د. الصديق بشير نصر
● سيكولوجيا السجّان
«كانت آلة القمع التي اعتادت على سحق الزهور يؤذيها العبقُ النّديُ، لأنها تعيش في المستنقعات الآسنة» طريق جهنم ص 309
يتفنّن المستبدون والطغاة في اختيار جلاديهم ليتفننوا في تعذيب ضحاياهم، فيختارونهم من بين الأشقياء من شياطين الإنس، ومن الأغبياء أصحاب الوجوه المتجهمة الصارمة القسمات، المفتولي العضلات، تكاد عيونهم تقدح شرراً من فرط نشوتهم وهم يتلذذون بتعذيب المسجونين وكأنهم ذئابٌ ضاريةٌ تفتك بفرائسها. نمط من الناس قُدّت قلوبُهم من الصخر، بل هم أشدّ قسوة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ}. البقرة 74.
لقد حاول الروائيُّ أيمن العتوم أن يعطي تفسيراً لشخصيات السجّانين ما وسعه ذلك، فأجرى كلاماً على لسان (علي العكرمي) بطل الرواية بأنّ أوّلَ شعور ينتاب السجينَ نحو سجّانه أنه ليس من البشر:
“لكننا لم نكن نملك في الزنازين إلا أجسادنا ! حتى أجسادنا لمتكن لنا، بل كانت مرتهنة لسلطة جلاد لا يعرف الإنسانية، ولم يعد يتذكر أنه بشر.” ص 195.
ونزع البشرية عن الإنسان لا يكون أبداً إلا إذا شوهدت منه خصالٌ لا يتصف بها البشر. ومن البدهيّ أنّ كلَّ سلوكٍ يصدر عن الإنسان يفسّر ما تنطوي عليه خبايا نفسُه. وكثير من السلوك البشري يعكس خصالاً حيوانية دفينة، كالميول العدوانية، والتربّص، والمخادعة، والمخاتلة، والمكر، والافتراس. والبشر عندما تتغلّب غرائزه على عقله، ويفقد السيطرة على إشباعها بأيّ طريقة يتحوّل سلوكياً إلى حيوان، ويتحوّل من المملكة الإنسانية إلى المملكة الحيوانية وإن ظلّ في جسد بشري لا مخالب له ولا براثن، ولكن له قلبٌ أسودُ يملؤه الحقد والبغضاء.
والسجّان في السجون السياسيّة في العالم العربي على وجه الخصوص إنسانٌ مُستذئبٌ، جيىء به ليشبعَ غرائزه البهيمية، فيسْقِطَ كلَّ أمراضه النفسية على من في قبضته. ورواية (طريق جهنم) استعرضت نماذج لهؤلاء المستذئبين، ومنهم مدير السجن الذي يُدعى عامر المسلاتي الذي ربما تتحقق فيه نظرية عالم النفس الإيطالي لامبروزو الذي يربط بين الشخصية ومعالم الوجه. فهو يرى أنّ الوجوهَ الغليظةَ التقاطيع والقسمات، الحادّة النظرات، تعكس نزعةً إجراميةً، وتوجد في جميع المجرمين. وإن كان هذا لم يُسلّم له به لأنّ كثيراً من المجرمين ترى في وجوههم رقةً وعذوبةً، وفي ملمسهم ليونة، ولكنها كلُيونة الأفعى:
“كان حِنطيَّ البشرةِ، فارعَ الطولِ، قويّ البنية، كبيرَ الرأسِ، ممتلئ الخدّين، يتهدّل شارباه الغليظان فوق شفتيه، وتتدلّى بطنه أمامه قليلاً. لم يبتسم لشروق الشمس مرّةً، ولا حتى للرغيف (السُّخن) كما يقولون. كان دائم التجهّم كثيرَ الازدراء والشتيمة لكلّ من يُقابله. إذا ظهر في الآريا (الساحة) ظهرت معه الكوارث، وإذا مشى جرّ خلفه المصائب. ما رأيناة (مرةً) إلا عمّنا الشرّ، وحفّت بنا الخطوب، ونزل بنا العذاب. لم يكن هذا تطيُراً، فلقد عشناه حقيقةً عشرات المرّات.” ص 238.
كان هذا السجّان يتقمّص شخصية سيده (العقيد) في سلوكه وفي طريقة كلامه، وفي ملبسه. ذلك السيد يتعمّد الكلامَ بلهجة البدو، فيقلده هذا أو ذاك وهم من المحسوبين على الحضر. إذا ظهر سيدهم يوماً متعمّماً بخرقةٍ خضراء، فلا يصبح الصبح حتى ترى تلك القردة وقد صنعت مثله. وسيدهم وضع حذاءه العسكري مرّةً على شاشة التليفزيون في وجوه المتفرجين لساعات، حتى تعجب الناسُ وتساءلوا هل انقطع البث التليفزيوني؟، ولن يلبث ذلك طويلاً حتى يصبح ذلك الفعل السخيف سلوكاً عند الأتباع فلا يتحرجون من وضع الرجل على الرجل في قبالة محدثيهم!!
“[..] يجلس على كرسيٍّ فخمٍ في منتصف مدخل العنبر، ويضع رجلاً فوق رِجلٍ، ويُحرّك في يده عصاه التي دائماً ما تظلّ ريّانةً من دمائنا السائلة فوقها، ثم يبدأ يكيل لنا ما تيسّر من الشتائم، وينعتنا بما استقذر من الصّفات، ويهددنا بشتى أنواع العذاب. وكان يمقتُ كلّ شيءٍ ويكره كلَّ أحدٍ. وما من شكٍّ في أنه كان يمقتُ نفسه ويكرهها، وإلا لما فعل ما فعلَ. وكان مقتنعاً بأنه خطيبٌ مفوّه، ومحاورٌ لبيب، ومفكر عظيم [..] كان يُجلِسُنا الساعات الطوال وهو يستعرض قدراته الكلامية التي هي محض ثرثرة مؤذيةٍ، وكان يبدو وهو يتكلّم بهرائه في غاية السعادة، مزهواً بحرّاسه المحيطين به.” ص 274.
