الشاعر مفتاح ميلود، وديوانه أنفاس.
دراسات

جماليات اللغة التصويرية والانطباع الحسي في شعر (مفتاح ميلود)*.. ديوان أنفــاس (أنمودجا)

 الدراسة قدمت في المؤتمر العلمي الأول للغة العربية (واقع اللغة العربية في ليبيا المشاكل والحلول) الذي أقامته كلية الآداب جامعة عمر المختار في البيضاء في الفترة من 4 الي 6 أغسطس الجاري ، ونشرت في المجلة العلمية للمؤتمر التي صدرت وتحتوي كل الابحاث والدراسة التي قدمت في المؤتمر

تهاني امحمد ضياء الدين أحمد

   كلية اللغة العربية

جامعة السيد محمد بن علي السنوسي

الشاعر مفتاح ميلود، وديوانه أنفاس.
الشاعر مفتاح ميلود، وديوانه أنفاس.

 

 

# مقدمة:

افترق الأدب عن غيره من الفنون الأخرى – كالرسم والنحت والموسيقى والفن السينمائي – من حيث إنه يوظف اللغة أداة للتعبير والإيحاء، وتشترك الأنواع الأدبية جميعها في هذه الخاصية اللغوية، ولكنها تتمايز في طريقة استخدام هذه الأداة، فالشعر كائن لغوي، بمعنى أنه يستمد كينونته وهويته من اللغة نفسها؛ ولهذا فهو يفجر أقصى مافيها من طاقات وجماليات وأشكال لانهائية من الإيحاء والترميز، في وما في التشكيل اللغوي من إنتاجية متأتية من الكلمات ودلالاتها التركيبيةوعلاقاتها وإيحاءاتها وأصواتها وإيقاعها والصور الموسيقية وغيرها ، مما تكونه الألفاظ حين يرتبط بعضها ببعض(1).

ومن أبرز إمكانات اللغة وثرواتها تكمن في شعريتها وقدرتها على خلق لغة ثانية تصويرية، فما مفهوم اللغة الشعرية أو التصور الذي ارتكز عليه الأدباء لهذا المفهوم ؟

مفهوم اللغة الشعرية :

تخلق شعرية اللغة كما يرى جون كوهنjean Cohen  من مقدار ذلك الانزياح عن لغة النثر، ويصف لغة النثر بأنها لغة الصفرفي الكتابة، والانزياح عنها يعد دخولا في اللغة الشعرية التي تعني كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مصوغاً في قوالب مستهلكة(2)، فالشاعر يعمد لهذا الخروج عن اللغة المعتادة لكسر الألفة، ومخالفة أفق التوقع لدي المتلقي .

وهناك من يرى أن اللغة الشعرية هي الخروج عن اللغة العادية الواضحة المعلومة إلى معان أخرى لم تتعود الغوص فيها، فالتجربة الشعرية في أساسها تجربة لغة، كما يعبرسعيد الورقيفالشعر في تصوره هو الاستخدام الفني للطاقات الحسية والعقلية والنفسية والصوتية للغة ، ولغته هي الوجود الشعري الذي يتحقق فيها انفعالاً وصوتاً وموسيقى وفكراً، إذن لغة الشعر هي مكونات القصيدة الشعرية من خيال وتوظيف للصور الحسية والمعنوية واللونية والموسيقية ومواقف إنسانية مباشرة وغير مباشرة(3).

ويتميز ديوان (أنفاس) بلغة شعرية غنية بالثراء التصويري الذي يعتمد الانطباع الحسي في مقاربة الدلالات والأشياء، وقد كان مجال اختياري كمدونة لهذه الدراسة، وعلى من أن التصوير والصورة الشعرية من المواضيع المستهلكة التي كثرت الأبحاث فيها، ولكن جدة زاوية الرؤية وفرادة الجانب –هنا- هو الذي شجعني على الدراسة، وهو كيفية توظيف الحواس في رسم الصورة، وربط الصورة بالحسي والملموس والمدرك .

