لم تعد القصيدة الشعرية هي ذلك النص الذي يتراقص خيالا ودلالا في جميع الأغراض الشعرية التي عرفتها الأجيال الشعرية في العصور الماضية، بل عرفت تطوّرا مع الأيام ذلك التحول الفني مع زيادة انتشار الوعي الحضاري، والفكري والسياسي والفني لدى الشاعر، وقد تباينت تلك التجارب الإبداعية في مجال القصيدة الشعرية، وذلك منذ وقوف الشاعر العربي على الأطلال، ورثاء المدن والرجال أصحاب المعالم البارزة بين القبائل العربية، وفي هذا المقام نقف في محطة الشاعر الكبير مفدي زكريا لندخل عوالم النّص الشعري من بوابة تلمسان، تلك البوابة التي تكشف لنا ذلك المحمول المعرفي والتاريخي الذي نلمسه في مقطعين شعريين من إلياذة الجزائر، – ويرجع المؤرخون في تاريخ تأسيس مدينة تلمسان إلى القرن الرابع(4) ميلادي على يد الإمبراطورية الرومانية ، وكانت تُعرف آنذاك باسم بوماريا والتي تعني المراعي بما فيها من بساتين وأشجار مثمرة، وجعلت منها مستعمرة كما عملت على بناء الكنائس الكاثوليكية بها.
-حيث يقول الشاعر مفدي زكريا : في هذا المقطع من الإلياذة
أمانا ربوع الندى والحسب *** أمانا تلمسان مغنى الأدب
تماوج وهران في أصغريـ *** ـك وفاس، فأبدع فيك النسب
وتاه الوريط بشلاله *** يلقن زرياب معنى الطرب
وأغرى الملوك بحب الملو *** ك فأخلص في حبها كل صب
ولولا عناصر مليانة *** وعين النسور لكنت العجب
تلمسان، أنت عروس الدنا *** وحلم الليالي، وسلوى المحب
بحسنك، هام أبو مدين *** وفي معبد الحب شاد القبب
وأجرى بك الروم ساقية *** بها أسكر الحسن بنت العنب
وفي مشور المجد أذن موسى *** وخلد زيان مجد العرب
ونافح فردوس ابن خميس *** ويحيى ابن خلدون فيك التهب
– في هذا المقطع يتضح للقارئ ذلك التعامل البنائي مع النص الذي يتجاوز حدود اللغة إلى المعنى.. وهو يستخدم عبارة أمانا التي توحي ضمن سياق المعنى بأن الشاعر كان في حالة وداع لتلمسان ربوع الندى والنسب، وتوديعا لمجالس الأدب التي كان يلتقي فيها مع الأصحاب ، ويحاول الشاعر أن يصور لنا ذلك الجسد الواحد بين بلدين يرمزلهما بوهران في الجزائر، وفاس في المغرب.. ويدلل عليهما بأصغريك ، وهما القلب واللسان اللذان يجتمع فيهما النسب الكامل.كما يستند الشاعر في هذا المقطع على تلك الأسماء ذات البعد المعرفي والتاريخي. ولا تتضح تلك المعاني إلا بالرجوع الى المصادر الدالة على حقيقة وجودها في النص.
-وتاه الوريط بشلاله ، فالوريط هنا هو إشارة إلى شلالات تلمسان التي يبلغ طولها 340م وعلوها 120م ، والتي تقع في السلسلة الجبلية لتمسان، والتي يتوسطها الجسر الذي صمّمه غوستاف إيفل مصمّم برج إيفل بفرنسا عام 1889م.
– ويذكر اسم زرياب إشارة للفن والموسيقى التي برع فيها ..وهو أبو الحسن علي بن نافع الموصلي الذي عاش في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد 789م-857م، وهو مطوّ رأوتار العود، والموسيقى العربية ويلقب أيضا بالشحرور.
– ويشير الى اسم حب الملوك تلك الفاكهة الغنية بمكوناتها الغذائية، والتي تشتهر بها منطقة عين النسور بمدينة مليانة، وهي نفس الفاكهة التي تشتهر بها منطقة العريشة جنوب تلمسان.
– ويستدعي الشاعر مفدي اسم أبو مدين الشاعر الصوفيّ الكبير الذي هو من أصل أندلسي وهو أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري المعروف بسيدي بومدين 1115م-1198م ويحاول الشاعر الاسترسال في نسج الإلياذة بذكر اسم الساقية، والأبحار في عوالم تاريخية فيذكر اسم موسى ، والذي هو ليس موسى النبي إنما هوموسى التلمساني المعروف باسم سليمان بن علي عبدالله بن علي الكومي، والملقب بعفيف الدين، وهو والد الشاعر الظريف الذي عرف بموهبة شعرية كبيرة في تلمسان.