وصورة الزهو هذه مُنتزَعَةٌ من سلوك سيده (العقيد) الذي أُدْخلَ في رُوعِه أنه فيلسوفٌ ومفكّرٌ، وأنه سيد البلغاء، وأنه باقعةٌ من البواقع فصدّق أنه خطيبٌ مفوّه وهو عَيِيٌّ حَصور. وهكذا شأنُ كلّ مستبدٍ أحمقَ على مرّ الناريخ ُتُزيّن له بِطانةُ السُّوء من حوله كلَّ قبيحٍ ومنكرٍ. وأنّ يكون اسمُ السجّان هو المرادف للموت عند السجين المنكِسر القلب والجناح، فتلك صورةٌ تولّد في النفس إحساساً بالرعب أكثر من الرهبة التي تصحب الموتَ نفسَه، لأنّ الموتَ يأتي خِفْية وفي غير ميعاد، وهذا الموت المتمثل في السلوك البشري تراه كلّ حين يتجسّد أمام ناظريك، وتبصر في عيني صاحبه الغائرتين كلَّ معاني الحقد والكراهية والشماتة. والموت الحقيقي لا يفعل ذلك.
“كانت رؤية وجه عامر المسلاتي مدير السجن تعني الموت. كان يتسلّى بالقتل، ويتلهى بالذبح، كان يأخذ البطانية التي تتغطّى بها، ويلفّها حول عنق السجين، ويقوم بخنقه بيديه حتى يفارقَ الحياةَ. قتلَ عدداً كبيراً بهذه الطريقة، لم يكن يفعل ذلك مع عنبرنا فحسب، كان يفعلها مع العنابر كلّها، حتى سمّيناه عامر الخنّاق”. ص 270.
الجهل، والتجبر، والقسوة، وأكل الحرام، والتلذذ بإيداء الآخرين صفاتٌ مشتركة بين السجانين، حتى لكأنهم تخرجوا في مدرسة واحدة، وتلقوا على المعلمين أنفسِهم. وحينما يتحوّل القتلُ عند هؤلاء الزبانية إلى لذة، واللذةُ استمتاعٌ، واللذة تطلب اللذة، فتتحوّلَ إلى مرضٍ عُضال.
“كان قمةً في الجهل. قلبُه قُدّ من الصخرِ. لا تعرفُ الرحمةُ سبيلاً إلى قلبه. لا ينطق إلا كفراً. يستمرئ السُّحتَ، ويتلذّذ بأذى الآخرين، ويلغ في الدماء، ويلذّ له القتلُ بالخنقِ على القتلِ بأيّ وسيلةٍ أخرى.” ص 275.
وإذا صاحب المرءُ الحيواناتِ الضارية، وساكن الهوامَ، وعاشر الوحوشَ، وتَبَدّى بعيداً عن الإنس انتقلت إليه طباعُها، أو على الأقل شيءٌ من سلوكها وغرائزها، كما هو الحال مع البدوي الذي يعيش في بيئة مفتوحة كالصحراء لا يأمن على نفسه فيها الغائلة، فتراه ينام متحفزاً وهو يقظانُ، كالذئب: عين يقظة وعين غافية . وحواسه الأخرى، كالشمِّ والسمعِ، لا تعرف النومَ، يستثيرها من بعيدٍ كلّ خطرٍ.
إذا كان ذلك مع أولئك المتبدّين، وقد فرضت عليهم بيئة البداوة هذا النمط من السلوك، فما بال هؤلاء الذين نتحدث عنهم، وهم على الأغلب من الحواضر والمدن؟ هل ذلك نوعٌ من العدوى تسري في الجوّ، فتسقط على هؤلاء دون غيرهم، فتجري في أجسامهم وأدمغتهم مجرى الدمّ؟
كان أحد هؤلاء الجلاوزة برتبة عقيد ويدعى على بوشعالة، لا يُرى في السجن إلا وهو يسوق معه قطيعاً من الكلاب المتوحشة يُروّع بها المساجين المستضعفين:
“[..] كنّا نسميه عقيد الكلاب، لأننا لم نره مرّةً واحدةً في جياتنا دون أن تكون معه زمرة ٌ كبيرةٌ من الكلاب المُدرّبةِ [..] بدأت المرحلةُ الأشدُ رُعباً. أُطلِقت الكلابُ المدرّبةُ علينا. بدأت تنبح بشدّةٍ، وراحت تثِبُ في وجوهنا ، وتنهش لحومَنا. كانت مُدرّبةً على نهشِ المناطقِ الحسّاسةِ من أجسادنا. الأفخاذ، الأقفية، وموضع الخصيتين. من فوقنا كان الحرسُ يتأهبون لإطلاق النار على كلِّ من يحاول الفرارَ. كُنّا فقط نحاول ألا تنال نيوبُ الكلابِ من وجوهنا، اتقيناها بأيدينا، وسمحنا لها أن تنهش ما تبقى من أجسادنا. اختلطت صيحاتُ الألم بالنُّباحِ المسعور بِصياح الحرس وتهديداتهم بالقتل، بقهقهات عامر المسلاتي و بوشعالة [..]. لم يبق أحدٌ من نزلاء العنبرٍ كلِّه بزنازينه العشر إلا وعقره كلب في موضعٍ ما من جسمه أو نالته هراوةٌ.” ص 240-241.