وقد استفتحت هذه الدراسة بمدخل نظري في مفهوم الحسية وصلتها باللغة التصويرية، ومن ثم عمدت إلى الولوج في النص الشعري فكان أن اتضحت البني التصويرية في رؤيتها الحسية، بحيث تشعبت إلى ثلاثة أنماط : الصورة الحسية – تراسل الحواس أو الحس المتزامن – تشخيص الطبيعة، واختتمت الدراســــــــة بأهم النتائج .

وتصنف قصائد الديوان –موضوع الدراسة- للشاعر مفتاح ميلود تحت نوع قصيدة النثر، التي يراها كوهن بأنها القصيدة الدلالية التي تعتمد بالدرجة الأولى على اللغة دون الخصائص الأخرى لاكتفائها بالعناصر الدلالية في خلق الجمال المطلوب(4)، بمعنى أنها تتكأ على القدرات الشعرية الكامنة في لغة النثر، دلالة، وتشكيلاً، صورةً، وإيقاعاً داخلياً، وذلك عوضاً عن سمتي الوزن والقافية في القصيدة التقليدية، كما أن هذا النوع الشعري يخلق مناخاً خاصاً يتحرك فيه الشاعر بحرية لصياغة تجربته الشعورية، ويمنحه الاستقلالية في كيفية صياغة هذه التجربة، واستغلال طاقات اللغة في التعبير والخلق، فتميزت لغته الشعرية بسمات خاصة ومتفردة لعل من أهمها تلك الخاصية الحسية التي ترامت بين دفتي أنفاسه، وتعد لغة انزياح وخرق للغة التجريدية، لأنها مكثفة بالصورة والرمز،قد خلقت لوناً جمالياً أعطى لتجربته شكلاً خاصاً ومعنى شعرياً متفرداً، وقبل مقاربة النصوص الشعرية نقدم بتقديم نظري عن الحسية، والانطباع الحسي، وعلاقته بالتصوير الشعري .

#الحسية والانطباع الحسي وعلاقته بالتصوير الشعري (مدخل نظري) :

الحسي أو الحسية مشتقان من مفردة (الحاسة) وجمعها (الحواس) وهي الحواس الخمس المعروفة لدي الإنسان ( البصر والسمع والشم والتذوق واللمس )، وبعضها تنقل الإحساس بالمحسوس عن طريق الاحتكاك به كاللمس والتذوق، أما البعض الآخر فتنقل الإحساس دون احتكاك مباشر كالسمع والبصر والشم، بل تحتاج إلى وسائط كالهواء مثلاً في حالة السمع والشم، والأشعة الضوئية الساقطة على الجسم المرئي في حالة البصر(5) .

وتعد الحواس إحدى المرتكزات ومن الخصائص النوعية لبعض الفنون؛ فالمدركات الحسية البصرية اللونية تحديداً هي المادة التي يشكل منها الرسامون والنحاتون أعمالهم، ويعتمد الفن السينمائي على التعبير بالصورة، فهو يخاطب الحاسة البصرية للمتلقي، من ذلك النصوص الإعلانية الإشهارية، أما الأدب ففي مفهومه الأولى يخاطب العقل والذهن أو العاطفة والشعور، ولكن قد يوظف مافي اللغة من قدرة على التجسيد والتصوير الحسي، هذه الخاصية الحسية للشعر قائمة على ضرب من التجريد يميزها عن مجرد نسخ المدركات، يوائم بينها وبين قدرة التخيل على التحرر من أثقال المادة(6) ، أما الفنان التشكيلي فيعمل في مجال فنه من خلال المادة التي هي بصدد عمله… فتكون أحجاراً مثلا او أصباغاً ، فيضفي عليها من إبداعه ولمساته وفكره ليرسل من خلالها فنه(7)  .

وإذا كانت الطبيعة لها دور كبير في تزويد الفنان غالباً بالمواد الحسية الأولية كنقطة للبدايــــة ، فإن اللغة والكلمات هي المادة الخام الخاصة بالشاعر، وتكمن قدرته الفنية والإبداعية على تشكيلها واستنطاق مخزونها الحسي .

