د. فاتح رجب قدارة
الأجواء في القرية البيضاء متداخلة رياح متربة وباردة، وشمس مثل شموس الربيع الدافئة، وما هي بدافئة، وصفير الحديد المصهور والمعزز يمتطي شوارع القرية المتربة ورقاب أهلها، سرت الأخبار بين الأقران وبعض المهتمين بأن الفنان التشكيلي “علي الزويك” غادر الدنيا مريضا، متألما، لوحده، غادر قريته التي تخيل بإصرار أنها بيضاء، وما هي ببيضاء، غادر في صمت، بعد أن عجزت السلطة الريعية المترفة عن التكفل بتكاليف علاجه، ولعل هذا من المواقف النبيلة لتلك السلطة، التي تمكننا من أن نستكمل تلك الأحداث التراجيدية المأساوية، التي رافقت حياة (حنظلة المدينة البيضاء) الزويك، تشابهت بدايتها وخواتمها، واختزلت في حالة الغربة، وعدم فهمنا لهذا الفنان؛ حتى أن أحدهم كتب عنه في سبعينات القرن الماضي ” إن الفنان علي الزويك، من ذلك النوع النادر من الفنانين، الذين يمشون أرض الخيالات والرؤى، ويعيشون بكامل وجودهم داخل مشاعرهم الذاتية”، و كتب آخر عن تجربة الزويك الفنية بقوله: ” تقع مغامرة “على الزويك” خارج حدود معرفتنا و عاداتنا البصرية، ولفهمه، اعتقد أننا يجب أن نأخذ موقعا آخر لا ينتسب إلى النقد الفني بالمعنى المتعارف عليه، و بعبارة ثانية، فإن مقاربة إنتاج الزويك تبدأ من مجالات و تجارب إنسانية ومعرفية أخرى، أهمها التصوف”.
لقد غادر في صمت، حتى بحّات صوته الهادي لم تسمع، غادر المرهف بعد أكثر من سبعة عقود بيننا، لم نفهمه، أو لم يفهمنا، ريشة كمشرط جرح، حادّة لا تدرك، هل ربتت عليك أم أصابتك في مقتل، ومقاتل الفهم والفهم نعمة، ولعل الباري اختص الفنانين بذلك الإحساس المرهف، عبر عنه من خلال مائياته التي كانت تعبر عن أفكاره ومشاعره الغامضة.
حاولت مجتهدا أن اقترب منه بتذاكي، ولكن بكل أدب جم، أوصلني إلى قناعات بعدم الخوض في هذا اليم القاري المتلاطم، شاركنا أو تواضع ليشاركنا في بعض الجلسات مع ثلة من متعلمي هذا الزمان، كان خلالها مبهوتاً ومصدوماً بحوارات طوطمية جاهلية، أعتقد بأنه مدرك لأدق تفاصيل تلك الحوارات التي لا تستهويه، أو يترفع عنها، ولكن عندما تتطرق همسات الجالسين المجلجلة لحوادث وفظائع قريته البيضاء المخضبة بالألوان الأرجوانية، يدفع صاحب المائيات العجيبة برأسه بشكل عفوي، مستقصيا عن أدق التفاصيل، برهة وما أن ينغمس المتحدثون في اختلاق سرديتاهم المعبرة عن انتماءاتهم الأولية، وقناعاتهم البوهيمية، حتي يشد طوله ويطأطئ شفتيه، تعبيرا عن الاشمئزاز، وتعففه عن الخوض في بحارنا الضيقة، تتصعد وتيرة تلك الحوارات، وصاحبنا تدور مقلتاه بعيدا، متحفزة بشكل عفوي لتفحص الوجوه الجديدة المتدافعة، متمعن فيها لأسباب مجهولة، قد تفهم في ضوء العيون السائحة في مائياته المخيفة.
لحظات ويندفع واقفا على نحو سريع ومفاجئ، ويرفع يده بالتحية إيذاناً بالمغادرة، أو للتعبير لنا بأن جلستنا لا تروق له، يندفع إلى خرج المكان بطوله الفارع، عاقداً كفيه خلف ظهره، على طريقة حنظلة ناجي العلي المميزة والملفتة، تلك الممارسة التي يعتقد البعض بأنها من الممارسات التراثية في بعض البيئات الليبية، يجول ببصره في وسط قريته في تمعن مدقق وغريب في الكتل الخرسانية العشوائية، يغض بصره واهتمامه عن المخلوقات التي تتحرك في هذا الفضاء، سابحا في ملكوته المجهول، أهمس في أذن (أبو لقمان) صديقه الصدوق: ما بصاحبك؟، فيلوح لي بالصمت، لا مجال للمناقشة، وفي ذات الوقت يبتعد الزويك قابضا يديه خلف ظهره، متجاهلا الجميع، في تصوري إنها تعبير سريالي، يتحلل فيه من واقع الحياة الواعية، أو تعبير عن غضب دفين عن مجتمع ومؤسسات لم تفهمه.
ولعل حالة عدم الفهم المتبادلة بينه وبين الآخرين، لم تكن قاصرة على أفراد قريته المغرقة في أزماتها المفتعلة، بل امتدت للنقاد والمهتمين بمائياته الغامضة، التي كان يعبر من خلالها عن أفكاره ومشاعره الخاصة جدا، ومواهبة المتوهجة، وقدرات فطرية، والتي كانت مثار تقدير عالمي، حتى الفنان ووزير الثقافة المصري العتيد(فاروق حسني)، عبر ذلك الاهتمام والمستوى الراقي والخاص جدا بمائيات الزويك في إحدى مشاركته الخارجية، وذهب الغربيون إلى تفسيرات أكثر “ثورية”، بعدّ مائيات علي الزويك امتداداً لفن ما قبل التاريخ، الموجود في جبال تيبستي و أكاكوس في الجنوب الليبي، حالة تفرد فني لم تشفع لصاحبها بأن يحظى بالتقدير والرعاية في الحياة التي قضاها مناضلا، بين محاولة اللافهم ومقاومة سوء الفهم والمرض، سلاحه ريشة حساسة، ومائيات، وابتسامات راقية أشد غموضاً، تدعم الرؤية حول تفرده الفني، ليضل نتاجه التشكيلي في انتظار من يفسره ويثمنه، وحانت لحظة الوداع، يودعنا في حالة أخيرة من الشهيق والزفير دون أن نعرف ما يريده.