ببراعة المصور وريشة الفنان يرسم أيمن العتوم صورة حقيقية للحالة النفسية التي يعانيها السجين وهو يواجه تلك الكلاب الضارية، وليس له ما يدرأ عنه نيوبها الحادّة إلا ثيابه المُمزّقة المهلهلة. ومن العجيب أنّ المسجون بات يدرك شيئاً من طباع تلك الكلاب وسلوكها الغريزي الذي أفسده البشر بالتدريب، وإخراجه من طور الاستئناس إلى طور التوحّش: متى تهجم، وكيف، وأين تنهش؟. تخيّل السجنَ غابةً كثيفةً تجوس خلالها السباع الضارية: ذئابٌ، وضِباع، ونمور، تنبعث من جوانبها ومن خلف كلّ أجمةٍ فيها رائحةُ الموتِ، تطارد جميعها ضحيةً واحدةً أو أكثر. تمثّل هذه الصورة، وقلّبها في عقلك، فماذا ترى؟ لا شكّ أنك ستقول: “صورة رائعة”. نعم صورة رائعة، ولكن بشرط ألا تكون أنت فيها، هكذا كان فيلسوف الجمال الإيطالي بنيديتو كروتشه Croce يقول لمن يتأمّل في صورة لقاربٍ تتقاذفه الأمواج في مضيق ضخري، والملاحُ يجاهد لينجو بما تبقى من قاربه وقد تمزّقت أشرعته، وتكسّرت مجاذيفه: “ كيف ترى هذه الصورة. أليست رائعةً وجميلةً؟”. ستجيب فوراً: “بلى”. لكنه يستدرك عليك بما يقطع تأملاتك في اللوحة وخيالاتك المجنّحة، قائلاً: “تخيّل أنك في وسطها، وتصارع مع ذلك البحار. هل تبقى جميلةً بعدُ؟”. حينئذٍ يضيع الجمال، ولا يبقى إلا الجلال. والجلال هو الجمالُ المصحوب بالرهبة. أنت خارج اللوحة ترى جمالاً، ومن داخلها ترى جلالاً ومهابة. وبالمناسبة التفريق بين الجمال والجلال لم يكن فلاسفة الغرب يعرفونه حتى اطلعوا عليه عند محيي الدين بن عربي الطائي في إحدى رسائله.
“كُنّا نشعر أننا مُحاطون بآلاف السّباع المفترسة، ونحن مُخيّرون بين الموت والموت، نركض هرباً منه فنجد أننا نهربُ إليه. كان الهربُ من السبع الفاغر فاه خلفك يبدو مثيراً للضحك. فأين تهرب وكلّها من حولك تفغر فاهاً لتصطادك. اكتشفنا أنّ خوفَنا منها يثيرها أكثر، يجعلها تشمّ رائحة ذلك الخوف فتنقضّ علينا. أدركنا أنّ الركضَ لا معنى له، الهربُ لا قيمةَ له، وأنَّ أفضلَ شيءٍ في هذه الغابة المضمّخة بالموت أن تتظاهر باللامبالاة، أن تتظاهرَ بأنّ كلّ شيءٍ يسير بشكلٍ طبيعيٍّ.” ص 250-251.
(عقيد الكلاب) ضابطٌ معتوه ساديّ السلوك، اختير بعناية لأداء مهمة لا يقوم بها الأسوياء من البشر. لم يبق في زوايا عقله من ركنّ إلا وقد تفسّخ وامّحى إلا ركناً واحداً وهو النزوع نحو الترهيب والترويع. قال مرةً لأحد السجناء، واسمه سويسي قرقوم، وما نظنه صدق في حياته إلا هذه المرّة: “لو كنتَ حماراً مثلي ما أتوا بك إلى السجن.” ص 272.
ولو صحّت هذه العبارة، ولم تكن من صنع خيال المؤلف أو الخيال المتشظي للسجين المقهور، فإنها أحسنُ عبارة تصف حال هذا النموذج المريض. غير أنّ حال هذا المعتوه هي أسوأ بكثير من حال الحمار لو كان يعلم. فالحمارُ غير مكلّفٍ وهو مُكلّفٌ، والتكليف مناطُ الحكم، ولا يسقط عنه التكليف إلا بالجنون.
“أُسَرُنا كانت تُنحّي من دمها من أجلِ أن تبعث لنا ما يُخفّف عنّا مِحنةَ السجن، فكان عامر المسلاتي يتسلّم ما تُرسلُه هذه العوائل من بضائع، ويقوم بسرقة ما خفّ وزنُه وغلا ثمنُه. وكان يرشو بعضَ الحرسِ ممن أراد أن يكونَ عصاه إذا بطشَ بنا، فكان الحرسُ ينالون قسطهم من هذه الغنائم التي هي في الأصل لنا.” ص 273.
ولا أدري كيف يستطيب السجّان طعامَ السجين، وهو مغموسٌ بالدم، ولا كيف تراوده نفسه فيسرق متاعه، وقد جاء به إليه في السجن أبٌ عجوز، اجتمع عليه في محنته المرض والزمن، أو أمّ منهكة نهشت الحسرةُ كبِدَها واعتصر الأسى روحَها.
(الطريق إلى جهنم) روايةٌ فاجعةٌ، والفجيعةُ صادِمةٌ، والعلّةُ لا تُعْرَفُ إلا بكشفها وتعريتها، وفي تعريتها ألمٌ مُمضٌّ، ولكنْ في مبضعِ الجرّاحِ الشّفاءُ. يقيناً أن ما ينثال على لسان شخوص الرواية يستبطن معانيَ كثيرةً تكشف عن أسرار خفية، حاول أيمن العتوم أن يميط عنها اللثام. فإن أفلح فذاك، وإلا فحسبه شرف المحاولة.
● ثلاثية الموت والجنون والمرض
ثالوث الموت والجنون والمرض هو مادة رواية (الطريق إلى جهنم). ومن يقرأ بعين قلبه رواية (الطريق إلى جهنم) يجد ألواناً مختلفة للموت، وطعوماً متعددة له، ونكهاتٍ تتفاوت بين محتضرٍ وآخر. من ابتُلي بمحنةِ السجن يموت مرّاتٍ عديدات كلما وقف شبحُ الموت بباب زنزانته ليخطف روحاً من أرواح ساكنيها، ذلك الزائر الذي لا يعرف الاستئذان، ولا يردّه حِجَاٌب ولا حُجّاب. كيف يستطيع الروائي أن يستخلصَ معاني الموت الشفافة من أفواه المحتضرين أو من أفواه المنتظرين:
“في الساعات التي تتربّص عقاربُها بنا ريبَ المنون، المنون الذي كان يأكل ويشربُ معنا، في كلّ ذلك كنّا نرى الفرجَ والفجرَ معاً. ها نحن نخرج من شرنقة العدم، لنصبح وجوداً لا يقبل الامّحاءَ، ها نحن نتبرعم في روضة الأسى ليزداد عِطرُنا تعتّقاً. ها نحنُ نفيق من السبات لنرى الشمسَ ترسم بأشعتها أقدار سعادتنا [..] كلّ جديد له بهجتُه. الموتُ الذي يحمل طعماً جديداً خيرٌ من الموت المكرور المهترئ.” ص 256.
