الكاتب: سالم الهنداوي
حوارات

الحكاية أمٌ شرعية للرواية سالم الهنداوي: أظفر بقيمة الكتابة في مواجهة العبودية السياسية

مجلة نزوى: حوار: يحيى الناعبي.

الكاتب: سالم الهنداوي
الكاتب والروائي سالم الهنداوي.

الحكاية أمٌ شرعية للرواية كما يقول الكاتب والروائي الليبي سالم الهنداوي ، لذلك كانت الحكاية بشخصياتها الشعبية هي التي شكلت البناء القصصي والروائي عند الهنداوي وحفزته في أن يسلك طريق الكتابة الإبداعية والمقالات الصحفية منذ صغره والتي قادته نحو الهجرة الى اصقاع ومدن أخرى كطرابلس واليونان وقبرص وغيرها، حيث انه زاحم بمقالاته السياسية النقدية وحكاياته الشعبية القصصية النظام الليبي آنذاك.
يعتبر الهنداوي من الكتاب العرب المهتمين بتضمين الثيمة السياسية في الأعمال الأدبية والنبش في سرادق الحياة الاجتماعية للانسان العربي.

العصامية الثقافية لسالم الهنداوي إذا شئت أن تسميها. من أين منبعها؟

( القصد من السؤال هو الخروج المبكر من الدراسة بسبب الظروف ولكن ثقفت نفسك لتصبح قاصا وروائيا له دور ريادي في ليبيا والوطن العربي).
– نشأتُ في مدينة ليبية تاريخية عظيمة اسمها (بنغازي) كانت المدينة رواية ممتعة بفصولها.. عشتُ في حواريها وأزقتها الضيِّقة مع شخصيّاتها الشعبية.. في أسواقها ومقاهيها كانت الناس تعرف بعضها، بالأسماء والوجوه، وكل بيوت الجيران كانت بيتاً واحداً لصغار الشارع، نلعب بألعابنا الموسمية وحين نتعب نضحك كثيراً فنأكل ما تيسّر في هذا البيت أو ذاك وننام هنا أو هناك على أصوات الديكة في ساحات البيوت الترابية، ونهيق الحمير ونباح الكلاب في الخرب المجاورة.. كان يستهوينا السهر واللعب تحت المصابيح الكهربائية الواهنة في شارعنا القديم قرب البحر، وجل شوارع المدينة القديمة كانت تحتفي بتقاليد شعبية حميمية، خاصة في الأعياد الدينية، فنستقبل المناسبات بفرح غامر، فكنّا ضمن طقوسها الجميلة، زينتها في البيوت والشوارع والحدائق..
.. عندما دخلتُ المدرسة في مطلع الستينات، كنتُ مُرغماً على معرفة لا أشتهيها، علوم وجغرافيا ورياضيات.. كان مشهد المدينة في خيالي، أكبر وأعظم من كل تلك القواعد العلمية التي كانت تسقط مراراً من حقيبتي المدرسية. نهروني وضربوني، ثم طردوني… وهكذا حتى كبرتُ خلال فترات الرسوب المتكرِّر في المرحلة الابتدائية.. لم أكن نافعاً في الدراسة سوى في مادة الإنشاء والتعبير وتحرير وإخراج الصحيفة الحائطية.. فشلتُ في فريق كرة القدم ونجحتُ في مسرح المدرسة.. ثم حين رأيتُ جُل التلاميذ يتقدّمون وينتقلون إلى المدرسة الإعدادية، ذهبتُ للمدرسة الليلية في محاولة لاستكمال تعليمي، لكنها لم تكن سوى سنة واحدة مع «الكبار» تعلمتُ فيها التدخين.. وخرجتُ ظافراً بفرصة عمل في شركة مقاولات، ثم بائعاً للمكسّرات والحلوى أمام سينما، ثم مسافراً باحثاً عن المعرفة بالحياة…
.. نشرتُ خواطري الأولى في صحافة بنغازي الرائجة في تلك الفترة، وعملتُ بها لفترة وجيزة انتقلتُ بعدها إلى طرابلس للكتابة والعمل في صحافتها، أكتب التحقيقات والمقالات، وأكتب القصة القصيرة.. وفي منتصف السبعينيات نشرتُ أول قصة قصيرة في مجلة عربية اسمها «الدستور» كانت تصدر في لندن، وكان يشرف على ملفها الثقافي آنذاك الشاعر «جاد الحاج».. بعدها توالى نشري في مجلات عربية كبرى كانت تصدر في بيروت وقبرص ولندن وباريس.. وعملتُ خلال الثمانينيات في صحافة بيروت، وبعد الحرب انتقلتُ إلى قبرص، وبعدها عدتُ إلى وطني للعمل في الصحافة والإعلام، ثم عُدتُ إلى قبرص، وخلال تلك الفترات أصدرتُ العديد من الكتب الثقافية والمؤلفات الأدبية في القصة والرواية.

