شخصيات

الشيخ الزاوي والدكتور الطناحي

 .

محمد خليل الزروق

 .

التقيا مُصحِّحَيْنِ للكتب في مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة (دار إحياء الكتب العربية)، واشتركا – فيما يبدو – في تحقيق النهاية لابن الأثير.

 

وُلد الشيخ الطاهر الزاوي سنة 1890 وتوفي سنة 1986، ووُلد الدكتور الطناحي سنة 1935، وتوفي سنة 1999، فالشيخ الزاوي يكبر الطناحي بخمس وأربعين سنة، أي هو في طبقة شيوخه، بل شيوخ شيوخه.

لكن هذا اللقاء في المهنة، والاشتراك في العمل، والاتفاق في الاهتمام بعلوم العربية والتراث لم يجعل الطناحي – وهو الوفي لكل من لقيه من شيوخه وأقرانه وتلاميذه من أهل العلم، يثني عليهم، ويحفظ عهدهم، ويذكر فضلهم – لم يجعل ذلك الطناحي يخط كلمة ثناء على الشيخ الطاهر الزاوي، بل ذمَّ عملَه في ترتيب القاموس المحيط، ولم يذكر من أمر كتاب النهاية لابن الأثير إلا أنها من تحقيق الطناحي وحده !

فما الأمر ؟ وما الذي كان ؟

الشيخ المصحِّح والْمُراجِع بالمطبعة:

كانت مصر مُهاجَر الشيخ الزاوي بعد الغزو الإيطالي لليبيا، ورَدَها سنة 1912، وبقي فيها إلى سنة 1919، ثم عاد إليها سنة 1924، وبقي فيها إلى سنة 1969، ولم يعد في هذه المدة إلى ليبيا إلا زائرًا ثلاث مرات: سنة 1950 وسنة 1964 وسنة 1968. ودرس في مدة إقامته في مصر في الأزهر، وحصل على العالِمية منه، وكان اشتغاله وهو في مصر بثلاثة أمور: بالعمل الوطني في مقاومة الاستعمار، وبالعمل العلمي في التأليف والتحقيق، وبالعمل المعاشي لكسب الرزق.

وحكى الطناحي من أمر الشيخ الطاهر الزاوي أنه: ” كان يعمل مصحِّحًا بوزارة الأوقاف المصرية، وحين أحيل إلى التقاعد عمل مصحِّحًا بمطبعة عيسى البابي الحلبي ” ( تاريخ نشر التراث ص188 ).

ومهنة تصحيح الكتاب – على ما حكى الطناحي نفسه – كانت مهنة العلماء وطلاب العلم في تلك الأيام، قال: ” ولقد كان من سمات المطابع في القرن الماضي ( التاسع عشر ) وشطر كبير من هذا القرن العناية الفائقة بالتصحيح والمراجعة، فكان المصحِّحون من العلماء المتميزين، وكانوا يقومون بما يقوم به المحققون الآن وإن لم يضعوا أسماءهم في صدر الكتب ” ( الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر 141 ).

وعرَّفَنا الشيخ يوسف القرضاوي – أمتع الله ببقائه ! – أن الشيخ الطاهر الزاوي لم يكن مصحِّحًا في مطبعة عيسى الحلبي فحسب، ولكن كان يرأس لجنة علمية وُكل إليها النظر في أمر إجازة الكتب التي تنشرها المطبعة، فذكر أنه دفع كتاب الحلال والحرام – وهو أول كتاب يؤلفه الشيخ القرضاوي ( ابن القرية والكُتّاب 2/291 ) – ” إلى دار عيسى الحلبي للطباعة والنشر، لتنشره ضمن كتبها، فسلَّمتِ الإدارةُ الكتابَ إلى اللجنة المكلفة بمراجعة الكتب، وكانت برئاسة الشيخ طاهر الزاوي العالم اللغوي الشرعي الليبي، الذي كان يعيش في مصر، وقد عُيِّن مفتيًا للجمهورية الليبية بعد ذلك، وكان من المصحِّحين معه الأخ الباحث الأزهري مصطفى عبد الواحد ( د.مصطفى بعد ) فأثنى على الكتاب خيرا، وأوصت اللجنة بطباعته ” ( ابن القرية والكُتّاب 2/296 ).