لا شيء أقربُ للمرء من الموت، قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ} الجمعة 8.
“انتظار الموت مُملٌّ هو الآخر.” ص 257.
وهذه الصورة التي يرسمها أيمن العتوم لحالة انتظار الموت تشي بأنّ الموتَ صار مطلوباً لطالبه، والأصلُ أنّ الإنسان يكره الموت ويخشاه، ويتمنى ألا يأتيه أبداً، أو أن يمهلَه بعضَ الوقت ليتهيأ للرحيل، أمّا أن ينتظر وينتظر وينتظر حتى يملّ لفرط الانتظار، فذلك يعني أنّ السجين بات في حالةٍ تستوي فيها الحياة بالموت، وتلك الحالة النفسية التي يُعَبّر عنها باستجداء الموت يقول عنها أبو العلاء المعرّي:
يا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ
ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَك هازلُ
وكيف نجح العتوم في استخلاص هذه التجربة، تجربة الانتظار المملّ للموت، في انتظار الزائر الذي يأتي ولا يأتي، ذلك الانتظار الذي لا يلبث طويلاً حتى يتحوّلَ إلى استجداء ثم إلى استخذاء؟ لا يتحقق ذلك إلا بالمعايشة الذاتية أو بنقل تجربة الآخرين، وربما كان هذا الأخير هو الصحيح. لأنّ هذه التجربة لا يدركها إلا من سُلِخت من عمره ثلاثون عاماً في غيابات السجون. ولو أدركها العتوم وهو لم يمكث تلك السنين الطوال بين الجدرانِ الباردةِ الخرساءَ، إنه – إذن – لمصوّرٌ بارعٌ. والشيء نفسه يجري على النص الآتي:
“رأيتُ أناساً ماتوا تحت التعذيب أمام ناظريّ. كيف يمكن أن أصفَ خروجَ الروح من جسد المعذّبِ، هل يكون الخروج خلاصاً؟ هل يكون الموتُ في هذه الحالة أمنيةً؟. لقد كان كذلك حقاً؛ لكنّ أمنية الموت كانت تجري على ألسنتنا ألف مرّة دون أن تتحقّق.” ص 284.
هل يكون خروج الروح خلاصاً؟ هل يكون الموتُ في هذه الحالة أمنيةً؟ تلك تساؤلات ميتافيزيقية أكثر منها تساؤلات وجودية، ولا تحتمل جواباً واحداً بـ (نعم) أو (لا). وخروج الروح من الجسد لا يعني إلا الخلاص الآني، فقد يكون نقلةً إلى عالمٍ أشدّ رهبةً. نعم، هو فرار إلى عالم أمثل، ولكن لمن سعى إلى ذلك سعيه، وبذل من أجل ذلك جهده، ولا يستوي في ذلك المؤمن بالكافر، ولا العادل بالظالم، ولا الخيّر بالشرير. وأن يتحوّلَ الموتُ إلى أمنيةٍ، وإن كانت أمنيةً عصيّةً متعذِّرةً إلا بقتل النفس أي بالانتحار، يعني أنّ صاحبَ الأمنية قد بلغ به العذابُ والألمُ مبلغاً حتى صار يتمنى ويتطلّع إلى ما يُخوّفُ به. انتظار الموت أشدّ إيلاماً من الموت نفسه، وتخيّل محكوماً عليه بالإعدام يظل ينتظر لسنوات طويلة متى يُنفّذ فيه الحكم. يظلّ يعيش مرعوباً مع كلّ حركة لباب الزنزانة، يتخيّل جلاديه وقد جاءوا يقتادونه إلى عزرائيل. نعم الخوف من الموت أصعب من الموت، وهذه حقيقة غير مُنكرة. وتخيّل تلك الصورة التي رسمها أيمن العتوم للموت، ذلك الوحش الضاري وهو يتجوّل مع السجين داخل الزنزانة، ويرقص بين جدرانها مختالاً يتربص به ينتظر اللحظة الحاسمة التي رسمها القدر للضحية منذ الأزل لينشب فيه أظفاره.
“الخوف من الموت أصعبُ من الموت، وانتظار الموت أشدُّ ألماً من الموتِ نفسِه، والوقوفُ على حافةِ الانهيار أعظمُ بؤساً من الانهيار نفسِه. أعذبُ موتٍ هو ذلك الموتُ الذي يقطع حبلَ الحياة بضربةٍ واحدةٍ، ومن الأفضل ألا تكون مُتوقّعَةً. أصعبُ الموت هو الذي يتحرّك معك في الزنزانة في كلّ لحظة، ويتراقص وحشُه المرعِب أمام ناظريك، ثمّ هو يبقى على هذه الحالة من المراوغة دون أن ينقضَّ عليك في لحظةٍ خاطفةٍ.” ص 285.
شبح الموتِ الذي صوّره لنا أيمن العتوم في روايته وهو يجول بين ضحاياه في الزنزانة، يشعرون به ولا يرونه، صوره أيضاً شاعرُ العربيةِ الكبيرُ أبو الطيب المتنبي في قوله:
وما الموتُ إلا سارقٌ دقّ شخصُه
يصولُ بلا كفٍّ ويسعى بلا رِجْلِ
والتعبير بـــ (معايشة الموت) تعبيرٌ جيّد، ولا أظنه يصحّ إلا مع المسجونين، فها هو ذا يقول عن تلك المعايشة الغريبة الفريدة:
“كُنّا مضطرين للتعايش مع الموت، للضحك في وجهه كلما رآنا، للتسليم عليه كلما مرّ بقربنا، والنوم بجواره مادام ظلّ وادعاً؛ كان التعايش مع الموت يعل منه كائناً لطيفاً.” ص 251.