ما هي محفزات الكتابة الأولى لديك؟

– الحياة في بنغازي كان لها طقس خاص ومناخ ثقافي مميّز على خلاف بقية المُدن الليبية. وكانت لصحافتها الرائجة في عقد الستينيّات دور ثقافي في محاكاة العبق الأدبي الذي كانت تنتجه بنغازي.. فظهرت أسماء أدباء كان لها حضور مميّز في المدينة، يرسمون بالكلمات ما تعجز الناس عن وصفه، فاستمالوا إليها مرتبطين بعطاءاتها الأدبية المفعمة برائحة المكان وحيوية شخوصه الشعبية ودلالاتها الجميلة في الحياة والمعاناة.. كان من بينهم الكاتب والمفكِّر العربي الراحل «الصادق النيهوم» الذي لامس الحياة في بنغازي بأدق التفاصيل الساحرة من خلال شخصيات شعبية كانت صحبته في مقالاته الأسبوعية في جريدة «الحقيقة».. كذلك كان الحال مع الراحل الأديب «خليفة الفاخري» الذي كتب «موسم الحكايات» عن أجمل سنوات بنغازي…
.. من هنا ربما كنتُ في تماس مع حالة الألق بالمدينة التي سبرتُ أغوارها لأكمل الملحمة الأدبية الرائعة التي استهلها صادق النيهوم وخليفة الفاخري، ولتكون بنغازي مُهجة حكاية طويلة تجسّدت في روايتي «عودة الولد الصغير» التي حكت سيرة عشق المكان ورائحته.. فكانت بنغازي حاضرة في ذاكرة الناس، يستعيدون ذكرياتها في روايتي التي كانت الملحمة الأهم في حياة المدينة وذاكرتها الشعبية خلال تلك الحقبة المهمّة في ستينيات القرن الماضي.

في تجربتك الأدبية تفصل في الكتابة بين القصة والحكاية، ولك مغامرات مع التجريب في القصة والرواية، هل تحدثنا لك أن عن التجربة والمكان..؟

