نشرت الوسط في 10 أبريل 2018 آخر مقالة للكاتب الليبي يوسف القويري بعد يوم رحيله الذي لم يُباغتنا. عنوانها “مناقشات خيالية” أنهاها بعبارة لـ عالم إنثروبولوجي بريطاني توّهمه مخيّله هو ويليام أودن واعداً سامعيه :”وسوف نحاول أن نقتنص غداً الرّق من ثنايا البنية البدائية ذات الطابع المشاعي، وسوف نتبين جميعاً أن ذلك قد حدث في ماضي الدهور“.
لا ننتظر الغد، ونستحضر البِنية البدائية في هذه الفقرة النبوئية بواقعنا وبوقائعية موت القويري خاتما مقاله بالوسط وحياته. إذ نُبرز كلماته الدوّال في مسيرة كتابته، حياته الميتة ـ الحيّة :الرق، البدائية، المشاع، حدث الماضي وبُنيته. وهو مادفعني أن أنتوي فور علمي بموته عن بوابة الوسط 9.4.2018، أن أكتب مرثية فيه تقصدتّها لي عنونتها بـ”هارب من الأيام” ولو أني قرأت قبلها مقالة “المناقشة الخيالية” لكنت عنونتها ” آبقٌ منالأيام” حتى يكون العنوان ملائما لمضمونه حيث لايكون الآبق إلا عبد الحياة الليبية ينفلت من رِّقها. وبما أن الرِّق دين فإني بمرثيتي الحارقة في وصف فقدانه، أكون تحرّرت من كتابة تعزيتي فيه لأكتب مقالتي الفكرية التي انتظرت تحوّطاً أزيد من 30 عاماً لأكتبها تأملا في ظاهرته الكتابية المُحيّرة كموته، والتي يمكن تسميتها بـ”البُنية القويرية”.
سكّ البنيوي والمحلّل السيميولوجي “تزيفتان تودوروف” مصطلح “نقد النقد” لتحديد ما أشار إليه الكاتب القويري في صحيفة الميدان الليبية بستينية القرن الـ 20 في عموده شموع بـ ” قيمة إصدار الأحكام” فالناقد في نظره “لابدّ أن يصدر حكماً على العمل الأدبي، فهو بدون هذا الحكم يتركنا معلّقين في الهواء دون أن يضعنا في مكان محدّد نتبين منه وجهة نظره”. وجهة النظر سميّت نقطة التبئير في علم القراءة الأدبية، الذي طوّره تودوروف من النقد إلى نقد النقد محفزاُ ناقد النصوص الأدبية بأن يطرح على نفسه سؤالاً “ماذا يقول النص تحديداً؟” بدل “هل يتكلم هذا المكتوب بصوابية؟”. تحوّطت ككاتب انشغل بنقد النقد من الكتابة في فكر يوسف القويري وسوّفت ذلك لأزيد من ثلاثة عقود، أولاً ليقيني بأن الكاتب الآبق من الحياة الثقافية الليبية، إن صح هذا الوصف، لن يتجاوب مع مقالتي ولن يأبه بها فيقرأها حيث كُل شئ في بيت النمل الذي كان يدُّب فيه باطل الأباطيل ونافل. وثانيا الصورة الواهمة التي شكّلها عنه وقتها الجيل السبعيني الذين عندما بدأو يستشرفون الكتابة في الصحف عام 72 ـ 1973،كان يوسف القويري آذن بالانصراف منذ عام 1970 بإقفال جريدة الميدان وتسلُّل صاحبها الصحفي فاضل المسعودي آبقاً عبر أسلاك الحدود وبعدها بعام تأممت الصحف المستقلة فودّع القويري الكتابة الصحفية نهائياً، ليصير موظفاً محطوطاً على المعاش في وزارة الإعلام والثقافة. كما أجمع كُتاب جيلي أيضاً على نعته بالأستاذ بدون التدقيق في قراءة مقالاته المجمّعة لإقامة أوده بالمال، لاحقاً في كتب: “مفكرة رجل لم يولد، و قطرات من الحبر، وخيوط رفيعة، وفي الأدب والحياة، وعلى مرمى البصر“. بل أسبغوا عليه وصفه بمعلمهم جُزافاً. وهو ماقد يكون أقلقه،لأنّه ماتقصّد أن يكون مُعلّما لأحد، والذين وصفوه لم يبيِّنوا ماذا تعلموا منه؟!