– ابن خميس وهو الشاعر أبو عبدالله محمد بن عمر بن محمد الحجري المعروف بابن خميس التلمساني والذي أصله من اليمن الذي ولد بتلمسان.. وله قصيدة تلمسان يقول في مطلعها:
تلمسان جادتك السحاب الروائح **** وأرست بواديك الرياح اللواقح
وسح على ساحات باب جيادها **** ملث يصافي تربها ويصافح
يطير فؤادي كلما لاح لامع **** و ينهل دمعي كلما ناح صادح
ففي كل شفر من جفوني مائح **** وفي كل شطر من فؤادي قادح
فما الماء إلا ما تسح مدامعي **** ولا النار إلا ما تجن ا لجوانح
خليلي لا طيف لعلوة طارق **** بليل ولا وجه لصبحي لائح
– ويختم هذا المقطع من الإلياذة في التغني بتلمسان حيث يذكر اسم يحي بن خلدون وهو أخو العالم والمفكر عبدالرحمن بن خلدون وكانت له مكانة مرموقة في البلاط الزياني قتل سنة 788م بسبب الفتنة التي وقعت بين الأميرين أبي حمو وأبي زيان حاكم وهران…
– وفي المقطع الثاني من الإلياذة يواصل الشاعر مفدي زكرياء تغزله بمآثر وأمجاد تلمسان فيعرج على المناظر والحواضر، وهو يخاطبها حقيقة ومجازا أنه مهما أطال التجوال والسفر فإنّه عائد لا محالة إليها بكل حب وشوق، وإلى أهلها الكرام، ويوغل عميقا في ذلك البوح التضميني للحقائق والأحداث التاريخية، هو يذكر تلك التفاصيل يغمراسن إشارة إلى بطولته وفترة حكمه.
– يغمراسـن بن زيان بن ثابت بن محمد، (ولد عام 603 هـ/1206م – توفي 680 هـ/1282م)، وتولى حكم تلمسان في عهد الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن المأمون الذي كتـب له بالعهد على ولاية المغرب الأوسط الجزائر حاليا.
كان يغمراسن بن زيان يتميّز بصفات وخصال أهلته مما سهل عليه بالقيام بدور كبير في وضع الأسس المتينة لدولة بني عبد الواد النّاشئة، وتميّز بمواقفه الحربية الكثيرة، خاصّة ضدّ قبائل بني توجين ومغراوة، حيث خرّب مواطنهم في محاولة منه لإخضاعهم وضمّهم إلى سلطته كما حالف قبيلة زغبة، وكانت له مع بني مرين بالمغرب الأقصى عدّة حروب وكذلك مع بني حفص شرقا، ورغم هزائمه أمامهم كان يدافع عن مملكته محاولا حمايتها من الأخطار الّتي كانت تتهددها شرقا وغربًا، وبدأ في توسيع حدودها على حساب أقاليم الدّولة الموحدية الّتي كانت تتداعى للسقوط، ثمّ قام بإلغاء سلطة الموحدين على تلمسان واستقلّ بها مع إبقائه على الدعاء والخطبة للخليفة الموحدي وذكر اسمه في السّكة، ونازعه بنو مطهر وبنو راشد لكنّه هزمهم، وأقام الدّولة على قواعد متينة، فاتخذ الوزراء والكتاب والقضاة، وبعث في الجهات العمال ولبس شارة الملك. واستمر عهده حتّى سنة 681ه/1282م ما مكّنه من توطيد ملكه وتأسيس نظم دولة جديدة بالمغرب الأوسط..
-إن الشاعر مفدي في مقاطع الإلياذة يستند كثيرا على ذلك المعطي التاريخي عبر العصور ، وتلك عملية صناعية بإمتياز حيث تتجلى الصنعة في توليفة تلك الأسماء للأماكن والأشخاص والمواقف التاريخية.
تلمسان مهما أطلنا الطوافا **** إليك تلمسان ننهي المطافا
يغمراسن الشهم ضاق اصطبارا **** وغالب خمسين عاما عجافا
وأصلى بني حفص حربا عوانا **** وما اسطاع بابن مرين اعترافا
فكانت تلمسان دار سلام **** وأمر الجزائر فيها ائتلافا
فأكرم بمشورها الوطنـ **** ـي، وزيان يحسم فيه الخلافا
ويدفع خطو بني عبد واد **** فتغزو الحياة، ثقالا خفافا
ويسكر هذا الوريط الدنا **** فتعصر فيه النجوم سلافا
ويكتب يحيى بن خلدون سفرا **** فيهتك في النيرات السجافا
وتنشق منجانة بالعذارى **** فيلتاع موسى ويأبى انصرافا
أفي رفرف الخلد ؟ قد وجدوا **** تلمسان..فاختطفوهااختطافا؟؟
شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابحه من حنايا الجزائر
1_ الإلياذة ص 31
2_ الإلياذة ص 49