يرى محمد غنيمي هلال أنّ الصور والأخيلة الحسية لها أثر في الوحدة العضوية، بحيث تصير القصيدة كالبنية الحسية، ولا تكون تقليدية تتراكم على حسب ما تملي الذاكرة، ولا تستوحى من مظاهر خارجية لاتمت إلى التجربة الشعرية بصلة، بل لابد من تعاونها جميعا لرسم الصورة العامة وتقديمها وفق منهج الشاعر في وصف شعوره،(8)، وهذا ما يقودنا إلى طبيعة قصيدة النثر وأهم مقوماتها وهي صياغة التجربة الشعرية على نحو تصويري أو سردي بتشكيل فني يقوم على التشاكل أو التضاد ، وليس مجرد تداعي تراكمي للأفكار.

# جماليات اللغة التصويرية والانطباع الحسي في ديوان ( أنفاس ) :

أولا : الصورة الحسية:

إن الصور الحسية اللونية أو الألوان التي وظفها الشاعر، والتي ذكرت بين طيات أنفاسه تنوعت بين ذكرها كمصطلح لون أو كنوع  أو صفة له، وهي :

مخضوضرا / حمام أبيض / غراب أسود / يحمل لونا ملتهبا / حلما ورديا / بدأ الوجه في التلون / اصفرت الابتسامة / تلاشت كل الألوان / على أخر لون تبقى / في جوف الغيمة القاتمة ..

إن النمو الحسي داخل القصيدة قد لا يتم إلاّ بترابط بعض الحواس؛إذ إن تساوقها يتولد من داخل العلاقات التي يتطلبها النص؛ فقد يتطلب المعنی في البيت أن تنبثق حاسة ثانية وثالثة ورابعة، ليتم المعنی وتكتمل الصور الحسية. فالصوت أو حاسة السمع مرتبطة بقوة مع البصر ولا يتم معناه وتصور الفكرة بحاسة السمع فقط كما في قوله :

في الأزقة الضيقة

عندما تفقد القطط أصواتها

ترقص في الظلمة

أشباح الفئران الضخمة(9)

فقد عمد إلى خلق الدلالة عن طريق حاسة السمع، وذلك بخلق مشهد سردي يتضح فيه وصف المكان (الأزقة الضيقة)، وترسمه فواعل متضادة حركة الأولى تنتج سكون الأخرى، وقد ساعد الفعل المضارع (تفقد ترقص) في إضفاء حركية زمنية، تدفع المتلقي لاستحضار الصورة في ذهنه آنياً، وهكذا فعندما” تفقد القوة الرادعة قواها وسيطرتها.. تفقد القطط أصواتـَها، ومن ثمّ تسمع اللحن الردئ كنتيجة نهائية للصورتين عندما تجور سلبية الحياة”( 10) .

وقد لا تتشكل الصورة النهائية إلاّ بتضافر عدد من الحواس، كما أنّ الإحساس بالجمال لا يقتصر علی حاسّة واحدة فحسب، وإنّما ثمة حواسّ مختلفة يمكن بوساطتها تحسس جمال الصور، نظراً لما تشكّله تلك الحواس من أثر في تحقيق الغرض الذي يتوخاه الشاعر(11).

إن الصور البصرية التي  نراها أمامنا، يبرز فيها اللون(مخضوضراً) موحياً بدلالات ورموز تسهم في تشكيل الصورة، يقول :

على سفوح الجبل ينبسط العشب الندِيّ ..

لا يرجو من الأرض سوى أن يظلّ ..

مُخضوضراً ولو لحين(12)

وقد أثبتت لنا مدى ارتباط حاسة البصر بالألوان التي تتراءى في الطبيعة والبدء بذكر لون يبعث الأمل و ذكر مرتفعات الجبال يدل على كمية الطموح والرغبة في الاستقرار والهدوء من صخب ما فوق الأرض.

