كان أول لقائي “بالنص” في درجة امتحان حينها بكيت عندما قابلني وما انفكت معلمتي تقول لي أنها تلقائيا سترفع الدرجة ولم أعرف لماذا وضعتها؟.. هل لتقسم قلبي نصفين إثر خوفي من أمي أم أنها كانت ترغب في رؤية بعض دموعي.. ومن هنا بدأت علاقة غريبة بيني وبين ” النص ” وظلّ يقتحمني دائما بل يقتحمنا جميعا.. قلت لأختي حين تشاجرت معها على حذاء: ناخذه ونص ولا أعرف النصف الآخر أين هو؟..
“النص” يسكن أفكارنا ويقسمنا كما يشاء حتى في عشقنا لا نقول واحد مع واحد اثنان بل نقول واحدا ونقسمه نصفين.. نغني مع الفنان وليد توفيق: تجي نقسم القمر أنا نص وأنت نص ونهيم طربا بالرقص على وحدة ونص.
أصبح التجول في بنغازي صعبا بعد إقفال العديد من الطرق بالسيارات والحاويات والقوالب الإسمنتية وأكوام التراب حتى أن بعضها قفل بالأثاث.. أحياء كثيرة استوطنت بها الحرب فأصبحت كثقب الأوزون يتسرب من خلاله رائحة الخراب ونقابلها في كل اتجاه وأحياء أخرى نتكدس بها نبحث عن أكسجين الحياة ترافقنا أصوات الصواريخ والقنابل التي لا تتوقف وتجعلنا ندور في دوامة من القلق والكآبة.
كان اليوم منهكا جدا فبعد قضاء يوم سابق في تنظيم البيت الذي استأجرناه.. ها نحن نتجول لشراء بعض الأغراض التي نحتاجها.. قال زوجي: أنا جائع سأشتري أنصاص[2] قلاية[3] وذهب لشرائها..
“النص” له سطوته في حياتنا مع أننا لا نرضى بأنصاف الحلول ونحب كل الشيء.
ـ نص ونص ـ قالها زوجي حين عَبر عن عدم استساغته للساندويتش تنهد وقال بحسرة: الله الله مش كيف أنصاص مطعم بوذراع[4].. ضحكتُ بألم: أيــه. فقال: كم تشتهين أنصاص مطعم بوذراع وتشتهين التجول في ميدان سوق الحوت[5] والأقواس فكلما نتجه هناك لا أحسب ثمن الأنصاص فقط بل ثمن الكتب التي تشترينها.. ضحكت مرة أخرى وقلت هاربة من تخيلي للأماكن التي اشتاق إليها ومتخلية عن وقفتي بين “النص” و”النص” باحثة عن خط مستقيم أسطر عليه حياتي بعد أن تكسرت إثر نزوحي وقلت: لقد تلذذت بالأنصاص فمنذ خروجنا من بيتنا وتكدسنا عدة عائلات في بيت واحد لم أذق سوى الأرز والمكرونة وحرمت من طبخ أكلة مميزة لعائلتي وكل شيء أصبح ـ نص ونص ـ.
تتكدس محلات أي قطعة بدينار وهي الآن ملاذنا لشراء بعض الأغراض التي نسير بها أمورنا.. أخذت بعض الأواني.. الأكواب.. السكاكين.. الملاعق.. المفارش.. الشمع.. ومن باب الترف اشتريت بعض البخور.. لم أخرج من نطاق أرفف القطعة بدينار وقاومت كل مغريات البضائع الأخرى..
وكنت ألتقط الأغراض مراقبة نظرات زوجي الذي كان ينبهني إلى الاقتصاد فالظروف غير واضحة والإيجار ثقل كبير.
تخيلت بيتي وصرت أتذكر أغراضي.. كنت مولعة بالآلات الكهربائية وتذكرت أنني كنت أرغب بشراء آلة لطبخ الفوشار حينها قال زوجي: آلة فوشار لماذا؟ وهل تحدث ضجيجا مثل وضعه في وعاء الطبخ.. هل تريدين أن تحرمين الأولاد من الرقص حول فرقعتها؟
.. كل شيء يفرقع الآن يا زوجي ..
لا صوت إلا صوت الفرقعة..
الحلم يفرقع..
الوطن يفرقع..
الوجع يفرقع..
نظر إليّ البائع وقال: أربعطاش ونص..
صرخت أربعطاش ونص أين الأربعطاش ونص؟.. يا ربي.. يا ربي
ضحك البائع وقال أربعطاش ونص دينار..
ارتبكت.. ضحك زوجي بصوت عال.. دفع المبلغ وخرجنا ولا أعرف من أين ظهر “النص”.
_____________________________________________________________________________
[1] مضاد للطيران قطر مقذوفه 14.30 وشاع اسمه في ليبيا بأربعطاش ونص وأربعطاش هي أربعة عشر
[2] سندويتشات.. بعض الليبيين يطلقون على الساندويتس بالنص
[3] أكلة شعبية ليبية عبارة عن لحم يقطع صغيرا مع البصل ويوضع عليه الملح والزيت والبهارات ويوضع على نار هادئة ويمكن وضع عصير الطماطم والطماطم المعجون ويمكن أن تكون القلاية باللحم أو الكبدة أو مع بعضهما.
[4] مطعم شعبي يقع بمنطقة سوق الحوت
[5] ميدان سوق الحوت أحد معالم المدينة القديمة في بنغازي، وسُمِيَ بهذا الاسم لوجود سوق متخصص في بيع الأسماك فيه قديمًا وتوجد به معالم مهمة منها حوش ” بيت ” الكيخيا وهو أحد أقدم بيوت المدينة وأحد معالهما تأسس في نهاية العهد العثماني من قبل صاحبه السيد عمر باشا الكيخيا وقد تم تحويله إلى معرض بإسم بيت المدينة الثقافي.. ووقع ميدان سوق الحوت بمحور الاشتباكات .