بمناسبة صدور مجموعـته القصصية الأولى (حجر رشيد) عن منشورات مجلة المؤتمر.. وروايته الأولى (المـداسـة) عن مركز الحضارة العربية-القاهرة التقينا القاص “محمد الأصفر” وكان هذا الحوار، الذي تحدث فيه بكل جرأة:
أنا ساحر نفسي.. أكتب دون أن أفهم ما كتبت
أعرف كيفية كتابة النص المحكم الذي يشيد به النقاد والقراء
أدباء ليبيا مستواهم عادي.. ومنهم من كلمة عادي كثيرة فيه
حاوره: رامز النويصري
عندما التقيته أول مرة في مقهى مفندق (الصفاء) وقدم لي نفسه (مندلقاً)، تريثت كثيراً قبل أن أستوعب أنه هو ذاته صاحب (حكاية جورب).. فيما بعد عندما فرد حقيبته الجلدية السوداء _وهي بلا مقبض_ وأخرج مجموعة من الأوراق قال إنها تحوي مجموعة من قصصه، استغربت من خطه السريع وانحناءه كي يسمعك جيداً، وتحدث كثيراً.
محمد الأصفر.. أستطيع أن أقول الآن إنه قاص من طراز خاص، يكتب ويدرك أن الكثير غير راضي عما يكتب، ورغم هذا يظل يكتب لأنه يعرف أن الكتابة ليست بالمهنة، إنها روح، ومن يعرفه يدرك أنه استفاد من كل تجاربه، وأن نصه هو صورة طبق الأصل لمسيرته اليومية في الشوارع والبيت.. في هذا اللقاء يقدم لنا “الأصفر” نفسه، يقول بكل صراحة: أنا إنسان مؤذي.. أسبب الضرر لكل من يتعامل معي.
– لماذا كان حجر رشيد.. و هل ثمة حجر رشيد يمكننا الكتابة عليه؟
يمكننا الكتابة عنه وليس عليه.. حجر رشيد هو حجر الذاكرة المتدفىء بالتراب لسنين طويلة.. وبعد أن وُجد قدّم للإنسانية خدمة معرفية جليلة.. شامبليون ومن كان قبله من علماء الآثار هم مبدعو الحضارة.. كل منا ذاكرة منسية مهمشة تنتظر شامبليون الكشف والإهتمام.. مشاعرنا المكبوتة ندفنها منقوشة على أحجار القهر والقمع. أجسادنا مقموعة.. كما أرواحنا ونفوسنا وكل كياننا.. صرخاتنا ليست بوح.. وثوراتنا لن تصنع منا تشي جيفارات جديدة.. نحاول أن ندفن الأنانية عبر لغة لا يفهمها الطين الآتي.. ندفن خيبتنا وجنوننا وتعاستنا المولودة معنا.. لماذا علينا أن نختار؟.. لا أريد نجاحا يجبرني على دخول الإمتحانات.. أريد أن أسقط.. أن أترسب في قاع الحضيض.. لا أحب الفضاء.. أخاف أن تسقط بي طائرة الحظ في مهاوي الفرح المزيف.. أريد أن أضحك وأخاف.. لذلك أبكى دون رؤية دافنا بوحي منقوشا على أحجار مبهمة لن يفك طلاسمها غيري.. أنا ساحر نفسي.. أكتب دون أن أفهم ما كتبت.. الكتب التي قــرأتــهــا خــادعــتـنـي.. والتي لم أقــرأهــا لـم تـُـدافـع عـنـي والتي كـتـبـتـها ضــيـعـتـنـي.. والتي ســأكـتـبـهـا واعــدتــني بــالــفـنـاء..! اخشى وشاية الروح.. أخشى الهواء الذى اتنفسه.. لذلك ألهث ما طاب لي.. أريد درجي الذي حرثته بالفرجار في المرحلة الإبتدائية.. أريد رسوماتى وحروفي ونشارة قلم رصاصي الذي برأته بالمبرأة ذات المرآة الدائرية.. حجر رشيد مجموعة نصوص عادية كتبت بحبر اللامبالاة ولا شيء غير ذلك.