من الملاحظ في قصيدة (أنفاس) التي عنون بها ديوانه أن طابع الحزن والغضب لوناها وامتزجتا ليكون عنصرا واحداً، ولربما هذا الامتزاج هو ما دفع الشاعر لبذر أنفاسه، واتخاذها عنواناً للديوان بأكمله، لأنها تحمل كل ما في القصائد من دلالات معنوية تشكل الثيمة الرئيسة، وهي ثنائية المعاناة والأمل، فالكلمات (غليل البوم) (جفت الآبار) (نكاية) (الصبار) مشبعة بطاقة حزن غاضب ، والاعتقاد  المرتبط مع طائر البوم، وهي صورة بصرية، ( جفاف وشؤم ) الذي بني عشه في دلو البئر، وهو تعبير مجازي عن شح ماءه وهجرانه فسكنه الشؤم والسواد ، ليعود مستعيداً ما تبقى من الأمل والتحدي المثقل نكاية في زهرة على كتف الصبار، ( صبر وتحد ) … يعود لينبت الأمل الأخضر الذي رمز له بـ (شجرة) ، فالشاعر بذل كل طاقته باختياره للكلمات والألوان  كي يخلق صورة لونية حية ناطقة عما يعج بالنفس معبرة عن كوامنها، أو صامتة عاجزة عن حل عقدها أو إدراك غايتها ، المهم في ذلك أنه منح الصورة اللونية طاقة فنية ونفسية جعلتها من أغنى الصور(13) ، يقول :

لم يَشْفِ غليل البوم ..

حين جفت الآبار

إلا عش في الدلو .

* * *

نكاية في زهرةٍ

على كتف الصبار ..

أنبت كَفُّ الحجر.. شجرة(14).

ورغم استخدامه لصورتين متناقضتين قائمتين على اللونين (الأبيض والأسود)، إلا أنه خلق وجه اشتراك بينهما، في قوله :

حمامٌ أبيض

غرابٌ أسود

لا فرق

فالآفاق لا تعترف

إلا بخفق الأجنحة ..(15)

إلا أن الرابط بينهما الخفق والاستمرارية في خفق الأجنحة، اللون الأبيض للحمام سلام وخير ، واللون الأسود للغراب ظلام وشر وكلاهما لا فرق لأن الأمر مستمر وبدونهما لا تكون حياة، كما أن الجمع بين لونين متضادين حوّل الأسلوب إلى لوحة فنية ذات أبعاد شعورية عميقة .

ولو نظرنا لمسألة الحواس الخمس وتوظيفها في الديوان نجد أن الشاعر نوّع في استخدامها بتفاوت من سمع إلى بصر فلمس فشم فتذوق ترتيبا تنازليا .

فالكلمات التي شفـت عن حاسة السمع هي :

أصواتها / رياح الخريف / الأنين / ضجيجا / تنهيده / وشوشه / ينقل الصدى / يخفق / أنين / صفير الرياح / بعوائها / صرخات / تهمس مزماره / خرير / صوتك / أنينا ..

بينما تلك التي لاحت للبصر تنوعت بين: ترقص في الظلمة / دموع / تسرب نورها / اهتز جسده ضحكا / فقد الليل بصره / يرقص القمر / ألقت بنظره / ألمح ..

والكلمات التي استدعت المخيلة في تصورها حاسة اللمس : ارتعشت أصابعه / دب في أصابعه / دب الخدر / تتحسس الأصابع / دفن الإبهام بصمته / سهام السبابة / أقدامها لا ترتعش / أصابعهم ..

والكلمات التي تحيل  لحاسة الشم والتذوق هي :

تشممه الناس / تبث أريجها / يشتم رائحة / بمذاق / والتذوق / رذاذ الملوحة، فكأن التجربة الشعورية تحمل مرجعية إنسانية، سواء عاد الضمير للإنسان حقيقة أو مجازاً .