في رأيي أن واسطة عقد مؤلفات يوسف القويري حتى كتابيه الأخيرين، مدخل إلى قضية المرأة، وتثاؤب الشرق سيظل كتابه المبتدئ “الكلمات التي تُقاتل” وهو الكتاب الذي يمكن للمرء أن يتعلم منه كيف يكتب بفكر الوضوح في مقالة الأدب. إلى حدٍّ ما محمد مندور والأبرز سلامة موسى، وتابعيه لويس عوض، ومحمود أمين العالم، هم أساس البُنيه التفكرية في كتابته، وحجته الدامغة في يده في الحكم النقدي على نصوص مجايليه الستينيين الليبين الذين ـ وسيتابعهم في ذلك السبعينيون ـ كانوا ميالين لإبداع مخيال السرد وقليل الشعر، والناقد الخمسيني مثلّه خليفة التليسي لم يبارح الرومنطيقيات التي توقف عندها، وتعمّق تطبيقياتها في كتابيه “الشابي وجبران”و “رفيق شاعر الوطن”. فبقي القويري تقريباً وحده فارس مقالة النقد في جماليات المضمون الواقعي المعاكسة للروح الرومنطيقي متجلية في إبداع الأدب. وهو مانلحظه لوتصفحنا بعض مقالات “الكلمات التي تقاتل” التي اختص بها قضية المجتمعيات الثقافية الليبية كـ “قريباً من المنبع، ومفكرون هزموا الظروف” ومقالين اختص بهما مجايليه الكاتبين عبد الله القويري كـ “مخلوقات المؤلف.. عرض نقدي لمسرحيته ـ المعاناة من أجل شئ ـ” ويوسف الشريف كـ “الحكاية وفن السرّد” وهي تأملات نقدية في مجموعته القصصية الأولي “الجدار”. الطريف والمثير في مقالات يوسف القويري أنه ابتدأها من وجهة نظر مناوئة يمكننا وصفها بتعبير تودوروف “نقد النقد” للكاتب خليفة التليسي بمقالة مكثفة في أحمد رفيق المهدوي،هي “رفيق شاعر اللحظة البسيطة”، الذي رمق القويري في شعره بُرهته، التي ماانفك الموت يقتنصها من حياة الشاعرالكلاسيكي ـ مابعد الكلاسيكي، والتي لم يتصيّدها التليسي في كتابه “رفيق شاعر الوطن” مستلهماً تطرّفات رومنطيقية مدرسة الديوان، فصار نقد النقد مقالة القويري الأولى مفتتح كتابه الأوّل “الكلمات التي تقاتل” في المقتطف (29) من فِقر كتابه “قطرات من الحبر” من عموده “شموع” وكأني به يوّجه نقداً مُبطنا لنقد التليسي، المستلهم من الممارسة النقدية فيما عُرف “بمدرسة الديوان”. إذ ينبري القويري في نقد نقد التليسي دون ذكراسمه مُدافعاً عن رفيق وشعره: “إنما يكون النقد مثمراً حين ينطلق من النص الأدبي ذاته.. مفسّراً ومحللا ولامساً مواضع الاضطراب ومواضع العمق، وكاشفاً أسباب ذلك كله، بلغة مفهومة لاتعالم فيها ولا كبرياء (…) فهذه الطريقة ـ بغض النظر عما فيها من استعلاء وخطأ ـ لن تفيد الكاتب ولا القارئ، وهي في النهاية سوف تنزع عن الناقد نفسه صفته الأدبية وتحيله الى رجل منفّر يملك قائمة من الأوامر والنواهي المُسبقة ولايفهم ـ حتى مع ذلك ـ كيف يكون مرناً في تطبيقها !”.
كثيراً ما اُستعيرت كلمة” Anatomy ” علم تشريح أعضاء الكائنات الحيّة في كتابات النقد الأدبي، وأبرزها كتاب نورثروب فراي الشهير “تشريح النقد Anatomy of Criticisim”. في نصّه النافذ “بيت النمل” يكتب القويري بضمير السارد: “وإثر بتري لنصف النملة الزنجية الأسفل عند أعلى البطن تاركاً الصدر والرأس دون إجراء جراحي تجريبي واصلت الحشرة – وهي بلا بطنٍ على الإطلاق – التثبت برجليها الأماميتين دونما اضطراب على الحافة مستمرة في تناول الطعام وكأن شيئاً لم يكن (…) وهو نفسه ما هيأته الظروف لعالم الحشرات المرموق “جاك لوب” في القرون الماضية في دراسة فصيلة محددة من العناكب حيث لاحظ أن أنثى العنكبوت قد قضمت ثم التهمت بشراسة رأس ذكرها خلال المسافدة – أي العملية الجنسية عند الحشرات – فاستمر ذكر العنكبوت في نشاطه الجنسي البائس حتى بعدما فقد رأسه“.
الحياة كغريزة بائسة دائما تفشل، وتخفق في كتابة القويري، ولكنها لاتتوقف عن ممارسة وظائفها. المشابهة لممارسة النقد بطرائق تمويت شعر اللحظة البسيطة، الذي يُبعد الحياة عن نصوص الأدب، وهو ما يمكن وصفه فيما كتبه في عموده الصحفي شموع 1966 ـ 1968 من كتابه “قطرات من الحبر” بالفشل المشابه للإخفاق الإنساني الشائك إزاء مشكلة الموت الغامض الذي يبدو مثل حيوان خرافي شديد الضراوة والبطش، هائل الحجم، ولكن لا أحد يراه، ولايعرف كيف يتفادى ضرباته، كيف يصطاده ويحبسه في قفص،كيف يفهمه ويروّضه ويقلّم أظفاره، ويعطي لجحيم إندفاعه، وعماء فتكه وافتراسه شيئاً من الهدؤ والعقل” .
___________________