الموت في رواية (طريق جهنم) خيارٌ وحيدٌ، عبّر عنه العتوم في عنوان الفصل الخامس والثلاثين بأنّ المساجين (مخيرون بين الموت والموت)، وهذا التعبيرُ أدعى إلى التأمل والنظر. ومخاطبة الموت وكأنه كائنٌ بشريّ يسمع ويرى، هي مرحلة انعدام الخيارات، فترى المساجين الذي أطبقت عليهم البلايا من كلّ جانب يستعطفون الموت ألا يزيدهم همّاً على همومهم، وألا يؤجل قبض أرواحهم:
“يا أيها الموتُ الذي لم يُبقِ فينا ما نقدّمه لأنا لم نعُد أبداً لنا.. رِفْقاً فقد ألهيتَنا عن أن نكونَ وأنت تملأ بؤسنا بؤساً، وتحشوه بنا.. إنّا سنمضي طائعين إليك فافتح بالمحبة صدرَك الحاني وسهّل موتنا، لا شيءَ أكثرَ أيها الموت الرحيم فلا تؤجّل فقدَنا.” ص 276.
يصور لنا العتوم الحالة النفسية والذهنية التي تنتاب السجينَ، عندما تَشِفُّ روحُه وتصفو نفسُه حتى لكأنه راهب في صومعة أو ناسكٌ في جوف مغارة، فيتحسس وجود الموت غير المرئي الذي يوشك أن يتجسد له معطلاً القوانين التي تحكم الموجودات المحسّة والمدركة. ولسانُ حاله يقول:
«كان هنا. أخذ حاجته ثم غادر في عجلة، ولن يلبثَ أن يعود».
“كلّ شيءٍ في الزنزانة كان يوحي بأنّ الموتَ كان أحدنا، كان موجوداً بيننا، كان كذلك حقاً، لأنه حلّ في جسد صاحبنا، وخرجت روحه.” ص 373.
والموتُ في (طريق جهنم) لا تحكمه قوانين، ولا يستطيع الإنسان، أيّاً كان الإنسان: مسجوناً أم مطلق السّراح، أن يهتدي إليها، فهو يختار من انتهى أجلُه، وجفّت ورقته وسقطت، ولو كان صحيحاً مُعافى.
“غير أنّ الموت لا يعرف المرضَ، ولا يعنيه منه شيءٌ، ولا يفرق إن مشى الهوينى باتجاه صاحبه إن كان صاحبه هذا مريضاً أم لا.كان يخطف صيده دون تفريقٍ بين صحيح الجسم أو عليل. كان أحياناً يدير صفحة وجهه عن الذين ظلّوا يحتضرون أشهراً، ويطيب له أن يرافق الأصحّاءَ، أولئك الذين ملؤوا أجواءَ السجن الكئيبة فكاهةً ومرحاً.” ص 387.
وأمّا الجنونُ فهو الوحش الكاسر الثاني الذي ما انفكّ يزور السجناء من حينٍ إلى آخر، ويختار ضحيته بعناية لِيُعَشّشَ في تلافيف دماغه، فيصيبه بالخبل.
“كان الجنون يحلّ قريباً من دارنا، يروغ بيننا، يعبث بطمأنينتنا، يحاول أن يسرقَنا مِنّا، لم نكن بمعزلٍ عنه في أية لحظة من اللحظات. كان مثل ضبع تدور حول أسرّتنا تحاول أن تلحظَ من الواحد فينا غفلةً عابرةً لكي تَخطَفَه، تبول على عقله المُغيّب، فيتبَعَها اتّباعَ المأخوذ أو المسحور، فإن تبِعَها فإنه لا يعود أبداً. أنا كنتُ أرى تلك الضّبُع تطلع لي في كثيرٍ من الليالي تراودني عن نفسي، ولكنني بقيتُ مُفتّحَ العينين، متأهباً، حتى لا تخطفني رائحتها، فأتبعها إلى وادي الغياب كما فعلت مع كثيرين منّا.” ص 354.
وصف العتوم للجنون بالضّبُع وصفٌ لا يخلو من إثارة، وإن كان وجه الشبه بينهما بعيداً يشقُّ تحصيله حتى بالمجاز. فالجنون في اللغة: الاستثار. والضبُع من الحيوانات الشرسة، لكنها غبية إذا ما قيست بالذئب، إذ تهاجم ولا تختفي، تظهر أمام فريستها وتلاحقه حتى توقع به. وفي الضبُع نقاط ضعف شديدة تدركها الفرائس، فهي إذا ما ضيّقت عليها وأوشكت أن تطبق عليها، شرعت الفريسة تجري وهي تدور حوله، وهو لا يستطيع أن يدور فجأة، ولا حول نفسه، إذ ليس للضبع عنق مرنة، لذا فهو لا يبصر للوراء، وهكذا حتى يصيبه الإعياءُ فتفلتَ الفريسةُ. ولعلّ العتوم يريد من هذا الوصف المحيّر للجنون، المراوغةَ والدورانَ والالتفافَ حول الضحية حتى يسقط أحدهما في الإعياء وييأس. وكما قد تنجو الفريسة من الضّبُع قد ينجو المريض المسجون من الجنون، فيسلم حيناً ويتردى حيناً. وثمة تأويلٌ مجازيٌّ آخر لوصف الجنون بالضّبُع، وهو أنّ الضَّبُع في العربية اسم يطلق على السّنةِ المجذِبة إذا أكلت كلَّ شيء من أخضرَ ويابسٍ، ومن ذلك قول الشاعر خفاف بن ندبة بن عمير بن الشريد، وهو ابن عم الخنساء تماضر بنت عمر بن الشريد:
أبا خراشةَ أمّا أنت ذا نَفَرٍ
فإنّ قوميَ لم تأكلهُمُ الضّبُعُ
ويبدو أنّ حالةَ الجنون التي تعتري السجينَ في الزنزانة وتمسّ عقلَه فتخالطه الأوهام وتستبدّ به الوساوس لا تلبث أن تتحوّلَ إلى مرضٍ مستحكمٍ. وإذا قيل: “الفنون جنون ”فإنّ“ الجنونَ فنونٌ” أيضاً، وهو ضروبٌ وأنواعٌ: عابرٌ ومقيم، ظاهر وخفيّ. وقد يكون مؤذياً لصاحبه ولغيره، وقد يكون ذا فائدة ما لم يستحكم فيكون نافذةً للهروب من جحيم الواقع الأليم، فيسقط عن صاحبه التكليف، أو يكونَ سبباً في إنتاج عملٍ إبداعيٍّ على رأي من يقول: بين الجنون والعبقرية خيطٌ رفيع.