كما أن وجود الألوان المتناقضة وتوظيفها في لغته الشعرية تبين مدى القدرة اللغوية والتصورية اللونية التي تدخل ضمن نطاق حاسة البصر، الذي يرتبط تماما بحاسة السمع ( خفق الأجنحة ) إيحاء بوجود حياة وحركة ومقاومة، وقدرة على المواصلة.

ثانيا : تراسل الحواس ( تبادل الحواس أو الحس المتزامن ) :

وهو تعبير “يصف المدرَك الحسي الخاص بحاسة معينة بلغة حاسة أخرى، مثل إدراك الصوت أو وصفه بكونه مخملياً أو دافئاً أو ثقيلاً أو حلواً، وكأن يوصف دويُّ النفير بأنه قرمزي”(16).

ويلجأ الشاعر إلى هذه التقنية التصويرية من أجل التخّلص من المباشرة القولية، ومنح النص مزيدا من الفنية والجمال، ومن أجل إنتاج  تركيب لغوي خاص من خلال تلك الطبيعة التحليلية، وهذا كّله يمثل نجاحاً للشاعر علاوة على أن اللغة الشعرية تمنحه القدرة على ذلك.

فتراسل الحواس أو تبادلها نوع من التصوير الشعري يقوم على عبارة متناقضة تحمل كثيرا من التناقض اللامألوف في الكلام، غير أن المتلقي حين يدقق النظر في هذا التناقض يصل إلى بعض الملامح المتوافقة بين أطراف تلك العبارة، إذن فهذا الأسلوب آلية يعتمدها الشاعر المبدع ليعينه على الانفلات من دائرة المباشرة والبساطة والدخول في آفاق الضبابية الجمالية والشفافية البعيدة .

فالشاعر لا يهدف بآليات التراسل الحسي إلى العبث بالأشياء وطبيعتها وقوانينها، أو التعقيد والغرابة، ولكنه يهدف إلى خلق عالم فني خاص يختزن طاقة دلالية وجمالية تعبر عما يريد إيصاله للمتلقي .

ولو عمدنا إلى مقاربة عنونة القصائد، فبما أن العنوان يمثل رأس القصيدة وفي الغالب يكون مرآة للعمل الفني، وإشارة لما يدور في نفس الشاعر من أفكار، إلا أن التصوير القائم في العنونة على تراسل الحواس يعيق هذا التصور المعتاد، أي أنه يضفي لوناً من الضبابية الممتعة، فمثلا نجد عنوان (شجون متمردة) أو (صباحات حزينة) أو (مرارة أخرى) … فالعادة الجارية أن التمرد يكون للإنسان وأفعاله لا في انفعالاته، أو أن الحزن للإنسان لا لأحوال السماء ، فالشاعر أراد بث عنصر المفارقة والمفاجئة للمتلقي من خلال تراسل الحواس وعبورها وتشخيص الطبيعة وأنسنتها، فقد اعتادت حاسة البصر ربط الصباح بالألوان البهيجة المشرقة الموحية بالسعادة، وقد نعته الشاعر بالحزن، فكأنه تمازج مع الألوان القاتمة الكئيبة، هذا فضلاً عن تجسيده، كما جسًد الشجون، أو على سبيل السخرية والتهكم جسم إحساس المرارة وأكد على حسيته بربطه بحاسة التذوق، وذلك في عنوان(مرارة أخرى)، فكأن الآلام متوالية واحدة تلو الأخرى وكأن الدموع تغيب لسنح فرصة لدموع أخرى :

تهم بالبكاء

وتغيب الدموع

بحثاً عما يليق

بغشاوات الصدر

وحدك

تهم بمرارة أخرى(17) .