الفتى الناشئ بالمطبعة:

كان هذا سنة 1960، كما هو تاريخ الطبعة الأولى من الحلال والحرام، وقريبًا من هذا الزمن بدأ عمل الطناحي في المطبعة، يدل على ذلك أن كتاب النهاية لابن الأثير نشر في مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1963، قال الطناحي: ” وقد عملتُ مصحِّحا بهذه المطبعة في صدر شبابي ثلاث سنوات، كانت كلها خيرًا وبركة علي، فقد تعلمت من تصحيح الكتب الشيء الكثير، وعرفت من العلماء المتردِّدين على المطبعة العدد الكثير، وخرَجَتْ أعمالي الأولى منها، فلها فضل علي ظاهر. وكان صاحب المطبعة محمد عيسى الحلبي – رحمه الله ! – من فضلاء الناشرين، وكان يدقق كثيرا فيما يطبع، ثم كان يلجأ إلى أهل الشأن والخبرة يستفتيهم، وكان أكثر تعويله على خبير المخطوطات والمطبوعات الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب، رحمه الله ” ( مدخل إلى تاريخ نشر التراث ص52 ).

وكان من المتوقع أن يكون الشيخ الطاهر الزاوي من العلماء الذين انتفع بهم الطناحي في هذه المطبعة، وقال فيهم: ” وفي هذه المطبعة تجمعت عندي روافد كثيرة عن تاريخ الطباعة في مصر، وذلك من خلال كبار المصححين الذين عملوا بالتصحيح بمطبعة بولاق، وحين أحيلوا إلى التقاعد عملوا بمطبعة الحلبي، وكنت كثير المجالسة لهم والرواية عنهم ” ( الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر ص8 ).

فقد تخرَّج في هذه المدرسة، وتعلم فيها، كما تعلم غيره من العلماء المحققين، وقد ذكر بعضهم فقال: ” وتصحيح الكتب كان ولا يزال المدرسة الأصيلة لتخرج العلماء، وفي هذه المدرسة تخرج الأخوان الفاضلان الدكتور عبد الفتاح الحلو والدكتور مصطفى عبد الواحد، فقد عملا زمنا بمطبعة عيسى البابي الحلبي، هذه الدار العريقة في نشر الكتب، وقد صحح الأخوان كثيرا من كتب التراث كانت لهما عدة وعتادًا فيما استقبلاه بعد ذلك من أعمال ” ( مقالات الطناحي 1/133 ).

وفي النفس أشياء:

في سنة 1960 كان عمر الطناحي 25 سنة، وعمر الشيخ الزاوي 70 سنة، فهذا لقاء المبتدئ بالمنتهي، والناشئ بالشيخ المستحصد، والطالب بالعالم الذي يُنتفَع به، ككل من ذكر الطناحي في كتبه ومقالاته من العلماء الذين انتفع بهم على تفاوت في ذلك.

ولكن الطناحي لم يذكر الزاوي إلا مرة واحدة في كتابه: تاريخ نشر التراث، عند الكلام على نشر التراث في ليبيا، فذكر أن من جهود الليبيين في ذلك ما نشره العلماء والأدباء في مصر، ” ومنهم الشيخ الطاهر أحمد الزاوي، الذي كان يعمل مصحِّحًا بوزارة الأوقاف المصرية، وحين أحيل إلى التقاعد، عمل مصحِّحًا بمطبعة عيسى البابي الحلبي، وقد نشر بهذه المطبعة كتاب الكشكول، لبهاء الدين العاملي، ونشر في غيرها: ترتيب القاموس المحيط، وجهاد الأبطال في طرابلس الغرب، وتاريخ الفتح العربي في ليبيا، وأعلام ليبيا “.

فلم يذكر كتاب النهاية، ولا كتب الشيخ الأخرى التي هي من سبيل تحقيق التراث، وهي إلى حين تأليف الطناحي كتابه سنة 1984: التذكار لابن غلبون، والمنهل العذب لأحمد النائب، وديوان البهلول، والضوء المنير المقتبس للفطيسي، ومختصر خليل، ثم بعد ذلك: نظم مثلثات قطرب لإبراهيم الأزهري، ومنظومة الفرُّوخي في الضاد والظاء، والدرر المبثّثة للفيروزبادي.