ولمّا كان الجنونُ، كالمرضِ، يتربص بصاحبه الدوائرَ، فإنه يختار من بين نزلاء السجن مُضيفَه ليسكنَ بعض الوقت في عقله، يطول أو يقصر، وبات ذلك معلوماً لدى جميع ساكني الزنزانة، إذ أصبحت لهم به خبرة، يستشعرون قدومه في أعينِ المضيفين منهم. ومن أجمل الصور الفنية التي وقعتُ عليها في رواية (طريق جهنم) تلك العبارة التي جرت على لسان (علي العكرمي) بطل الرواية، وهو يتوجس خيفة أن تزوره طارقةُ الليالي (الضّبُع) خِلْسَةً فتُصَادِف في عقله مكاناً خالياً فتتمكن منه. وهو هاجسٌ يصيب كلَّ سجين لا يعلم ماذا يُخبئُ له القدرُ. ولتلك الطّارقةُ سِحرٌ لا ينفكّ عنها تستميل به ضحيتها وتراودها عن نفسها، فتجرها إلى وادي الغياب حيث لا مكان ولا زمان:
“أنا كنتُ أرى تلك الضّبُع تطلع لي في كثيرٍ من الليالي تراودني عن نفسي، ولكنني بقيتُ مُفتّحَ العينين، متأهباً، حتى لا تخطفني رائحتها، فأتبعها إلى وادي الغياب كما فعلت مع كثيرين منّا”.
في هذا النصّ المقتبس، وفي نصوصٍ أخرى، يتفلّت أيمن العتوم من كونه مجرّد ناقلٍ لأحاسيس ومشاعر إلى مشاركٍ فعليٍّ بما يضفيه على ما سمعه من محدثه (علي العكرمي) من أنفاسٍ وزفراتٍ. فالروائي ليس مجرد حكواتي، إنه مفكّر من طرازٍ فريد. ليس فيلسوفاً بالمعنى الاصطلاحي ولا بالمعنى العملي لأنّ النشاط الفلسفي نشاطٌ ذهنيّ مجرّد لا علاقة له في أغلب الأحايين بالتجارب الشخصية الوجدانية شأن التأملات التي تبدو عقلانية في الظاهر كتأملات باسكال، وحتى هواجس روسو في أحلام يقظته عندما يخرج للنزهة منفرداً. والكُتّابُ والمؤلفون، في تقسيم شوبنهاور، ثلاثة أصناف: صِنفٌ يكتب دون أن يُجهد رأسَه بمشقة الفكر، بل يستمدّ من ذاكرةٍ حافلةٍ، أو من كتبِ الآخرين، مادةً لكتابته. وصنفٌ لا يشغل رأسه بالفكر إلا لحظة إمساكه بالقلم. وصِنفٌ لا يتناول موضوعَه بالكتابةِ إلا بعد أن يكون ذلك الموضوع قد اكتمل في ذهنه، وقلّبه عقلُه على مختلفِ وجوهه. والصنفُ الأوّلُ، واحدٌ من سوادٍ أعظمَ لا يُحصى عددُه، والصنف الثاني لا ندرة فيه ولا ِقِلّة، والصِّنفُ الثالث، وهو الاستثناء من القاعدة، وهو نادرٌ عزيزُ المنال. وأولئك الذين يسوقون الفكرَ حتى اللحظة الأخيرة التي يُضطرون فيها اضطراراً إلى أن يتلمّسوا في أذهانهم شيئاً يُكتب، يُشبهون الصيّادَ الذي يخرج إلى الصيد عفو اللحظة، فيعود صِفرَ اليدين أو يرجع بصيدٍ هزيل. أمّا الكتابة بالنسبة للصنف الثالث فأشبه ما تكون باقتناص الصيد بعد أن يكونَ قد تمّ حصاره في حيّزٍ محدود، فلا يعود له من الصائد مهربٌ. وأرجو أن يكون أيمن العتوم من الصنف الثالث، فهو في رأيي صيادٌ ماهر يحسنُ الصيدَ، يصيد الأفكار ويصطاد لها الصور.
والجنون كالموت يسرق ضحاياه، ذلك يسرق روحهم، وهذا يسرق عقولهم، والأوّل أرحم بهم من الثاني إذ إنّ اللصَّ الأوّلَ يسلُب من ضحيته سرَّ الحياة ويقذف به إلى عالمٍ آخر مجهول: إمّا إلى نعيم وإمّا إلى جحيم. بينما يسلب الثاني من ضحيته كلّ القوانين التي تربطه بالموجودات، فتتشظى في عقله الصور وتتهشم فلا يقى للضحية إلا الذهول والشرود والانفصال عن الواقع. هذا ما يريد أن يقوله لنا الروائي أيمن العتوم حينما يحدثنا عن الموت والجنون.
حالات عجيبة لنفرٍ من المساجين أصيبوا بالجنون، فباتوا يخلطون ويهذون وكأنما مسّهم طائف من الجنّ.
