“أول الحب .. أول المعنى” لطلال الغوّار يكشف عن ثيمة مهيمنة تتمثل في تـدوين سـيرة البلاد في صورة المرأة الحبيبة.
د. سعد التميمي
لما كان النص هـو معنى وليس حامـلا لـه، ولما كان المعنى في القصيـدة يتشـكل بطريقـة مغايـرة لما هـو مألوف خارج الشعر، كان على الشاعر أن يستعين بعدد من الآليات والتقنيات والأساليب الخاصة لصياغة هذا المعنى بالشـكل الذي يؤثر في المتلقي ليتجسـد فعل الاستجابة.
وقـد ينجح الشـاعر في نقـل المعنى مـن دائـرة الغنائية والخطابية في نص يتفاعل الذات الشاعرة مع الفكرة، وتمكّن الشـاعر من أدواته، ونقطة الشروع في هذا الامر تبدأ من عملية اختيار الشاعر لمعجمه الشعري الذي يتماهى مع موضوع القصيدة، ومـن ثم اختيار السياق المناسب، وهنا تتضح قـدرة الشاعر في التعامل مع اللغة ونجاحه في تفجيـر طاقاتها الكامنـة، وقـد تنبه عبدالقاهر الجرجاني إلى هـذه القضية، إذ أكد أن جمالية المعنى لا تأتي من شرفه وجلاله بل من خلال طريقة صياغته وتشكله.
والقارئ للمجموعة الشعرية لطلال الغوّار “أول الحب .. أول المعنى” يجد أن المعنى كان ضاغطا على الشاعر إلى حدّ كبير لأنه يرمز في كثير من قصائد المجموعة للبلاد التي تناءت وابتعدت، ولما كان العنوان هـو العتبة التي يلـج مـن خـلالها المتلقي إلى أعماق النص، فإن عنوان المجموعة يكشف عن ثيمة مهيمنة تتمثل في تـدوين سـيرة البلاد في صورة المرأة الحبيبة مما جعل مفـردة “الحب” تهيمن على معظم القصـائد، فالمرأة التي غالبا ما يخاطبها هي البلاد التي تناءت وتداعت على يد المخادعين، فجاءت القصائد لتمثل محطات يتفقد فيها ملامح هذه البلاد ويحن إلى ما بقي منها في الذاكرة حتى أصبحت مفردات (القصيدة، الشعر، اللفظ، المعنى، الرواية) مـوضوعات اشـتغل عليـها الشـاعر في رحلة البحث عـن المعنى/ البلاد.
هـذا الانـدفاع نحو المعنى جعل اللغة في بعض القصائد تميل الى الغنائية والخطابية، لكن الشـاعر الغـوّار سـرعان ما ينتبه الى ذلك فلجأ للمفارقة والسـرد والتناص في تصوير الأفكار التي تقوم عليها قصائده، فعنوان المجموعة ينحته الشاعر من عنواني قصيدتين في الديوان هما: “أول الحب” و”أول المعنى” إذ تصـور القصيـدة الأولى الضياع الأول للبـلاد عندما أكل آدم التفاحة، وتصـور القصيدة الثانية حالة الضياع الذي وصلت اليه البـلاد التي أصـبحت في رأي الشاعر فكرة ضائعة أو معنى غيـر واضح الدلالة.