– تماثلت الكتابة عن المدينة القديمة في الكثير من الأعمال العربية والعالمية، وقد كانت الرواية هي الفن الأبرز الذي استوعب كل تفاصيل المدينة وشخوصها، أما القصة القصيرة فكانت دائماً اللحظة أو الجزء الأصغر الذي يختزل تلك الرواية في شخوصها في تفاصيلها. فلغة السرد في القصة القصيرة هي الأداة المكوِّنة لتشكيل النص. فالعبارة ودلالاتها صارت متناً للنص ورؤيته، بل صارت اللغة في بصرياتها الموحية، في التجريبية، هي شكل النص ومضمونه.
في فن الحكاية التي أعتبرها الأم الشرعية للرواية، كانت اللغة أيضاً متناً للنص ورؤيته، لكنها، أي اللغة، لن تكون أبداً شكلاً لنص الحكاية في مشهديتها المكانية والزمنية، وإن بدا ذلك مهماً في بعض النصوص غير الواقعية.
إن التجريبية التي سادت في القصة القصيرة خلال الثلاثة عقود الماضية وكانت تبحث -برؤيتها النقدية المنطقية- في إشكالية التخلص من القوانين الوضعية التي صاغها الكلاسيكيون قبل منتصف القرن الماضي، أدت إلى شكل جديد من الكتابة، جمع بين جماليات السرد في القصة الجديدة وقصيدة النثر، وكانت اللغة، والاستخدامات الذكية لها، هي القاسم المشترك الذي استأثر باهتمام هذا الجيل من المبدعين جعلهم في الصيرورة يبحثون في جماليات اللغة والنحت في عباراتها ومفرداتها.
في تجربتي مع الحكاية التي بدأتها منذ مطلع السبعينات، حاولت أن تكون لغتي قريبة من الناس، لغة حكي تتشكل مع النص ولا تهمل جماليات السرد. تأخذ من المكان صفاته وشخوصه وتلاوينه، ومن الزمن تاريخه وأحداثه الاستثنائية. ولقد كان المشهد الستيني في بنغازي غاية في الفلكلورية، حيث كانت المدينة أشبه ببيت واحد قديم تسكنه كل العائلات بعفوية تجسِّد تلك القيمة الاجتماعية في العلاقات وتجانسها بين أبناء المدينة التي بقدر ما كانت تتسع وتتجه إلى الحداثة، بقدر ما كانت تحتفظ بتلك القيمة الجمالية. كانت تلك الظروف أيضاً قاسماً مشتركاً بين سكان المدينة القديمة، حيث كان سكان الحي الواحد- سيدي خريبيش مثلاً- يتقاسمون خبز الفرن العتيق ويتقاسمون الماء من الوارد، وفي المساء يتقاسمون الكيروسين من الفحّام، يضيئون مصابيح الشوق إلى الحكايات والقراقوز، ويصنع الأطفال ألعابهم الموسمية، يعانقون متعة الأيام الحلوة بالرغم من الفقر والعوز.
أنتجتُ في مطلع السبعينات عدداً من الحكايات أصدرتها بعد ذلك في كتاب أسميته «علاقة صغيرة» وخلال الثمانينات والتسعينات وأثناء إقاماتي لفترات طويلة بين طرابلس واليونان وقبرص، كانت بعض القصص التي نشرت ضمن مجموعات (الأفواه) و(أصابع في النار) في طرابلس، و(ظلال نائية) في بيروت، تدور في ذلك الفلك الحكائي الشعبي. وقد أدركت في تلك الفترات أنه كان بإمكاني فعلاً كتابة رواية طويلة عن بنغازي القديمة، بل كتابة روايات، لو توفر لي بعض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والنفسي أيضاً، إذ أن كتابة وجدانية طويلة من هذا النوع تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوقت، ومن التأمل والاستذكار، لكن النتيجة التي خرجتُ بها هي أنني لا أستطيع كتابة الرواية في مكان الرواية، فكان المكان الذي اختفى عن الوجود تقريباً، وصار مجرد أطلال من حجر وخشب وصفيح، ينأى في الزمان مع البديل الصناعي لمدينة أخرى نشأت في فراغ الأرض، ولم تبق من تلك الذاكرة المعنية بتفاصيل المكان سوى وجوه غابت في الزحام الكبير حتى تلاشت. فحملتُ الحنين معي في أسفاري، وكنت في حلي وترحالي أتأمل تلك المشاهد القديمة كلما تذكرت بنغازي وكلما شدني الحنين إليها. وعندما عزمتُ على طباعة مجموعة حكايات (علاقة صغيرة) بعد نفاد طبعتها الأولى، أردت أن أكتب تقديماً صغيراً أشير فيه إلى فترة كتابة هذه الحكايات وفترة حياة هذه الحكايات في الستينات، وكان أن شرعت في جمع تلك الحكايات من جديد مضيفاً إليها ما لم ينشر سابقاً وبعضها كان قد أذيع في إحدى دورات برامج شهر رمضان في بنغازي مطلع الثمانينات، وفي التقديم الذي حاولت فيه عرض مشهد صغير من علاقتي بالمكان، وجدت نفسي أسترسل في كتابة سيرة حياة عن تلك الفترة بكل تفاصيلها ربما، حتى أن ما بين يدي قد تحول إلى سيرة ذاتية للمدينة وللكاتب، وصار التقديم في حجم رواية كانت تأخذ مداها من التعبير وسرد التفاصيل.. ولا تنتهي، لكني قطعت على الاستمرار في التداعي بكل ما أحاقه من مشاعر الفقد والألم، وتوقفتُ عند زمن معين مكتفياً بهذا السرد الملمحي وبضرورة العودة إلى المكان لمرة واحدة بعد أربعين عاماً، وكانت تلك المرة بمفصلها التاريخي المهم في حياتي وحياة المدينة، هي من كشفت عن شكل ذلك الحنين الغامض إلى بنغازي، وكانت هي المرة الأولى التي اختزل فيها بلغة وجدانية كل ما يُمكن سرده في رواية لا تنتهي، وبنغازي بهذا المعنى لا تكفيها رواية واحدة، فهي رواية لم تكتمل ولن تكتمل، وإن غابت بعض فصولها عن الوجود.
لذلك أحببت في تجربتي في (عودة الولد الصغير) أن أعود بجيلي إلى تلك الفترة من الحياة في بنغازي، وأن لا أخرج عن تيمة الحكاية تمهيداً لمشاهد أخرى في حكايات صغيرة أخرى كان يجب أن تكون في تفاصيلها الصغيرة وبنفس الأثر الذي تركته مجموعة (علاقة صغيرة). وهكذا كانت سيرة المكان من سيرة الكاتب الذاتية في محاولة لتأكيد واقعية المكان بكل ما فيه من تناقضات وظلاميات وفرانجيات جمعتنا معاً ذات زمن في مكان كان يشبهنا تماماً وكنا جزءاً منه يتشكل فينا ونتشكل فيه.. وتلك كانت بنغازي في ذاكرتي التي لو كان لها الوقت الكافي من التذكر لكنتُ كتبت عشرات الروايات عن مدينة كانت تجمع من التفاصيل والأحداث ما يجعلها في العمل اللحمي من أروع مدن الشمال الأفريقي بأسره، فبنغازي التاريخ الكائنة في المكان، تستحق منا أن نغمرها بفيض حب لا يموت، ولعل هذا الحب الآسر لبنغازي كان وراء هذا العطاء المتواضع لبنغازي أم العطَّائين الأوفياء من أدبائها ومثقفيها، ولعله أيضاً سيكون البداية لمشروعات روائية قادمة.