– كيف يمكننا قراءة محمد الأصفر.. ما الذي تريد قوله للقارئ ؟
الأفضل أن لا تقرءوا محمد الأصفر بل تلعنوه.. فاللعنة زادي الذي أقتات.. أنا إنسان مؤذي.. أسبب الضرر لكل من يتعامل معي.. في أي مجال.. تقرئوني لا تفهموا شيئا.. لأنني أنا نفسي لا أفهم لماذا أكتب وماذا أريد؟؟.. أريد أن أشرب القهوة في مقهى صغير.. أريد أن أتأمل دون مقاطعة.. لا أريد تحمل المسؤولية.. لا أريد مخالطة البشر.. زوجتي آمال فقط أحبّ أن أحيا معها في صخب لا متناهي .. لذلك سمعي ضعيف وبصري كليل.. وفهمي بطيء.. مشيتي هي السريعة فقط؟!.
– نلاحظ أنّ شخوصك ليست بعيدة، أنت تتحدث عن القريبين منك، كيف تتعامل مع هذه الشخوص؟
القريب مني بعيد.. من خلاله أرى تناسخات الزمن.. أرى صورته بكل هواجسها متكررة أمامي إلى ما لا نهاية وكأنها جالسة في محلقة مجدّرة بالمرايا.. الشخصية بعيدة.. أجذبها أمامي.. أتحاور معها.. نتشاجر.. نتهاكم.. نقهقه.. نتضاجع.. نقتل بعضنا بؤسا وفرحا.. بعد ذلك أهرب وأتركها أمامكم تبحث عني.. في نصوصي أكتب دون أن أعرف نقطة النهاية.. العالم مزدحم بالجدران فلماذا أنهي سردي.. نهاية نصي بداية جديدة في أرواح تفـضحني .. أخاف أن يقبض علي.. فدائما أنزف وألتفت الى الوراء.. ليس للماضي بالطبع.. لكن للمستقبل الخلفي.
– فى قصصك دائم البحث عن شيء ربما لا يروق أحد لكنه يروق الغير،إلى أين تؤدى بك لعبة الاختلاف هذه؟
تؤدي بي إلى لا أدري.. إلى لا فهم.. عندما تفهمني يا “نويصري” ورقتي تحترق كفتاة أذاقتك رضاب شفتيها.. لذلك أبحث عن المجهول المعرفة في داخلي.. أراه لكنه يتملص.. يداي ملطختان بالقذارة اللزجة ولا أجد ماء نظيفا صادقا يغسلني.. بقعة الضوء الطاهرة في داخلي أراها.. هي تتملص مني.. أعرض عليها أن تحرقني مقابل الاستحواذ.. لكنها تشترط نظافة اليدين وأنت تعرف أيها الصديق كيف ولدنا وكيف عشنا وما لامست أيدينا من قذارة وما رأت أبصارنا من عبث.. وما داست أقدامنا من تراب منافق يدخل عينيك إن أستأنس برائحة ريح.. المهم يا “نويصري” أنا لا أتصنّع الاختلاف.. كتابتي هكذا.. أبتعد عن النجاح والقوالب أهرب من الأمسيات والندوات والضوء المزيف الكهربائي.. أكره المسؤولين ولو كانوا أنبياء.. وللعلم أيها الصديق قد اعرف كيفية كتابة النص المحكم الذي يشيد به النقاد والقراء والزمن لكن لا يروق لي المنتهى.. تروق لي البشاعة والقبح والأزهار المليئة بالشوك النافثة عطرا يقيؤني…. لا أعيش أكثر من دموعي.. أبكي لأعيش أكثر.. ليظل عمري خال من التـنـاهـيـد.. وقـلبي مـغسولة نـبـضـاته.. فـهذا الإرث لا يـحـتـمـل نـبضة قـذرة.. في جـوفــنا طـهـارة.. في جـوفــنا حـقـارة.. في جـوفــنا ســرّ يـسـعـى.. الورد ما عـاد يُـمـثـل أهـمـيـة.. رائحة حـياتي تـغـار مـنـه.. أقـدّم لـحـبـيـبـتي بـاقة مـن عـرق.. وأزرع عـلى النـصـب التذكارية بـاقات الـزفــيـر.. سأقـفـل فـمـي المـقـفـل.. وأفـتـح فـمي المـفــتـوح.. وأبــوح.. سأقـفـل فــمي المفتوح.. وأفتح فمي المقـفـل.. وأنــوح.. سأحاول فعل شيء.. أي شيء.. حتى مــجـرد نـظـرة.. أه لـو أستــطع.. لو أقـدر.
