
إن عالماً يمكن فيه لرفيف أجنحة فراشه في مثلاً، أن يتسبب بإعصار مدمر في أمريكا، هو عالم يكتنفه الغموض ولا يبدو قابلاً ” رغم أكداس المعارف المهولة ” لإن يُفهَمَ كما يفترض بالفهم أن يكون، هذا أولاً.
ثم أنه عالم يرتب الوجود فيه جملة اعتبارات، لعل الأكثر دقة أن ندعوها ” ضرورات ” لعل أهمها الجدية في التعاطي مع ظواهره وأحداثه، والتحسب لما قد يجيء عن تلك الظواهر والأحداث من مفاجآت، فلا تحتمل مواجهة كل ذلك الغموض والابهام تهاوناً أو لامبالاة لما لكليهما من صلة بسوء المآلات.
إن أثر الفراشة هو صيغة تقريبية لنظرية علمية فيزيائية ورياضية امتدت دراساتها إلى حقول علمية مختلفة مثل البيولوجيا ووظائف الأعضاء والمناخ والهندسة والإلكترونيات والكيمياء والطب، كما أن لها أبعاد فلسفية عميقة وهي المعروفة بنظرية الفوضى، ولعل أهم ما سعى إليه العلماء والذين تطرقوا إلى جوانب البحث في إطار نظرية الفوضى هو إطار تفسيري للإبهام الذي يكتنف الظواهر والاحداث في الطبيعة.
وقد نعلق متسائلين، إذا كان لرفيف فراشة في الصين أن يتسبب بإعصار في أمريكا، فهل لذلك الرفيف أثر في اعصار كورونا الذي، الذي لم يكتف بالتأثير في أمريكا ولا في الصين حيث كانت بدايته، بل امتد موسعاً رقعة تإثيره إلى كل بقاع الأرض معيثاً فيها فساداً؟ وهل يمكن اعتبار أثر الفراشة تفسيراً مقنعاً وكافيا للظهور المباغت لهذا الاعصار وانتشاره القياسي، أو على الأقل منطلقاً لتفسير ذلك كله، وملاشاة ما يكتنفه من إبهام؟
ولكن المستبعد فعلاً أن يفسر أثر الفراشة ما نعيشه ونعايشه من مواقف وسلوكيات، يسمها انحسار واضح لحس المسؤولية يبلغ في بعض المواقف والظروف حد الانعدام الكلي، في الوقت الذي لا نكف فيه عن التشدق بادعاءات الحرية التي لا معنى ولا قيام لها دون حس المسؤولية ولا بمعزل عنه، فأنت لا تحتاج إلى خطوات قليلة تخطوها خارج بيتك لتجد في زاوية كل شارع وزقاق أشكالاً وألواناً مختلفة من الواقيات ( القفازات والكمامات ) المرمية بلا مبالاة حيثما تراءى لمن استعملها أنه مكان صالح لها، دون أدنى اهتمام بالبيئة ولا بمن يشاركونه العيش فيها، والمشكلة مع هذ المواد هي خطورتها وما تحمله من تهديد لا يحتمل المزاح ولا التهاون، ولا يمكن إدراجها فيما تعودناه من أكداس القمامة المكومة حيثما يممنا أو التفتنا، ولا يجدي ما اكتسبناه من مناعة ” ليس ذلك حقيقياً بالتأكيد ” من معايشتنا لتلك الأكداس في مقاومة تهديد جائحة كورونا وفي التغلب عليه، وهل يعقل أن يبلغ انعدام حس المسؤولية هذا الحد من اللاعقلانية، بل والتبلد؟ وهل يكفي القول إنها الأنانية المستشرية فينا استشراء النار في الهشيم، وما الذي انتهى بنا، وقد كنا مثلاً يضرب للتآلف والمودة والاهتمام المتبادل والحس المتنامي بالمسؤولية على مختلف مستوياتها من الفردي وحتى الإنساني العام الذي تجاوز حدود مجتمعنا الذي كان صغيراً في حجمه وقليلاً في تعداده، ولم يحل شيء دون أن يضم بمناقبه السامية الانسانية كلها بمختلف أجناسها وانتماءاتها، ما الذي انتهى بنا إلى هذا الهشيم، الذي يبدو أثر الفراشة مؤهلا لتفسيره، ولا أن يعد سبباً فيه، ولم يبق إلّا أن نقر بالأمر ونعلن أنه من أثر الخفاش، علنا نُعْذَر في ذلك فقد قارب الليل نصف قرن من الزمن.