وتراسل الحواس نوع من الخيال الذي يذيب طبيعة الأشياء الواقعية، ويفقدها تماسكها البنائي في الواقع، ليعيد الشاعر خلقها من جديد بفضل خياله، في صورة شعرية على الرغم من ذهنيتها وانتمائها لفكرة مجردة، إلا أنها مستمدة من الواقع، فقد أصبحت الكلمات ترمز إليه، وفي الوقت ذاته صورا تعبيرية تترجم رؤية الشاعر، فهناك فرق بين التفكير الحسي والرؤية البصرية، فإذا كان كل مرئي حسياً فليس كل حسي مرئياً، لأن مكونات الصورة رغم حسيتها واستمدادها من الواقع قد مستها يد الشاعر حتى أصبحت أدوات تعبيرية .( 18)

ثالثاً : الانطباع الحسي وتشخيص الطبيعة :

التشخيص هو إكساب الجماد وما في حكمه من نباتات أو أشجار أو مياه بعض صفات الإنسان، وجعلها كائنات حية تنبض بالحركة والحياة، وهي “ملكة خالقة تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها، لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر” (19)

ولو جال بصرنا بصورة خاطفة في النصوص الشعرية في الديوان، لتبين لنا بجلاء شيوع التصوير الحسي بتجسيم عناصر الطبيعة الصامتة وتشخيصها، فقد شخّص كلا من الزهرة والصبار في قوله:

نكاية في زهرة

على كتف الصبار ..

أنبت كَفُّ الحجر.. شجرة(20)

ومن سمات تشخيص الطبيعة إضفاء نوع من الحركة والحيوية التي تنقل الصورة من الثبات والسكون الشعري إلى حركية السرد وتدفقه، فالبرق هنا مؤنسن، وصف الشاعر سلوكه الحاني بتقبيل الصنوبرة الهرمة، جاعلاً من الليلة الممطرة زمن السرد، واللون المظلم الحالك السواد إطاراً بصرياً للصورة  :

في الليالي الممطرة ..

يُقّبل البرق

الصنوبرة الهرمة(21)

وفي قصيدة أوجاع ينقل العنصر الصوتي (الأنين) و (التنهيدة) من حاسة السمع إلى حاسة البصر بحيث يفيض الأنين من صدر الإنسان، كما يفيض الماء من الكأس، وتخرج التنهيدة بواحديتها وانفرادها متمايلة مخففة عنه حزنه؛ وقد تناغم بؤس هذه الشخصية مع عناصر الطبيعة فالشمعة المجاورة سالت دموعها، ولا يخفى ما في هذه الصورة من اتحاد إنساني وذوبان للطبيعة في جوهر هذه الإنسانية :

نام والأنين

يفيضُ من صدرهِ

في الجوار

سالتْ دموع شمعة

تسرب نورها تحت غطائه

….

خرجتْ من صدره تنهيدة.

تتمايل وسط حزنهِ الضاحك(22)

ويقول في قصيدة القمر :

أَنجب القمر حلماً وردياً / زرع الليل في أذن البرد

وشوشة المؤامرة

وفي انكفاء وقصيدة تداخل :

دفء الأحزان / دفء الرماد

وفي خطوات :

تتدحرج صعودا

خطوات الحلازين

خطوات من روح(24)

وفي قصيدة خرير يقول الشاعر :

رغم أنف الشمس

ليل يتباهى بانتفاخه

خرير العمر(25)

فالشاعر ينسب للشمس والليل صفات الإنسان كالإرغام والقسر للشمس، والتباهي والتفاخر لليل .

ويتجلى التشخيص في قصيدة (شجون متمردة)

قالت الشمس للجبل :

لولاي ما عرفت الشرق من الغرب

رد الجبل :

لولاي أنا الواقف .. ما انحجبتِ(26).

#الخاتمـــــة :

بعد استيفاء معالم جماليات اللغة التصويرية والانطباع الحسي في الديوان، يبدو أن ثراء لغته الشعرية فتحت آفاقاً للتساؤلات حول طبيعة الانطباع الحسي في تدشين الصورة الشعرية، ودلالاته ومدى إسهامه في استنطاق شعرية هذه الصورة، وقد حاول هذا البحث الإجابة عنها، ومن الممكن استنباط بعض النتائج، لعل من أهمها أن الانطباع الحسي يشمل القيم الصوتية والبصرية تلك المشتقة من الحواس الإنسانية، وتعد أحد أهم الأدوات الإيحائية للشاعر التي تلائم الحالة الانفعالية والتجربة الشعورية، فالصورة الحسية اللونية لها قدرة تعبيرية في السياق الشعري انطلاقا من فلسفة اللون ودلالاته الاجتماعية والسيكلوجية والرمزية(27) .