إنّ النموذج الذي يرويه (علي العكرمي) هو لأستاذٍ كريم، عُرف بين صحبه وتلاميذه بالنباهة والوقار، وقد ابتُلِي بجحيم السجن، ومورست عليه أقسى العذابات التي يمكن أن يتصورها بشر، حتى جُنّ، يستثير ذلك النموذج جميع ملكات المؤلف العتوم، ويجيّشها لينقل لنا معشر القارئين تجربةً دامية ويقتنص ذلك النموذج كما هو شأنه مع نماذج المعذّبين. ذلك النموذج لشخصية فريدة يُدعى (علي صالح عون) كان أستاذاً يدرّس مادة التاريخ في مدارس طرابلس، وكان معلماً مثقفاً يختلف عن أترابه، وربما حظي كاتب هذه المقالات النقدية بشرف التلقي على يديه بعض الدروس في مدرسة قرقارش الإعدادية بطرابلس الغرب في ستينيات القرن المنصرم، قبل أن يُلقى القبضُ عليه ويُغيّبَ في السجن تغييباً أبدياً. كان للأستاذ علي عون جاذبية خاصة تشدّ إليها الطلاب، وكان يبدأ درسَه بعرضِ مسائلَ لا تمتٌّ بصلةٍ لدرس التاريخ الذي يعلّمه، ويكتب لنا على السبورة عبارة (الإسلام دين ودولة) للشيخ محمد رشيد رضا، وقد اشتهرت فيما بعد في كتابات حسن البنا ونُسِبت إليه.
يكتب د. العتوم على لسان (علي العكرمي) عن هذا المعلم النبيل، وعن محنته في السجن، وكيف شوّه السجنُ شخصيتَه وهدّم قدراته العقلية حتى بات يتصوّر أنه (المهدي المنتظر):
“كان من هؤلاء أستاذٌ في التاريخ اسمه (علي عون)، وكان مسجوناً منذ العهد الملكيِّ، وقد خرج من السجن بعد نجاح القذافي في انقلابه العسكري. ملأ حيطان طرابلس بالشعارات المناوئة له، فاعتقلوه. كان يفيض حيويّةً، ويملأ الساحةَ بالصياح والركض كلما خرجنا إليها، وكان عالماً في أمور الدّين، استفدنا منه كثيراً، وحاولت في فترات خفوت الرقابة أن آخذ عنه، كان مملوءاً بالفعل، لكن لديه مشكلة عويصة، لم أصدّق أنه يقع فيعا؛ كان يظنّ نفسَه المهديَّ المنتظرَ !! ويتصرّف معنا على هذا الأساس، فكلّ كلامه مشحونٌ بالنبوءات!! وبنظريات المؤآمرة، وبفرضيات النهايات الكبرى للكون، كان يقول:
“الدجّال يسبق خروجَ الشمس من مغربها، وأنا أسبق الدّجال […] وإني لأراه كما أراك، ولولا أن يُكذّب الناس كلّ ما أقولُ، لأخبرتك من أيّ الأمكنة يخرج لكنّ عقولَ الناس الصغيرةَ، والتي حُشِيت بالهراء لا تحتمل ما أقول، فأصمت”
ثم يروح يردّد بيتين كان كثير التكرار لهما، يُنسبان للإمام عليّ بن أبي طالب:
وأسكتُ عن أشياءِ لو شئتُ قلتها
وليس علينا في المقالِ أميرُ
أُصبّر نفسي باجتهادي وطاقتي
وإنّـي بأخـــلاقِ الجميع خبيرُ
ثم يزفر زفرةً، تكاد تنقلب لها شفتاه. ويُطرِق طويلاً في الأرض كأنه يرى أشياءَ تتحرّكُ على التراب لا نراها نحن، ثم ينقلب إلى كتلةٍ هامدةٍ، لا يفوه بكلمةٍ واحدةٍ، ولا ينطق بحرفٍ، ونسأله فيتأبّى، ونستفتيه فلا يردّ، وندعوه فلا يستجيب، وننهرُه فلا يطرف، كأنه حيٌّ ميّتٌ. وفد إلينا هنا في البدايات. كُسِر فكُّه في التعذيب، ثم برئ بعد سنةٍ، فكُنّا نظنّ سكوته من انكسار فكّه. وقد خُلِعت أظفارُه كلُّها أيام التحقيق، وازرقّت أطرافه، فلم يكن يقوى على المشي، ثم نبتت أظفاره بعد شهرين، فراح يمشي، ويقفز من مكانٍ إلى آخرَ، كأنّ شيئاً لم يَمَسّه. كان يقول:
“أنا قاتلُ الدجّال، ولئن عِشتَ يا عليّ لأقلعنّ عينه السليمة أمامك ” وكان يحمل مذ دخل إلى هنا كتاباً بلا عنوان، غلافه من الجلد، يقرأ فيه الليلَ كلّه، فإذا نادى مؤذّنُ الفجر قبّله، ثم وضعه تحت مخدته، وقام فصلى وحده. وكان لا يصلي معنا لأنّ زمانه لم يأت بعدُ!! […]” ص 208-209.
هنا النموذج العجيب المتفرّد للسجين الذي أصيب في عقله كان يتكلم العربية والإنجليزية بطلاقة، ويخطب بهما في ساحة السجن، وهو يصيح: (هنا صوت الحق من سجن طرابلس المركزي). كان يُخيّلُ إليه أنه يحادث كائناتٍ لا يبصرها غيره. كان يُعذَّبُ بوحشية ولم تُسْمَعْ له صرخةٌ ولو لمرّةٍ واحدةٍ.
“جُنّ في ذلك العام عبد القادر الهادي، ومن ثم أصاب الجنونُ عبد السلام الشلتات، ومحمد هويدي، والزائر الأعرج، وفتحي قليصة؛ كانوا شديدي الذكاء، فائقي الإحساس، أخذ الجنونً بأيديهم إلى الضفة الأخرى، استسلموا له كما يستسلم الطفلُ لأمه، تبِعوه إلى آخر المطاف، أخذهم بأحضانه، وبدَوا كأنهم غرباءُ لا ينتمون إلى هذا العالم، من يدري؟؛ ربما كنا نحن في نظرهم أشدَّ غرابة. انعزلوا عن كلّ ما يمتّ إلى الوجود الإنساني بصلة. أنساهم الجنونُ أنفسَهم، فلم يقدروا أن ينتشلوها من جُبّه السحيق. ظلّ قرارُه العميقُ مأواهم، وجدرانه السوداءُ الكئيبةُ المظلمةُ عالمَهم، وأفاعيه التي لا ترحم صحبَتَهم. لقد ظلّت تنهش عافيتهم حتى رحلت ببعضهم، وهناك أكملوا الغياب؛ لقد حاولنا معهم في البداية، وحاولوا هم قليلاً مع أنفسهم، لكنهم لم يتمكنوا من ابتلاع غول السجن فابتلعهم!!.” ص 251.