لا أعــيش الآن الذي استـهـلـكتـه مـنـذ زمـــن
– قصة الحال، أو الحاضر، والآن .. إلى أي مدى توافق على هذا الاصطلاح ؟
بعض هذا الرأي قاله الكاتب العراقي “د. محسن الرملي” في تقديمه لمجموعتي القصصية (حجر رشيد).. كذلك الناقد الليبي “أحمد الفيتوري” له نفس الرأي وبالطبع لا أوافقهما.. فاستخدامي لقضايا الساعة وإنتاج اللحظة لا أقصد به الآنيّة.. فأنا لا أعيش الآن الذي استهلكته منذ زمن.. أتكلم عن (ميدان السويحلي) أو (الفندق البلدي).. أو مرقص في بانكوك أو ساحة (جامع الفنا) بمراكش.. لا يعنى أنني أتحدث عن هذا الزمن.. الأخوة النقاد فهموني خطأ.. فهموا أمكنتي فقط ولم يسبروا أزمنتي.. وهذا نتيجة القراءة المتسرعة والنقد الانطباعي المجامل.. الناقد “أدريس المسماري” قرأ ما كتب عنه فقط في روايتي “تقودني نجمة” ليقول لي أن الرواية لم تعجبه وسيئة وبها كثير من “هنري ميللر” و”جان جينيه” و”محمد شكري” وأنها كتبت بطريقة اللامبالاة.. عندما قررت الكتابة لم أنشد إعجاب أحد.. الناقد “منصور العجالي” يقول إنني أخرب أعمالي بالتهكم والمزح والانتقال من الحالة الرصينة إلى المزاح فجأة.. ولو عـددت كلام الأصدقاء النقاد هنا لدوختكم معي ولصرتم كتابا كبارا بواسطة ملاحظاتهم القيمة.. في نصوصي كثير من الجمل الفلسفية التي تحيلك إلى أزمان وأمكنة لا متناهية.. نصي يتأرجح بين المغرب وتايلند وليبيا والصين وتركيا.. بين الجنة والنار والبرزخ.. بين الصدق والكذب والشك.. نصي ثلاثي أو رباعي أو خماسي أو تائه الرؤى .. هذا العالم الذي نعيشه هو مجرد نص.. نص رصين باهر لا يمكن أن نختـزله في لحظة مهما تكثفت.. التكثف نفسه لحظات وعوالم مكانية وزمنية مضغوطة.. ضغطتها الحذلقة اللغوية التى مات سدنتها منذ زمن.. التكثف دكتاتورية البليغ.. لا أوافق أي ناقد يحاول أن يقولب نصي المنفـلت من الانفلات نفسه. فأنا لا أقول شيئا خلال نصوصي.. أنا أصمت.. حروفي متمردة عن النطق.. تستطيع أن تعتبرني أتأوه.. ثم أصرخ في آذان الغارقـين.