أما تراسل الحواس فقد استطاع الشاعر بإعطاء صفات إحدى الحواس لغيرها أن يثري جملته الشعرية، ويجعلها قابلة لتأويلات لانهائية ضمن سياق رمزي عميق، ولم يكتف بذلك بل نقل ماهو معنوي أو من قبيل الجمادات إلى المجال الإنساني الحي وجعلها تنبض بالحركة والحياة، ألا وهو التشخيص .

لقد أسهم الانطباع الحسي لدى الشاعر في إبراز جماليات اللغة التصويرية لديه وإبعادها عن التقريرية والمباشرة، بل إن الحسية في هذا الديوان قد خلقت لغة رمزية خاصة داخل اللغة نفسها، وكان للمحسوسات صوتاً ولوناً وصورة دور في الإشارة الدلالة والبناء الشعري .

_____________________________________

# الهوامش :

*مفتاح ميلود شاعر ليبي – تاريخ الميلاد 1963 قرية مِيْراد مسعود، الجبل الأخضر، ليبيا.ـ عضو رابطة الأدباء والكتاب الليبيين.

  • الأدب وفنونه دراسة ونقد، عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، ط9 ، بيروت لبنان ، 2013م ، ص 71 .
  • اللغة الشعرية عند محمد مهدي الجوهري ، هدى مطوري ، وجواد سعدون زاده وآخرون ،مقالة أدرجت ضمن المؤتمر الدولي الخامس للغة العربية ، ص 4 وينظر: بنية اللغة الشعرية ، جان كوهن ، ت:محمد الولي ومحمد العمري،مكتبة الأدب المغربي، دار توبقال للنشر ط1 1986م ، ص 10
  • اللغة الشعرية عند محمد مهدي الجوهري ، هدى مطوري ، وجواد سعدون زاده وأخرون ،مقالة أدرجت ضمن المؤتمر الدولي الخامس للغة العربية ، ص 5 .
  • بنية اللغة الشعرية ، جان كوهن ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، ص 10_11 .
  • ينظر: اللغة والحواس رؤية في التواصل والتعبير بالعلامات غير اللسانية، محمد كشاش، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ط1، 2001م ، ص 30 .
  • التشكيل الحسي في شعر الطبيعة العباسي في القرن الثالث الهجري، بسام اسماعيل عبدالقادر صيام2017م ص12
  • تذوق الفن ( الاساليب ـ التقنيات ـ المذاهب ) محسن محمد عطيه ، ط1 عالم الكتاب، 2005م ، ص 42 – 43 .
  • وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث ، دراسة في تطور المفهوم واتجاهات النقاد المعاصرين ، ص246 .
  • ديوان أنفاس ، مفتاح محمد ميلود البنان ، منشوراتالمؤتمرـ2003م ، ص5 .
  • قراءة في ديوان أنفاس لمفتاح ميلود، د.عبد الجواد عباس، مخطوط ، ص 4 ،
  • ظاهرة تراسل الحواس في شعر أبي القاسم الشابي وسهرابسبهرى ، زينب عرفت بور وأمينة السلماني ، إضاءات نقدية مجلة فصلية محكمة السنة الرابعة العدد الخامس عشر ، ايلول 2015 م .
  • ديوان أنفاس ، مفتاح ميلود ، ص 3 .
  • الصورة اللونية في شعر ابن خفاجة الاندلسي ، د. بن منوفي محمد ، مجلة الآثر ، العدد 20 جوان 2014 م ، ص
  • ديوان أنفاس ، مفتاح ميلود ، ص 3
  • المصدر نفسه ، ص 5 .
  • معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مجدي وهبه وكامل المهندس، مكتبة لبنان ، بيروت، ط2 ، 1984م ، ص 148 .
  • ديوان أنفاس ، مفتاح ميلود ، ص 51 .
  • ينظر: مناهج النقد الحديثة الرؤيا والواقع، زهران عبد الحميد، دار الأرقم مصر، ط1، 1989م ، ص 102 .
  • التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل، مصطفى السعدني، منشأة المعارف الاسكندرية ، مصر، ص88 .
  • ديوان أنفاس ، مفتاح ميلود ، ص 4 .
  • المصدر نفسه ، ص 6 .
  • المصدر نفسه ، ص 9 .
  • المصدر نفسه ، ص 12 .
  • المصدر نفسه ، ص 24 .
  • المصدر نفسه ، ص 39 .
  • المصدر نفسه ، ص 30 – 31 .
  • ينظر : الواقعية اللونية قراءة في ماهية اللون وسبل الوعي به، صلاح عثمان، منشأة المعارف الاسكندرية، 2006م ، ص 20 – 21 .

