مملكة الحيوان بأقلام عربية وليبية
المقالة

لحظة أن تختار كيف تموت

قراءة نقدية لقصة النورس المتمرد

الكاتب الليبي عبدالرسول العريبي.
الكاتب الليبي عبدالرسول العريبي.

بوسعنـا الآن الانصراف إلى الأفكار والملامح التي ذهـب بنـا إليها (سعيد العريبي) في قصته النورس المتمرد، دون الحاجة إلى مراقبة الشكل الذي أطر بـه هذه الأفكار وهذه المضامين.. ذلك لأن الكاتب أراحنا من الخلاف معه، حـول السبيل الذي من شأنه أن يقدم لنا ما عنده عبر مسالكه.. فالقصة هنا أمامنا بشكلها الفني دون تداخل المدارس أو المذاهب الأدبية، بحيث نلاحظ جميعا أن الرمز أخذ مداه بيسر وموضوعية لا يكتنفها الغموض أو التعمية.

وعندما يلجأ الكاتب إلى النورس بالذات.. فهذا يعني أن الرؤيا أمامه واضحة وجلية.. فالنوارس بكل المقاييس لا تغضب ولا تثور ولا تجادل في حياتها أو مماتها.. مختلفة بذلك عن معظم الكائنات، لكن الظلم والقهر والتسلط من قبل عدو شرس كالذئب.. لابد وأن يدفع بهذه الكائنات المسالمة إلى أن تلجأ ولو في وجدان فرد منها إلى التمرد.. فليس ثمة من ينام والقهر تحت غطاء واحد، حتى النوارس الطيبة: (فماذا بوسعها أن تفعل والذئاب من حولها لا تعرف لغة العيون الحزينة ولم ترفي حياتها شيئا رقيقا وناعما مثل ريش النعام).

ويمضى الكاتب، ليقول: (هناك نورس واحد كان قد عاش على طريقته الخاصة ومات أيضا على طريقته الخاصة).

هـذه هي الفكرة التي يريد الكاتب أن يغرسها في وجداننا، وهي أن اختيار الطريقة التي نموت بها تكفي لكي نكون أحرارا في مواجهة من يتربص بنا وبمستقبلنا.

وأنا لا أعتبر ذلك، شيئا من الانهزامية في مواجهـة واقع مرير.. ذلك لأن تعبير الانهزامية لا ينطبق على كائن واحد ، فيما الآلاف من جنسه يعتريهم الفزع والذعر والارتجاف: (وليس هناك ما يدور في رؤوسها الصغيرة سوى أمل ضعيف في حياة هانئة ومستقرة).

من هنا أجد نفسي منقادا لقضية مهمة وهى : كيف نجد الواقع المقابل لهذا الرمز..؟ هـل ثمة ما يجب أن نفعله هنا إزاء سؤال ملح كهذا..؟

سأقول إن الأمة العربية معزولة عن أحلامها ومستقبلها بهذا الانصراف الأبله إلى جنة النفط وإن العدو ما يـني يتربص بها ويقتطع لنفسـه من أرضها وخيراتها في كل ليلة من ليالي العرب المملوءة بالخدر والنعاس وأنها في مواجهة ذلك لم تلجأ إلى لغة التحدي، في حين أن الفرد من هذه الأمة يغضب ويتمرد، ولكن لا ظهر له فيلجأ من جراء ذلك: (إلى أن يركب رأسه بدافع من الغرور القاتل ، ويصمم على الذهاب بنفسه إلى غابة الذئاب).

تماما كما فعل الشاعر العربي، خليل حاوي حين أطلق النار على نفسه.. لحظة أن شرعت الذئاب تمارس مهامها في بيروت.

ماذا أريد أن أقول بالضبط.. ؟

إن هذه القصة المتماسكة والمملوءة بالرمز الشفاف، ستكون بداية حقيقية لقاص يطل برأسه عبر غابة الأدب (كذئب) وجـد طريقه بين نوارس لاتملك الموهبة ولا الدراية بقانون الأدب.. أعنى الأدب المليء بالفئران والأسود والضفادع البرمائية.

وبوسعنا أيضا أن نبتهج لميلاد قصة جميلة وفكرة أجمل.