أصــرخ في آذان الغارقين
– في روايتك المداسة.. محاولة لكتابة نسيج روائي.. إلى أي مدى يمكن الحكم على التجربة بالنجاح ؟
تجربة فاشلة لكتابة الرواية.. كل الكلام الذي كتبته هراء.. تستطيع أن تسميها رواية قصيدة وقصة بدلا من رواية (المداسة).. في (المداسة) قصيدة تُهزم أمام قصة.. أمٌ تُهزم أمام أبنتها.. حاضر يدفن الماضي.. لكتابة روايتي استعنت بنصين قصيدة وقصة.. قصيدة للشاعرة العمانية “بدرية الوهيبي” بعنوان (فلامنجو).. وقصة للكاتبة الليبية “آما ل فرج العيادي” بعنوان (بقع ظامئة في حضني).. قرأت القصيدة في مجلة (نـزوى) والقصة في (أخبار الأدب).. أتفرج على التلفاز واقتبس منه قليلا.. أقرأ ديوان وأوظف منه قصيدة لـ”جيلاني طريبشان”.. كتبت هذا العمل بطريقة (الكولاج). أكثر نصوصه غير مترابطة.. أكتب ورقة أو ورقتين.. أبحث لهما عن مكان يقبلهما في النص هناك مقاطع خاصة كتبتهن لآمال ومنهن رسائل تخصها.. كانت تبكى من شدة فرحها.. كل ما مسحت دموعها تقول: إن كنت حقا تود كفكفت دموعي الصق هذا النص بالرواية لأن المداسة روحي وأعرف أن ّما كُتب من أجلى لن يكون غريبا في الرواية.. لن يفسدها يا ابن الأصفر.. أي صديق يقول لي ضعني في الرواية أضعه.. بل قلت للـ”نويصري” أي اسم يروق لك أو يدخل مزاجك ضعه.. ليس هناك مشكلة.. أشعر أن كل الكلام الذي يتفوه به أو يكتبه أو يقرأه الناس روايتي.. أعرف أن الإضافة دماء جديدة ستمتن الرواية وستطزجها إلى الأبد.. كذلك في تقودني نجمة فعلت نفس الشيء.. ألصقت نصوصا وأصدقاء وأمكنة ورغبات.. الرواية مملكتي الخاوية من شعوب أحكمها.. أوراقي كنفسي.. كتابة الروايات ليس بها أي مشكلة.. الروائيون مبالغون أو يتوحمون.. يكتبون الرواية لمدة خمس أو عشر سنوات.. يمارسون طقوس غريبة.. ويكتبون بحبر معين.. وبعطر معين.. وموسيقى تدفع الكلمات إلى المخيلة.. الخ من الطقوس والنظم.. أعتبر ذلك كلام فارغ.. ولا علاقة له بالإبداع.. لماذا التعقيد.. قل ما لديك وأرح نفسك وأرحنا معك.. نصوص كثيرة أحضرتهن من منتصف الرواية ووضعتهن في البداية وأخرى من البداية وضعتهن قرب النهاية و بالعكس.. خلطت النص مثل أوراق ( الكوتشينة ) ثم ركبته عشوائيا وعندما شعرت بالضيق من الكتابة والخلط والكذب أنهيت الرواية ورفضت أن أراجعها أو أصححها لغويا.. وأنت تعرف يا “نويصري” إنني أحضرت لك الرواية في قرص وقمت بمراجعتها وإخراجها.. وآسف تعبتك معايا على حساب شعرك المشاغب المناوش لأعدائك الثمانيين.. والآن أخاف أن أقرأ العمل مجددا حاولت ذات ليلة فبكيت.
بــــدريـــة وآمـــــال هــمــا رواية الــمــداســة
– كيف ترى واقع القصة في ليبيا؟
القصة في ليبيا عبّرت عن الحياة أكثر من الرواية.. الرواية لم تفلح لأنها ركزت على الذاتية وعلى البيئة الخارجية وعلى إضاءة شريحة واحدة أو بالأحرى قبيلة واحدة من قبائل الشعب الليبي.. فليبيا ليست مدينة فقط أو قرية أو صحراء.. ليبيا عالم من الوجود.. بحر وبر وجو أيضا.. الرواية الليبية في السنين الخوالي معظمها جبانة.. تمشي من الظل إلى الظل.. لا تمس المسكوت عنه.. وإن فـعلت فبطريقة مواربة منافقة.. عندما يقرأ القارئ الليبي الرواية لا يشعر بوجوده.. يشك في نفسه أنه ليبي.. هذا الأدب لا يعبر عنه.. لا ينقل أحاسيسه ولا يحقق آماله حتى في الخيال.. هناك المسرحية عبّرت أكثر من الرواية عن حياة الليبيين.. لكن تظل القصة هي الأقوى بما فيها من تفاصيل صغيرة قصيرة ولحظات وامضة فعبر قصص المقهور والشريف والفاخري والمسلاتي نرى التصاق مهم بالحي الشعبي أو الزنقة أو الريف القريب من الحاضرة.. ومن خلال أحمد يوسف عقيلة نقرأ الجبل بكل خراريفه وأساطيره.. والحقيقة هناك الكثير من الأسماء التي أبدعت في مجال القصة كالككلي والعبار والويفاتي وعبدالله هارون وأبي دوارة وسمير الشويهدي.. وغيرهم.. كذلك هناك الجيل الجديد الذي يكتب القصة بكل أنواعها.. غازي القبلاوي.. محمد العنيزي.. إبراهيم الككلي.. عوض الشاعري.. حسين طبيقة.. حسن بوسيف.. وغيرهم من أسماء الأصدقاء التي تحضرني الآن ومنطقيا لا يمكن إدراجها كلها في هذا اللقاء القصير.. لكن أحب أن أقول أن القصة القصيرة الحقيقية هي التي تـقتات على نديب النفوس.