أعمالك السردية وكذلك مقالاتك هي بمثابة نبش في سرادق السياسة العربية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية, بمعنى أن تفاصيلك واقعية. لماذا كل هذا التركيز؟

– لعلي في تجربتي مع المقالة السياسية كنتُ أكتب برؤية المثقَّف الأديب، استخدم مخزوني اللغوي في محاولة لبعث الحياة في المقالة العربية التي داهمتها لغة السياسة الفجَّة. في هذه المقالات المتنوِّعة بين الثقافي والسياسي، ثمة عبور للضفّة الأخرى من التعبير «السيميائي» الذي يمثل القدرة على خلق الصورة المعبِّرة عن المعنى، وهذه رؤية جمعتها حواراتنا المشترَكة في السياسة والثقافة والإبداع، تلك الرؤية التي أصبحت اليوم أسلوباً مميَّزاً في الكتابة الصحفية العربية جمعت إليه كتابات بعض الأدباء العرب. فكانت اللغة- الصورة، مرآة التفكير، هي الأكثر حضوراً في نفس المتلقي، وتلك لم تكن غاية المطبوعة السياسية، بل كانت بالنسبة لنا، الرهان الثقافي على هزيمة تلك اللغة الأيديولوجية السائدة في علاقة الصحافة بالناس.
لقد كانت المحاولة جريئة، وهي إذن التجربة التي تزخر بها اليوم الكثير من افتتاحيات الصُحف والمجلات ومقالات كُتَّاب الصفحات الأخيرة، فكانت هي الكتابة الأخرى التي تنصهر بواقعها الإنساني، لتبقى في الضمير حالة باقية، استثنائية، داخلة في تفاصيل اللغة، وليست خارجة عنها.
الأدب فكر وفلسفة قبل أن يكون تعبيراً ومزاجاً جمالياً. والتعبير والمزاج الجمالي هما فكر أيضاً، وفلسفة للجمال. الأدب هو فن صياغة الجمال في عالم يكتنفه القبح، وذائقة التلقي هنا هي ركيزة التماهي في الحياة، وهي أيضاً مُنتجة الفكر في العلاقات الاجتماعية.. فمادة الكلام هي القيمة المؤثرة في العلاقات الإنسانية، وحياة الإنسان ناقصة «عقل» ما لم تكن نابعة من هذا الهيلول الجمالي الذي تصنعه الذات وتلتقي به، فكراً وخيالاً ورؤى وممارسة وجودية.
لذلك فالسياسة لا تصنعها الذات، بل تصنعها المصالح في الدنيا.. والمشتغلون بالسياسة هُم مثل المشتغلين بالتجارة، دائماً يراهنون على رأس المال. والإنسان، هذه الذات الشاعرة، لن يكون بأي حال سلعة مادية في سوق الانتخابات كما في سوق المزادات.. الإنسان قيمة بشرية عاقلة، بذاتها تصنع سبيل حياتها في الوجود.
من هنا حاولت أن أكون قريباً من الناس، وواقعياً في أتون علاقات ملتبسة كرّست لمفهوم العبودية التي صنعتها السياسة، وأن أظفر بقيمة الكتابة في مواجهة هذه العبودية.. فكان رصيدي من مواد السرد والمقالات نابعاً من الذات دون سواها، وهي الحقيقة الباقية التي تحفظ قيمة الإنسان ووجوده.
الكتابة فعل وجود، وليست فعلاً في الوجود. الكتابة هي دورة الحياة الكاملة في الوجود. لقد تعرف الإنسان على الوجود لأول مرة فحاول ملامسة الأشياء من حوله ولم يندم. تلك الأشياء التي لامسها قادته إلى المعرفة بأسرارها. فهو لم يكتشف النار صدفة، ولم يكتشف اللذة صدفة. النار كانت موجودة أصلاً في خياله فبحث عنها واكتشفها. المرأة التي بجواره لم تكن كائناً غريباً، ولم تكن في خياله غزالاً ليفترسها، وهي لم تهرب بأنوثتها منه، وعندما تعرف إليها لأول مرة حول النار، أدرك أهمية وجودها بقربه فخاف عليها واحتضنها يحميها من الفرائس.
لقد اكتشف الإنسان الأول النار وعرف أنها مقدسة لأنها غيَّرت شكل حياته، كما أنه اكتشف اللذة وعرف أن المرأة مقدسة أيضاً لأنها غيَّرت شكل حياته. فالنار والمرأة قبل أي شيء آخر كانا مقدسين من الإنسان الأول، فمن خلالهما عَرَفَ الله، ومن خلالهما تأسست الفطرة لديه والمعرفة باكتشاف الوجود.
تلك المعرفة بالوجود كانت من فعل الإنسان، ولذا فالكتابة هي تدوين ما يكتشفه العقل ويدركه الخيال. في الفكر وفي النقد وفي فلسفة الجمال والأدب، هي صانعة قيمة هذا الاكتشاف بعوالم الوجود منذ بدء الخليقة.
لقد اختلفنا في تعريف الكتابة والحاجة إليها والحاجة منها وفيها، لكننا سنظل نبحث في فلسفة هذا الوجود عن مكاننا فيه وعن قدرتنا على الاصطياد في الخيال. فنحن أبناء تلك الخليقة التي اكتشفت النار، وأبناء تلك المرأة التي ذوّقتنا اللذة، نعرف الله ونعرف أن الكون فسيح في الخيال.
هذا هو سر تدوين الذات في الحياة البشرية. بعضنا يجد نفسه فيها، وبعضنا يضيع، وبعضنا لا ينفع.. وتظل الكتابة نحت في الحياة، يقرأه العابرون، يتأملونه وينصرفون، وهو باق في ذاكرة الحياة والوجود.
الكتابة هي الأنا الكاتبة، بكل لحظاتها المتأملة في الحياة، وهي مصدر من مصادر الحياة، مثل الماء والهواء. والإنسان الذي لا يتأمل لا يستطيع أن يقرأ. والقراءة توحُّد مع النص، فيه تقرأ الكاتب وتصل معه إلى تلك الأنا التي بعثها فيك.