أما النقاط التي يضعها الشاعر بين عنواني القصيدتين في عنـوان المجموعة، فإنها تشـير الى قصـائد المجموعة الأخرى التي هيمنت فيـها الثيمـة نفسـها التي يشــير اليـها العنوان، وكأن الشاعر قصد بأول الحب بداية ضياع البلاد عندما أغوت حواء آدم، فأصبح الحب الأول والعشق الأول إلى أول عصيان كان نتيجته ضياع البلاد، وهذا ما تشير اليه قصيدة “أول الحب” التي يقول فيها:
التفاحةُ التي
أغوت بها حواء
أبونا آدم
فقضمها
هي أول العصيان
لكنها
كانت أول الحب
فنسق قصة آدم هنا يحيل إلى نسـق آخر أراد الشاعر التعبير عنه، فـوجد في النسق القرآني قـدرة عالية في إيصال الفكرة للمتلقي بشكل مؤثر، فالمشترك واحد (ضياع البلاد) وهي الجنة في النسق القرآني، ولو الى حين محدد، وهي الوطن في النسق الشعري إلى حين غير محدد، فكل نسق في النص يحيل إلى نسق آخر في النص الثقافي العام، وبذلك يسـتقر النص في سـياق المجتمع والتاريخ بطريقة اقتباسية بحسـب رأي رولان بارت، وإذا كانت بداية الضياع هي (أول الحب) فان آخر الضياع هي (أول المعنى) التي يقول فيها:
أيتها النائيةُ
ها أنا أُملي قصائدي للريح
فأتوجُ غيابكِ
بالمعنى
**
مهما أكثرت من التأويل
كان حبّكِ
أول معنى
فهذه القصيدة تختزل بقية قصائد الديوان التي تعد تفاصيل وجزئيات، فالنائية هي (المرأة –البلاد) التي يراها الشاعر غائبة، الأمر الذي جعله يصورها بالمعنى إيمانا منه بأن المعنى غامض أي غائب. وهنا يشير الشاعر إلى أن المعنى هو الضياع من خلال الإحالة إلى الحب الأول (إغواء حواء) فالبلاد التي لا يجدها إلا في عالم القصيدة هي المعنى إذ يقول في (القصيدة):
القصيدة التي تمشي
الى حتفها
وحدها
من يوصلك
إلى معناك
فقد استطاع الشاعر طلال الغوّار في هذه المجموعة أن يجعل من الحزن والتشاؤم واليأس من حال البلاد أداة للتعبير عن رفض الواقع الذي يهيمن عليه المخادعون واللصوص، إلاّ أنه يستسلم أحيانا أمام تلقائية المعنى، الأمر الذي جعل اللغة تميل أحيانا نحو الغنائية، لتتسلل الطبيعة بمفرداتها (الأشجار، والليل، الصباح، الشمس، الريح، الزهرة، النهر، الطيور، المطر) فضلا عن مفردات (الحلم، الأغاني، الحزن، الموت، الحياة، الفرح، الحب المرأة، الجمال) إلاّ أن الشاعر حاول أن يستدرك هذا الأمر من خلال الصورة التي شكلها من خلال الاستعارات فضلا عن الاستعانة بتقنيات السرد أحيانا للخروج من فضاء الغنائية الى التكثيف والترميز للمعنى من خلال المفردات التراكيب، مما يخلق المفارقة التي تزيد من فاعلية الصورة، ليجعل المتلقي مشاركا في إكمال المعنى، إذ يرى ملارميـه إنَّ معنى أبياتي هـو ذلك الذي يعطيه لها القارئ. وهـذا ما فعلـه طلال الغوّار إذ لم يصرّح بقصيدته، فكثير من قصائده التي خرجت من فوهة معاناته، بل لمح وترك المتلقي يكمل ما أراده، إذ يقول في قصيدة “فيروز”:
حين انشقّتْ
عن صدر الليل
أغنية فيروز
رأيتك تخرجين من كلماتها
عاريةً
وبدون طوق نجاة
تلقين بنفسك في بحر هيامي