هذا النصّ المتفوّق في دلالاته يمكن أن أطلق عليه، شأن كثير من نصوص أيمن العتوم البديعة الأخرى وصفَ (النص العتومي).
ولماذا جُنّ بعضهم، ونجا بعضهم الآخر؟ وجميعهم يعيشون في ظروفٍ سجنية واحدة وإن اختلفت ظروف حياتهم خارج السجن، تلك الظروف التي تؤثر فيهم أكثر مما تؤثر محنة السجن نفسِه.
بعضهم جُنّ لعارضٍ خارجيّ، كالضرب بالهراوات الغليظة على الرأس، كانت ثلاث ضرباتٍ من جلادٍ قويٍّ العضلات كفيلةٌ بأن تكسرَ الجمجمةَ وتُخرج دماغَ السجين.
يرى مؤلف الرواية أنّ الناجين من الجنون هم أولئك الذين شغلوا أنفسهم بأشياءَ أخرى أخرجتهم من دوّامة التفكير، فيقول على لسان (علي العكرمي):
“الذين جُنّوا أكثرُ من أن أعُدّهم أو أعدّدهم. لو تحدثتُ عن واحدٍ لبكى كلُّ شيءٍ فيّ، ولو وصفتُ ما كان يحدثُ معهم لانتحبت الأوراق التي أخُطّ عليها اليوم حياتي. أنا حافظتُ على عقلي بجهادٍ مريرٍ؛ حين تكون صاجبَ قضيّةٍ تصمد، حين تكون قضيّتُك عادلةً، وتُشعِرُك بالشرفِ والفخرِ تصمدُ، حين تكون قضيتك هي كلُّ ما تؤمن به تُقاومُ. أنا قاومتُ الجنونَ بالقراءة أيضاً، استعيد ما أقرؤه، أفرد صفحاتِ الكتبِ التي قرأتها في حياتي سابقاً أمام خيالي، وأعيد قراءتها لكي أنجو، لا أريد أن أفقدَ عقليَ ألبتة، أنا مؤتمَنٌ عليه، وعليّ أن أخرجَ من هنا منتصراً مهما كانت الظروف. أنا قاومتُ الجنونَ بتوقّع الأسوأ، كلُّ مصيبةٍ مررتُ بها قارنتها بمصيبةٍ أكبرَ وأعظمَ وأشدَّ فتكاً لكي تهونَ عليّ. بذلك حميتُ نفسي من الانهيار.” ص 461.
وثمة شيء آخر يذكره العكرمي للنجاة من الجنون، الأبناء و الأصدقاء:
“الأبناء كانوا سلاحاً ذا حدّين، كان يمكن أن يرميك الحنينُ الذابحُ إليهم في وادي الجنون، أو يحميك تذكُّرُهم من ذلك. أمّا أن يكونوا نقطةَ ضعفك أو قوتك. أنا لم يكن لي أبناء، دخلتُ السّجنَ عزباً، ولم يكن لي حبيبة، وماتت أمي مبكراً وأنا في السجن، وابي لم أره، حين مات كان عمري بضعةَ أيام. كان عليّ أن أبحثَ عن وسيلةٍ أخرى غير عائلتي من أجل أن أُقاومَ، أن استمرّ في المقاومة، ومن أجل ألا أفقدني. الأصدقاء الحقيقيون يظهرون في السجن. قد يكونون هم أيضاً جداراً آخرَ يحميك من الجنون. الأجواءُ الإيمانية مع مجموعتك أو أصدقائك أو حتى مَن يُخالفونك في الرأي تُخفّف من أنياب الوحش، وحش الجنون الذي لا يرحم.” ص 462.
واللصُّ الثالث من بين أولئك اللصوص، لصٌّ ظريفٌ اسمه المرضُ، وإن كان ظرفُه لا يقارن بظرف أرسين لوبين:
“لم يكن الجنونُ وحده يسرقنا منّا. المرضُ هو الآخرُ كان لصّاً محترفاً، وإن كان أخفى من الجنون، كان يأتي على دفُعات، متمهّلاً لا يُسارع إلى ضحيته، بل يحفر حولها شيئاً فشيئاً حتى تقعَ في حفرته.” ص 372.
وأن يسرقنا الجنونُ منّا معناه أن يسلبنا ذواتنا ونحن نرنو إليه، ولا نملك له دفعاً. والمرض أيضاً يمارس السلوك نفسه باحترافٍ وظُرْفٍ، إلا أنه ظُرفٌ فيه خُبْثٌ، لأنه يظلّ ينهش في الضحية شيئاً فشيئاً حتى حتى تستسلمَ فيُسَلّمَها جاهزةً لصاحبه اللص الأوّل (الموت).
السجون في بلادنا مراتعُ للأمراض والأوبئة، ولو عُدَّ كلُّ مرضٍ زائراً فما أكثر الزوار! ثمة زائر اسمه (الربو)، وزائر اسمه (السّل)، وزائرُ اسمه (الجرب)، وزائر لعين اسمه (البواسير)، وزائرة خبيثة اسمها (الريشة) أو (الناسور)، وهي خُرّاج بقرب فتحة الشرج، يظلّ صاحبُه ينزف من دُبُره فيسيل دمُه على ساقيه كالحائض، فيبحث عن خِرق يلفّ بها موضع النزف وهو يعتصر ألماً.
وأخطر الأمراض جميعها مرض (السلّ) بسبب العدوى التي تنتقل إلى المجاورين، وكان ذلك يُحدث رُعباً وهلعاً بين المساجين. وأمّا الأمراض العابرة كالأنفلونزا، والحمى، وألم الأسنان، فجدّث ولا حرج.
رواية (طريق جهنم) هي بحق رواية ينطبق عليها عنوان رواية الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست Marcel Proust (البحث عن الزمن المفقود)، ذلك الزمن المغيّب خلف الزنازين.
__________________