هل تراني انصرفت إلى المديح إزاء ما كتبه صاحب النورس.. لا أعتقد ذلك.. فالقصة تتحدث بنفسها وليس ثمة مجهود من أحد، لكي يكتشف هذه الحقيقة الطيبة.. وأيضا ليس ثمة مجال لأحد في أن يقول بأن المديح سيطيح برأس كاتب كــ (سعيد العريبى).. ذلك لأنه يمتلك الموهبة الحقيقية والثقافـة العربية الأصيلة غير الملفقة والتي م نشأنها أن تقدم لنا الكاتب الذي ننتظر.

ولكي لا أبتعد عن المنحى الذي ذهب إليه الكاتب في قصته، سأحاول أن أسجل بعض الملاحظات الصغيرة عن قصة النورس، وهذا لا يعنى في كل الأحوال نسف ما ذهبت إليه في قراءتي لهذه القصة ولكنه من باب العلم بالشيء.

أولا: نحن نعرف أن أسوأ علاقة في التأريخ، هي علاقة الذئب بالنعجة.. وليس ما يمكن أن نعتمد عليه في اعتبار الذئب عدوا للنوارس.. اللهم إلا إذا كانت من بين الوجبات الاستثنائية للذئب.

ثانيا : يقول القاص في وصف النوارس: (مكتفية بالتحليق على ارتفاع منخفض بمحاذاة الشاطئ بحثا عن وجبة شهية من صغار السمك ذي العيون البلورية.. فهي ترصد تحركات السمك بدقة متناهية وتتابعها بنظراتها الثاقبة متحينة فرصة الانقضاض المفاجئ والسريع وبكل مهارة).

لقد استطاع : سعيد العريبى أن يدر عطفنا على النوارس، لكن ثمة ما يجب أن يقال إزاء عدوانية النوارس تجاه السمك (ذي العيون البلورية).

ثالثاً: يقولـون إن النوارس تنام على وجه الماء المتداخل عبر شواطئ البحار.. وهذا يقطع الطريق أمام الذئاب المتلصصة على الشواطئ.

وفي هذا الصدد يقول أميل زولا: (تنحصر العملية الفنية في أخذ الوقائع والتأثير فيها بتغير الحالات والبيئات، دون الابتعاد عن قوانين الطبيعة، وبذلك تتحقق معرفة الإنسان معرفة عملية في عمله الفردي والاجتماعي).

ويمكننا أن نلاحظ أيضا أن الانصراف إلى الحيوانات للتحدث بلسانها.. هو من الآداب العربية والعالمية العريقة، في كليلة ودمنة، وما ألحق بها من محاولات كثيرة.

حتى إذا وصلت إلى العصر الحديث بأشكال وصيغ مختلفة.. فتلقفها الكثير من الكتاب العرب والغرب.. خصوصا أعمال لافونتين.. التي استقى منها شوقي مقطوعاته التي عبرت عن قضايا ومعان تتقابل والوقائع الإنسانية المعاشة.. وكذا الحال مع النيهوم في كتابيه: الحيوانات والقرود.

وقد ذهب بنا سعيد العريبى، هذا المذهب في قصتيه (النورس المتمرد والذئب).. وهاتان القصتان تتناولان قضايا أكثر حزنا لدى الإنسان منها لدى الحيوان.

ومما يلفت النظر في كتابات (سعيد) هو التأثر الواضح بلغة النيهوم كأن يقول لك في قصة النورس: (لا تحسد أحدا ولا تريد أحدا يحسدها.. لا تؤذى أحدا ولا تريد أحدا يؤذيها.. لا تأكل أحدا ولا تريد أحدا يأكلها).

وهذه المقاطع تكاد تكون قد وردت – إن لم تخني الذاكرة في قصة النيهوم: (الحيوانات.. الحيوانات).. لكننا ننتظر.. فالأدب الواعد آت مع هؤلاء.


ـــ نشرت بصحيفة النهر التي كانت تصدرها المؤسسة العامة للإعلام والثقافة ببنغازي.. أثناء مهرجانها الفني الثقافي المسرحي الكبير الذي استمر لمدة عام كامل.

مقالات ذات علاقة

شاهدت المصراتي

المشرف العام

الجنوب الليبي.. من الجرمنتيين إلى التوارق (4)

عبدالعزيز الصويعي

الحريّة والملكيّة

عبدالمنعم المحجوب

اترك تعليق