صادق الـنــيــهـوم وإبــراهــــيــم الـــكــــونــي.. والبقـية عــاديــون
– هل تقتنع أنّه ثمة جيل شاب قادر على تقديم شيء في المشهد الليبي؟.. و كيف الأقلام الشابة التي تكتب القصة؟.. و كيف تقيّم الوضع الأدبي في ليبيا؟، كتابة..نقد..قراءة..
هذا سؤال مفخخ يا “نويصري” لكن لا بأس من الإجابة عنه.. لو تقرأ روايتي الثانية تقودني نجمة ستجد ضالتك.. الرواية منشورة إلكترونيا في مكتبة (مجلة أفق)، وورقيا لم تنشر بعد.. لكن لا بأس فسأجيبك الآن..
الجيل الحالي هو جيل البؤس وتشتت الرؤية.. جيل أستطيع تسميته بـ(حصانك مش جراي) أي جاء متأخرا.. لكن ربك في الوجود.. هذا الجيل تميز بمعايشة العولمة وتصادم الحضارات والإرهاب الدولي والديني وزيف الأنظمة السياسية في كل أنحاء العالم وكذلك شبكة المعلومات (الانترنيت) والتي اختصرت له الكثير من التجارب وقدمت له المعلومة في زمن قياسي.. سافر في مكانه.. وسكر وضاجع في مكانه.. وحاور القمم في مكانه أيضا.. فنراه يكتب قصته بكل عنفوان.. قصة معبرة تنأى عن التجارب السابقة ما استطاعت.. قصة هذا الجيل لن يعترف بها الا بعد مرور نصف قرن على الأقل على رأي “هنري ميللر”.. الأفق الآن مقولب.. هناك مسلمات وتكلسات ونظريات ثقيلة الدم ترفض منح إبداع هذا الجيل تميزه.. تستطيع القول أن قصة هذا الجيل بذرة ترفض الارتواء من المياه القذرة وتفضل ندى الفجر بكارة البلل.. لذلك تشع ببطيء كالنجمة البعيدة العاشقة للأرض الرافضة المتمردة.. لكن حتما ستضيئها يوما بل تفجرها.. الأجيال الماضية من الأدباء – وأقصد كل الوطن العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – نفعتها أنّ البلاد أميّة.. كذلك الثورات والانقلابات كثيرة.. وكل نظام يحتاج إلى سدنة ومساند ومشاجب وعكاكيز ومظلات .. حتى الكاتب العمومي الجالس أمام المحكمة أو أمام سفارة يجد الاحترام والتبجيل من العامة.. الأجيال الماضية جاءت إلى بلاد بكر في طور تكوين إطاراتها وأركانها وكوادرها.. السفر متاح.. الدورات الخارجية متاحة.. الملتقيات الشعرية.. طباعة الكتب والدواوين.. السجن أيضا متاح لتكتسب تجارب أكثر.. أنا أستغرب كيف يسجن إنسان سنوات وعندما يخرج لا يصبح مثل “ديوستوفسكي”.. التفسير الوحيد هو عدم وجود الموهبة الأدبية.. أو من سجن مع أديب استأدب.. الحقيقة أن الأجيال الماضية كانت فرصتها باذخة .. جيلنا لم يصل إلى شيء.. (كلاه المالح والمــر والحار).. عليه أن يسمسر في تجارة الشنطة ليتمكن من طبع ديوانه أو مجموعته أو روايته.. عـليه أنْ يكابد من أجل نشر بداياته.. لم نُدعم من أحد.. اعتمدنا على أنفسنا لذلك نكتب ما نريد لأن أقلامنا ليست للبيع إنما للإبداع للحب.. صحيح نحن ضعفاء في اللغة العربية ونكسّر في النحو والصرف وخطنا ليس ولا بد.. لكن نكتب بصدق ونسطر حياتنا ونحب وطننا وعالمنا.. لم تؤثر فينا الأيدلوجيات.. جيلنا كالعاهرة التي تمنح نفسها برضاها وليس عنوّة.