وكَتَبَ تحت الكلام السابق في الهامش تعليقًا على ذِكْر ترتيب القاموس المحيط: ” رتَّبه على الحرف الأول والثاني والثالث على طريقة أساس البلاغة، والمصباح المنير. ولم يُكتَب لهذا العمل القبول والذيوع. وقد عمدت دار المعارف بمصر أخيرا إلى لسان العرب فأخرجته على هذه الصورة. وكل ذلك مما لا خير فيه، ولا فائدة منه. والأَوْلى أن نُدَرِّب أبناءنا على التعامل مع المعاجم العربية في مختلف مدارسها وأنماطها ” ( تاريخ نشر التراث ص 188 ).

فإذا أسقطنا ذكر نشرة دار المعارف من لسان العرب، صار الكلام: لم يُكتب له القبول والذيوع، وهو مما لا خير فيه، ولا فائدة منه !

وهذا غير مُسَلَّم ؛ فإن هذا الكتاب وُضع للناشئة والشُّداة تيسيرًا وتقريبًا، وفيه غير الترتيب على الحرف الأول تصحيح وضبط وتعليق، وفيه تفصيل في الطباعة وتوسعة وتوضيح. وما زال المؤلفون يقرِّبون الكتب بالترتيب والتهذيب والاختصار، والناشرون بحسن الطباعة، وجودة الإخراج. وقد اختصر الشيخ من هذا الترتيب مختارًا في جزء صغير سماه: مختار القاموس، كان يُمْنَحُه طلاب المدارس، فكان في زمن لا يكاد يخلو منه بيت. وهذا لا يناقض تدريب المتعلمين على طرق ترتيب المعجمات المختلفة.

ونُشر ترتيب القاموس المحيط للشيخ الزاوي في مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1959، ثم في مطبعة عيسى الحلبي سنة 1973، ثم في الدار العربية للكتاب سنة 1980 مصوَّرًا عن طبعة الحلبي، ونُشر المختار منه في مطبعة الحلبي سنة 1964، ثم في الدار العربية للكتاب سنة 1981 مصوَّرًا أيضًا عن طبعة الحلبي. وبهذا لا يقال: لم يكتب له الذيوع والقبول.

وكان الدكتور الطناحي قال في نشر التراث في ليبيا: ” أما ليبيا – ونحن نكتب للتاريخ – فليس لها جهود بارزة في نشر التراث، إلا ما تراه من نشرها لكتاب تاج العروس للمرتضى الزبيدي مصوَّرًا عن نشرة المطبعة الخيرية بمصر، ذات العشرة الأجزاء سنة 1306. وقد صدرت هذه الطبعة المصورة عام 1386 هـ = 1966 م على مطابع دار صادر ببيروت، لحساب دار ليبيا للنشر والتوزيع ببنغازي.

” ثم كان تعضيد من الجامعات الليبية لنشر أعمال أعضاء هيئة التدريس بها، مثل كتاب نتائج الفكر للسهيلي، بتحقيق الأخ الدكتور محمد إبراهيم البنا، وشرح الرضي على الكافية، بتحقيق العالم الفاضل الشيخ يوسف عمر، رحمه الله، وكتاب حجة القراءات لابن زنجلة، وكتاب الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب، لأبي نصر الفارقي، والكتابان بتحقيق العالم السوري الكبير الأستاذ سعيد الأفغاني.

” ومن وراء ذلك فقد كان علماء ليبيا وأدباؤها ينشرون إنتاجهم بمطابع مصر، ومنهم الشيخ الطاهر أحمد الزاوي … إلخ ” ( تاريخ نشر التراث ص187 ).

والبلدان في نشر التراث فيما وراء مصر والشام والعراق والهند – متقاربة لا يمتاز فيها بلد عن بلد، حتى يقال في بلد: ليس له جهود بارزة !

وترك الدكتور هنا ذكر الدار العربية للكتاب المشتركة بين ليبيا وتونس، وقد نشرت قدرًا صالحًا من الكتب، وذكرها عند الكلام على تونس ( ص190 ).

النهاية لابن الأثير:

وأما كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير فقد صدر عن مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1963 وعلى الأجزاء الثلاثة الأولى منه: تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، وعلى الرابع والخامس اسم الطناحي فحسب. وعلى هذا سار ذكره في ترجمة الطناحي بقلم ابنه في: “الطناحي ذكرى لن تغيب”، ومجموع مقالاته، وكتاب أحمد العلاونة عنه. ولما صَوَّرت المطبعة نفسها الكتاب في السنين الأخيرة وضعت الاسمين على كل الأجزاء.