*المصادر والمراجع :

أولا : المصادر :

1.ديوان أنفاس ، مفتاح ميلود ، منشورات المؤتمر ، ليبيا ، 2003 م .

ثانيا : المراجع :

  1. الأثر (مجلة محكمة)الصورة اللونية في شعر ابن خفاجة الاندلسي ، د. بن منوفي محمد، العدد 20 جوان 2014 م .
  2. الأدب وفنونه دراسة ونقد، عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، ط9 ، بيروت لبنان ، 2013م .
  3. إضاءات نقدية مجلة فصلية محكمة،ظاهرة تراسل الحواس في شعر أبي القاسم الشابي وسهراب سبهرى ، زينب عرفت بور وأمينة السلماني ، السنة الرابعة العدد الخامس عشر ايلول 2015 م .
  4. بنية اللغة الشعرية ، جان كوهن ، ت:محمد الولي ومحمد العمري، مكتبة الأدب المغربي، دار توبقال للنشر ط1 1986م .
  5. تذوق الفن ( الاساليب ـ التقنيات ـ المذاهب ) محسن محمد عطيه ، ط1 عالم الكتاب، 2005م .
  6. التشكيل الحسي في شعر الطبيعة العباسي في القرن الثالث الهجري، بسام اسماعيل عبدالقادر صيام2017م .
  7. التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل، مصطفى السعدني، منشأة المعارف الاسكندرية ، مصر د.ت .
  8. قراءة في ديوان أنفاس لمفتاح ميلود ، عبد الجواد عباس ، مخطوط (ملف وورد) .
  9. اللغة والحواس اللغة والحواس رؤية في التواصل والتعبير بالعلامات غير اللسانية، محمد كشاش، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ط1، 2001م .
  10. المؤتمر الدولي الخامس للغة العربية ، مقالة مدرجة فيه بعنوان : اللغة الشعرية عند محمد مهدي الجوهري ، هدى مطوري ، وجواد سعدون زاده وآخرون .
  11. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مجدي وهبه وكامل المهندس، مكتبة لبنان ، بيروت، ط2 ، 1984م .
  12. مناهج النقد الحديثة الرؤيا والواقع، زهران عبد الحميد، دار الأرقم مصر، ط1، 1989م .
  13. الواقعية اللونية قراءة في ماهية اللون وسبل الوعي به، صلاح عثمان، منشأة المعارف الاسكندرية، 2006م .
  14. وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث ، دراسة في تطور المفهوم واتجاهات النقاد المعاصرين .

مقالات ذات علاقة

الحياة الأدبية في ليبيا

المشرف العام

النص بين النقد واللسانيات الحديثة – رمزية الوجه في رواية (اللحية) لسالم العوكلي

عبدالحفيظ العابد

الشجرة كدلالة مكانية للوطن في الشعر الليبي المعاصر

سالم أبوظهير

اترك تعليق