الشاعر أحمد بللو، الشاعر مهدي التمامي، الكاتب يوسف القويري.
المقالة

عين أخرى تنطفئ

الشاعر أحمد بللو، الشاعر مهدي التمامي، الكاتب يوسف القويري.
الشاعر أحمد بللو، الشاعر مهدي التمامي، الكاتب يوسف القويري.
الصورة: عن حساب الشاعر مهدي التمامي.

لم يكن مجهولا… بل كان معروفا على نطاق واسع بين كل الأدباء في ليبيا، وقد زاد من شهرته اقتران اسمه العائلي بالكاتب المعروف (عبدالله القويري) الذي يعتبر من أهم الأباء المؤسسين للثقافة الليبية الجديدة.. أما قيمته الإبداعية فقد عرفتها من خلال كتابات الشاعر الراحل (محمد الفقيه صالح) عنه، بعدها عثرت على كتابه الأكثر تداولا (الكلمات التي تقاتل) وتوالت قراءتي لأنتاجه المتميز، وصولا إلى مقالاته التي كان ينشرها على صفحات مجلة (المؤتمر)..

أتذكر حين وجدته أمامي في مكتب الصديق الدافئ (محمود البوسيفي)، قبلت رأسه تبجيلا.. كان يردد (استغفر الله العظيم) بلكنة مصرية.. منذ ذلك اليوم صار أحد أهم مصادري المعرفية؛ إضافة إلى المثقفين الاستثنائيين (رضوان بوشويشة، وعلي الزويك).. لقد عشت مع هؤلاء الثلاثة شفوية ذهبية، كانوا مناجم معرفة باذخة… ناهيك عن لغتهم (القطاف) التي تتجه إلى أعلى مستويات التذوق النادر، والنادر جدا..

كنت ألتقيه صباحا يستتشق اليود في طريق الشط، وأنا متجه إلى مركز دراسات الكتاب الأخضر، عندما كان المركز قبلة المثقفين جميعا بلا استثناء.. فقد كانت دماثة وتواضع وكرم الدكتور عبدالله عثمان أمين المركز آنذاك، وأجواء المرح الكبير التي يخلقها الصحفي اللامع محمود البوسيفي، والعمق الفكري والتأسيس المعرفي الذي ينام على جناحه عبدالمنعم المحجوب، ونخبة من المستشارين اللامعين كالأمين مازن، ومنصور بوشناف، ومفتاح العماري ويوسف الشريف… كان لكل هؤلاء مجتمعين جاذبية لا تقاوم (وقد تأتي مناسبة لاحقة للحديث عن تفصيلات أكثر بهذا الشأن).

أعود إلى الراحل الشاهق، الذي لم يهتم كثيرا بمسألة الشهرة؛ رغم إنه كان يفوق أكثر المشهورين قيمة أدبية.. بل حرص على مراكمة رأسماله الثقافي وتوظيف معرفته وفق ما يتمتع به من ملكة خلاقة، مما جعله ينتج ثقافة رؤيوية مختلفة، تمتتد لأجيال قادمة لما لها من استشرافات (من مفكرة رجل لم يولد بعد) ليؤسس رأسمالا رمزيا يبقى شاهدا على قدرة هذا الكاتب الفذ، المهمش وطنيا، ومناعته ضد غواية السلطة الثقافية وتداعياتها. لقد حرص على شرعيته الإبداعية، إذ بقي يرتاد مكتبة مركز الكتاب الأخضر الثرية بأغلب العناوين بشغف غريب، حتى أنه كان لا يغادرها إلى آخر الدوام، مما يضطر المشرفين عليها للمغادرة وهو بداخلها في فترة الظهيرة… كان يقرأ كل شيء تقريبا، مذكرا بالاسماء التي عشقت المكتبات بجنون مثل بورخيس… كم حرصت على انتظاره لأوصله إلى شارع عمر المختار.

حبني مثل ابنه، كان يزودني بخلاصة ما يقرأ وما ينوي كتابته، زرع بين جنبي بذرة طموح تواصل تفرعها حتى الآن، فرح معنا بمجلتتا الجديدة (شعريات)، أنا والراحل (صلاح عجينة).. أحيانا نترجل قرب الفندق الكبير لشرب القهوة، يمشي بيد واحدة دائما يضرب بها هواء الطريق؛ ويده الأخرى تتأبط حقيبة أوراقه.. صموتا، وادعا، لا يزعج الأرض التي تحت قدميه… وأنا مؤمن بأنها احتفت به الليلة وسط بهجة الموتى الذين يراقبون بؤسنا فوقهم، ويهمسون فيما بينهم: 

“طوبى لهذا النبي الجديد، لقد استراح من قسوة الحياة ومن ضجيج القطيع، وجاء بكامل أوسمة الخلود، وقد صارت الحقيبة تحت أبطه زهرة جلجامش الغائبة.
نسيت أن أنوه، بأن الجالس على يساري هو الكاتب الصحفي (أحمد بللو) أحد المثقفين المشرقين في مدينة درنة، بل إنه يمثل طرازا درناويا أصيلا لما له من حساسية عالية تجاه كل جماليات الحياة، فمدينة درنة كانت وماتزال شهية كل مثقف ألقى السمع وهو ثمل بملاحن مزمارها الشجي…!!!

مقالات ذات علاقة

مقتل عبدالسلام المسماري: الخوف يعود إلى ليبيا

هشام مطر

الأفعى المجنحة .. تجربة ليست للاقتداء

منصور أبوشناف

الشعر محدقا في البعيد

سالم العوكلي

اترك تعليق