والشيخ الزاوي في ترجمته لنفسه في كتاب مجمع اللغة العربية في تراجم الأعضاء المراسلين يذكر من أعماله: ” تحقيق الجزأين الأولين من كتاب النهاية لابن الأثير ” (الأعضاء المراسلون 87 ).

والدكتور الطناحي في فهرسة المراجع في خواتيم كتبه ومقالاته يذكر الكتاب على أنه من تحقيق الطناحي وحده، بل صرح في غير موضع بأنه انفرد بتحقيقه، وبكتابة مقدمته، فقال في مجموع مقالاته المسمى: “في اللغة والأدب”:

” النهاية لابن الأثير بتحقيقي ” ( 1/31 ).

” انظر مقدمة تحقيقي للنهاية ” ( 1/397 ).

” انظر مقدمتي لتحقيق النهاية ” ( 1/406 و412 و427، ومقدمة منال الطالب 1/10 ).

” … الطبعة العثمانية من النهاية، وهي من أدق الطبعات قبل طبعتي ” ( 1/416 ) وقال: ” وقد أفدت من هذه المطبوعة في نشرتي للنهاية التي صدرت عن مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1383 هـ = 1963 م ( تاريخ نشر التراث ص45 ).

” وحين أخرجتُ طبعتي من النهاية التقطت فوائد وزيادات الدر النثير، ووضعتها في حواشي الطبعة “، ثم في الهامش: ” صدرت هذه الطبعة عن مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة عام 1383=1963 في خمسة أجزاء. وقد أصاب هذه الطبعة ما أصاب غيرها من عيون كتب التراث، فقد أغار عليها مصورو الكتب في بيروت، وأصدروا منها طبعتين دون أخذ إذن مني. ففوَّتوا عليَّ بذلك فرصة استدراك ما فرط من هنات وزلات، فلقد كان عملي في هذا الكتاب من أوائل اشتغالي بالعلم. لكني أحمد الله أن وفقني لصنع فهارس جامعة لذلك الكتاب العظيم، وفي هذه الفهارس خير كثير إن شاء الله، وقد أفاد منها كثير من طلبة العلم “. 1/426-427.

وفي كتاب “محمود الطناحي” لأحمد العلاونة أن الأجزاء الثلاثة الأولى بالاشتراك والرابع والخامس بانفراد الطناحي، وفي الهامش: ” هكذا كُتب على الغلاف، ويقول العارفون: إن الكتاب كله حقق من قبل الطناحي، ويؤيد ذلك أن الطناحي عندما يذكره في مراجع كتبه يفرد نفسه في التحقيق ” ( ص48 و107 ).

وهذا الإلحاح من الطناحي على نسبة التحقيق إليه يدل على إرادته نفي المشاركة فيه. وكلاهما عندي مصدَّق فيما يقول، ولكن في الأمر تفصيلاً لا نعلمه.

الشيخ الشديد:

وقد عُرف في الشيخ الطاهر الزاوي شدَّتُه، وليس هذا بمستغرب في خُلق رجل عرَكه الدهر، وتقلَّبت به الأيام، وتنقَّل في الأقطار، وخاض معارك الجهاد، وعرف لَذْع الغربة، ومِحَن الزمان.

وعُرف في محمود الطناحي لينُه ورقته، وخفَّة روحه، وسماحة نفسه، حتى قال فيه الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب – رحمه الله ! – يصفه: ” … الحبيب الودود الهين اللين الرقيق الرفيق … هو من أولئك القلائل الذين يقذف الله حبهم في قلوب عباده، فهو “حبُّوب” بمعنى الكلمة العامي … ” ( محمود الطناحي ذكرى لن تغيب ص112 ).

وهكذا تختلف الأخلاق، ويختلف الرجال، وتحمل النفوس ما تحمله، ولولا نزغ الشيطان ونفثه ما تكدَّر خاطر، ولا وجِع قلب، ولا نفرت نفس من الموافق في العمل والهوى والسبيل.

رحمهما الله، وغفر لهما، وزاد النفع بما خلَّفاه من علم !

بنغازي: 22/11/2010

عن موقع جيل ليبيا

مقالات ذات علاقة

سيرة الفنان إبراهيم حفظي

رامز رمضان النويصري

المبروك الزول.. المناضل والشاعر الذي تنبأ بالثورة .. الحلقة الثالثة والأخيرة

المشرف العام

هكذا تعرفت إلى الفقيه.. وهكذا ودعته

بشير زعبية

اترك تعليق