يبقى التناص سمة واضحة ومهيمنة في هذه المجموعة، وواحدة من أدوات الشاعر في تفعيل صوره وتحرير معانيه من الغنائية التي تلوح في أفق قصائده بين الحين والآخر، فعنوان هذه القصيدة قد يحيل إلى بعد رومانسي إلا أن الشاعر يوظف أغنية فيروز التي علقت في صباحات البلاد ليغير الأدوار، فبعد أن كان هو الباحث عن البلاد في القصيدة والكلمات والمرأة، أصبحت البلاد في هذه القصيدة هي من تبحث عن الشاعر ليؤكد أن حبه جعله يتماهى مع البلاد، فمـنْ خرجتْ مـن كلمات أغنية فيـروز عاريةً ليسـت المرأة الحبيبة بل البـلاد الحبيبة، فالشاعر استطاع ان يجعل من عتبة العنوان “فيروز” أساسا بني عليه صورا تعبر عن علاقته بوطنه، فالنص على حد قول جوليا كرستيفا امتصاص وتحويل لنص آخر، وهذا ما نجح فيه الشاعر في هذه المجموعة إذ أفاد من المعنى أحيانا كما مر من قبل، وقد يفيد من هيكلية النص المرجع كما هو الحال في قصيدة “القصيدة” التي يقول فيها:
لم يبق لي
غير القصيدة
أشير بها إلى نجم غيابك
وبها أصدُّ نبال أعدائي
وهي عصاي
اتكئ عليها
وأسير بها
حتى أصل إلى نفسي
فالشاعر يرى أن فعل القصيدة قادر على الوصول إلى البلاد والدفاع عنها، فإضافة الى تشبيهه القصيدة بعصا موسى (هي عصاي) فإنه يجـعل مـن قولـه تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهـَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ} (طه:18) مرجعية لقصيدته رغبة منه لخلق مساحة للتأثير في المتلقي من خلال توظيف التناص، فمن الوهم أن نعتقد أن العمل الادبي له وجود مستقل كما يرى تودوروف، فالشاعر هنا يستثمر ما تحمله العصا في الآيـة الكريمـة مـن معجزة إيمانا منه بأن البـلاد تحتاج معجـزة لتحتضن الإنسان وتحمي الحريـة، فهـذا التوظيف زاد من فاعلية القصيدة وجعل المعنى يحقق من المفاجأة والمفارقة “نجم غيابك، أصل إلى نفسي” فمثل هذه المفارقات التي نجدها في كثير من قصائد المجموعة تزيد من شعرية التراكيب وتبعدها عن الغنائية ولم يكتف بالقرآن بل جعل من الشعر القديم مرجعية لقصائده كما هو الحال في قصيدته “آخر الطريق” التي يقول فيها:
كلُّ الذين تحبّهم
ذهبوا
ومضى بطيِّ الريح وعدك
ترك الغيابُ على يديك
هشيمَهُ
فمطلع القصيدة يحيلنا الى قول عمر بن معدي كرب في حكمته الشهيرة :
ذَهَبَ الذينَ أُحِبُّهُم وبَقِيتُ مَثْلَ السَّيْفِ فَرْدا
أما عنوان القصيدة فإنه يصور حالة اليأس، وهذا ما تشير اليه كلمة “آخر” فضلا عن استعمال كلمة “كل” الدال على العموم، عمّق معنى الوحدة واليأس مـن حال البلاد ، إلا ان هـذا التشاؤم واليأس لا ينفي الأمل الذي يتفتح من بين ثنايا القصائد، ومنها ما قدم به المجموعة بقوله:
هذا الوجه
الذي يختبئ في بكائه
ربما يتحيّنُ فرصتهُ
للضحك
فالمفارقة التي تقوم عليها هذه القصيدة (البكاء، الضحك) تؤكد ان القصيدة بحد ذاتها بذرة أمل ستأتي ثمارها، وفي الأخير لا بد من التأكيد على أن هذه المجموعة تتطلب من المتلقي الوعي بالأفكار التي تقوم عليها القصائد ومكونات هذه الأفكار وتمثلاتها وما يبنى عليها قصدية، من أجل التفاعل مع التساؤلات التي تثيرها، والوعي بحركية المعنى وتحولاته من التلقائية إلى المفارقة.
______________________