في خمسينيات القرن الماضي بالمدينة القديمة بطرابلس، وتفسر مواقف وردود أفعال شخوصه بالولوج إلى بوابة الثالوث المحرم الدين والجنس والسلطة، والنظر من خلالها إلى البنية السلوكية المكونة لتلك النماذج، بإزاحة الستار عن كوامن ارتباكها، واختيارها الهروب قاطرة الخروج من وحل محيطها القاسي.
وتكتشف الرواية في لحظة فارقة أن فضاء الخدر والأوهام صفقة خاسرة، بعدما استبدلت المواجهة بالهروب، هروب نجمة بطلة الرواية من بيت البغاء الذي تديره فاطمة البكاية إلى المعلول البحار، وكلاهما كان يفر من جحيمه إلى الآخر متلبسًا بوهم الخلاص، والذي يجسد في حقيقته الانتحار في إحدى صوره، فالاندفاع القاتل نحو سراب الفردوس صنع من هذا الوهم تيمة ساوت بين مصائر جل النماذج في عدالة مروعة، إذ إن عنف الصدام سحب البساط أمام أي فرصة لحوار الذات مع عقلها الباطن، وكانت النتيجة ردود أفعال في اتجاه خاطئ، فسلطانة وابنتها حورية يهربان من شبح العنوسة ويرتميان في أحضان الحوذي السكير، ويتمزق جسد سلطانة مرة أخرى بزواجها من عبدالرحمن الغاوي.
بالإضافة إلى علاقة غير شرعية مع حسين عامل المقهى وفي سياق يرسم ذات التيمة تتشظى أحلام منصور بائع السمك عند عتبات دكان تاجر الذهب الذي رفض أن يزوجه ابنته زهرة، فيرخي القدر ستار الفصل الأخير على حياتها باغتصابها على يد الفقيه مصباح.
إن انكفاء النماذج وطبيعة ظروفها يحدد مجال دوران واتجاهات تطلعها الذي وظف كليًا لتهشيم ثابوا الجنس والذي بدى مكتسحًا صورة المشاهد في الرواية وأحد أهم مفاصل التحكم النفسي لصيرورة حياة الشخوص.
قد تكون البيئة القاسية أنتجت ضحاياها على نحو مأساوي، فهل كان ضرورة أن يصبح الجنس عراب سقوطها القاتل؟، وكيف يمكن فك شيفرة التكوين السيكولوجي لها، إلا إذا كان بالإمكان النظر لتحولاتها، من زاوية أخرى تمنح فرصة تصحيح الخطيئة ولو حتى من باب المحاولة في اتجاه فتح مسارات أخرى للتحرر من عقدة النظر في ممر مظلم حجب فضاء الرؤية وجعل السواد سديمها الأبدي، فالشاويش عبد الله نموذج السلطة يصبح سجين جنون السيطرة واللذة اللذين أوهماه بأن جسد نجمة هو نقطة تقاطع لهما «سوف يبدأ بها ولكن من غير أن يشويها على النار والتي يفضل إنزالها بأقطاب المعارضة الذين يطلون برؤوسهم من وراء الستائر القاتمة كالفئران المذعورة» (ص9) الجزء الثاني، الشاويش «الذي تربى في حواري المدينة القديمة وأزقتها التي لا يكن أهلها للمرأة سوى الاحتقار الموروث من عصر الباشاوات الأتراك وزمنهم الموبوء فكان لابد أن يتعلم أبجديتهم » (ص12).
ربما تسرب إلى خيال الشاويش النسخة المشوهة من الطموح ولكن ذلك لا يعني أن هذه الأبجدية هي كل رواسب حواري المدينة القديمة، كما أن الفقيه مصباح لا يتذوق أحلامه إلا عبر أمنية إيقاع زهرة في شباكه، فهو لا يراها إلا بعين الحرمان والكبت، اللذين جعلا حورية «تجرد الشيخ عبدالرحمن الغاوي من كل أسلحته الصدئة» (ص22)، وبقوة الدافع ذاته «سيحرص تاجر العجول على لعق أصابع نجمة بعد الأكل كما لو أنها أصابع من السكر» (ص111)، ولا يبدو المعلول عالم نجمة الأول خارج بيت الدعارة إلا شخصية باهتة لبحار متسكع وبائس ولا يجد في جسده إلا بطاقة دخول لجسدها, حتى إن سرعة استسلامه لها شحذ الحواس نحو انجذاب مخيف قطع الطريق أمام أي شكل من أشكال التفاعل الإنساني.
إننا لا نستشعر حركة الشخوص إلا بوجود فيزيائي تبنى عليه نقطة الانطلاق والرجوع، حتى لو جاء ذلك على حساب جمالية البعد الواقعي، وهو لا يقود للبحث عن تحوير في سلوك الشخصيات أو خلق نموذج مثالي، إنما الواقعية حيث هامش الخطأ والصواب، والخير والشر، خصوصًا وأن المرونة السردية في «ليالي نجمة» تتيح إمكانية استنطاق مفردات العناصر المكونة لفضاء العمل على مستوى أعمق.
وفي المقابل نرى في علاقة زهرة ومنصور الجانب المفقود والوحيد مقارنة بنماذج الرواية، وهي علاقة الحب البعيدة عن لغة الجسد، فبالرغم من كونها نشأت مكبلة إذ كيف تستطيع زهرة الخروج من عالمها الموسوم بالدوار وزبد الأمواج، وهي لا تملك قوة أسطورية بحيث تقوم على هدم السور الضيق الذي حجب عنها ضوء الشمس.
بالإضافة إلى أن منصور صب نفسه في قالب من الطين ولم يحاول مرة واحدة تحطيمه أو الخروج منه لإثبات رجولته ولكن تظل علاقتهما مشبعة وفوارة بدفق الانفعالات الوجدانية، بين الشاب الفقير والفتاة المحاصرة وسط زحام المتناقضات، يتحول المصير إلى ما يشبه إلقاء حجر في بركة مجتمع صارم لا يقبل التغيير، لذلك لم تستطع زهرة هدم السور، وفي محاولة لمقاومة السقوط يرفع بائع السمك المغبون نداء الخروج من قالب الطين، بالبحث عن معنى آخر لوجوده بتحويل هزيمته إلى تمرد ضد السلطة.
يذكرنا بعلاقة فهمي ومريم في رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ والتي لم يقدر لها الاستمرار، واستوعب فهمي الصدمة وحولها إلى انتصار بالانضمام إلى صفوف الثوار، منصور وفهمي أرادا هزيمة الانكسار في داخلهما وإخراجه من دائرة انفعالاتهما، وربما يكون ذلك هروبًا من الواقع، وهو في النهاية هروب إلى الأمام وليس إلى الخلف.
إن البغاء الذي التهم مشهدية العمل، لم يحقق المتعة ولا أحلام أبطاله الذين ظلوا يركضون خلف سرابه حتى تصدمهم الحقيقة، وما صورته مسرحية الشرفة للكاتب الفرنسي جان جينيه، ففيه يلوذ الرجال ليعيشوا خيالاتهم الجنسية في عالم من الأحلام البعيدة عن حياتهم الكئيبة، فيه يرتدون ملابس الأساقفة وجنرالات الجيش ويتصورون أنفسهم مغاوير وهم يواقعون البغايا.