وتقييمي للوضع الأدبي في ليبيا.. كتابة ونقد وقراءة كالآتي:
الكتابة جيدة.. هناك مشاريع نضجت مثل النيهوم والكوني.. هناك مشاريع أجهضت أو أجهضت نفسها.. هناك مشاريع بدأت تحبو وتترعرع.. وما أحب قوله بالعربي أن مستوى أدباء ليبيا عاديين باستثناء “صادق النيهوم” و”إبراهيم الكوني” ومنهم من كلمة عادي كثيرة فيه.. بالنسبة للنقد نفس الشيء لا يوجد لدينا نقاد لهم وزن.. أكثرهم يدولب في هواء الفقاعات.. أكثر ما قرأته من مقاربات عبارة عن جمل مسروقة ونظريات مستعارة وكتابة بطريقة (لحس العجول) لحسني وألحسك.. أي أكتب علي وعلى جماعتي وأنا أفعل كذلك..لواط متبادل ليس أكثر.. لم يؤسسوا إلى الآن مدرسة ليبية للنقد.. دائما يبحثون عن الأعمال المشهورة والأسماء المكرسة ليقاربوها .. حتى يضمنوا فرصة النشر.. النقد في ليبيا بائس جدا.. أين هو الكاتب الذي استفاد من النقاد.. هناك من دمروهم النقاد وهناك من جعلوهم ينسون مشيتهم ومشية الحمامة أيضا.. أفضل شيء للمبدع أن يتعامل معهم بالمثل الشعبي الذي يقول ( شاوره وما تعدلش عليه ).. أي خليه يدقل نين يطفى بروحه.. وتريد الصدق يا “نويصري” أنا لا أرتاح للنقاد كثيرا ولا أعرف ما السبب ولا أستريح إلا عندما أهاجمهم.. أشعر أنهم كتبة فاشلون..أحدهم في بدايتي عام 1999 كتب في زاويته الأسبوعية في صحيفة الجماهيرية كيف إنسان ضربه سعر صرف الدولار فترك التجارة وتوجه للكتابة.. واعتقد أن هذا الكلام خال من المنطق فالكتابة ليس لها أي دخل بالمهنة ولكن ماذا افعل له.. تجاوزته وتفرغت لكتابتي لأكون أو لا أكون.. وبالمناسبة أحيي الأديب “تزفيتان تيدروف” الذي ترك النقد ليتفرغ لكتابته الإبداعية فانتـفـض وصرخ فجأة: أريد معنى لحياتي.. لابد أن أوقف هذه المهزلة.. ففاجأ العالم بكتابيه (غزو أمريكا) و(نحن والآخرون).. ترك النقد وصار يكتب إبداعا قائلا لصديق لائم: (دعني أبني بيتا.. أنا كنت مثل النجار الذي ظل طوال عمره لا يصنع إلا أدوات النجارة.. مسطرة.. مطرقة.. دعنى أبني بيتا).
المشكلة الوحيدة في ليبيا بل في العالم هي مشكلة أو أزمة القراءة.. علينا أن نبدع القارئ.. القارئ وليس المتلقي.. نحتقر القارئ عندما نعتبره متلق نريد أن نؤدلجه أو نعلمه أو نبول عليه بـيراعـنا.. القارئ ليس مكباً نرمي به رؤانا النرجسية والمغرورة وحتى المتواضعة.. علينا أن نخلقه بحب.. نستكتبه ليكتب معنا بتفاعله.. نخلقه مثلما تخلق أم كلثوم.. وفيروز.. وماجدة الرومي.. وشاكيرا.. و يخلق ماردونا.. ورونالدو.. وزيدان.. والعيساوي.. وونيس خير.. مشجعين يصفقون لهم ويحبونهم.. كيف يحدث ذلك.. بالموت في الإبداع والفناء في الاحتراق لا شيء غير ذلك.. فأزمة القراءة المبدعون سببها الرئيس بل المباشر.
– كلمة في الختام ..
طز في امريكا واللى عنده ديك………!!