رواية «الطاحونة» تحدثت كثيراً حول طحن السلطة لطبقة البسطاء والمهمَّشين بقسوة تمس حياتهم البسيطة. هل كانت تمثل القرية الليبية فقط ؟..كذلك تعاملت في هذه الرواية مع الرمز وذكرت أن الطاحونة تكاد تعلو مئذنة المسجد, كدلالة رمزية على أهميتها؟

– قيل الكثير في رواية الطاحونة منذ صدورها عام 1985.. وقد جسّدت ملحمة «العطش» في البلاد العربية.. العطش للحرية من العبودية وسلطة الآخر في الحياة وفي الدين، فكانت «الطاحونة» رمز حياة على بئر معرفة نضبت مياهه، فتقع القرية «المكان» على ساحل بحر تتلاطم أمواجه التي تصل مسامع الجميع.. فالموج الهادر في العالم كان معرفة بضرورة المد في الحياة، والوقوف في وجه سلطة المختار، ودهاء اليهودي الشوباش، والمعرفة المبكِّرة بأن شيخ الجامع لم يكن رجل دين متزمّت وإنما داعياً إلى الصلاة والصلاح، فكان كاتم أسرار الناس في القرية وهو من أكثر العارفين بحقيقة «خليل الملاح» صديق «الورّاد».. فيما العجوز الورّاد ضحية الاستغلال والعبودية الذي هد حيله جرّ العربة عوضاً عن «البغل» الذي خارت قواه في جلب الماء للقرية..
لقد كانت تلك القرية الرابضة بين الصحراء والبحر، هي العالم الذي يجمع كل المتناقضات في الحياة، الإنسان ككائن مُعدم، والمعرفة بأهمية وجوده ككائن حي.. والخلاص من العبودية في ظل نواميس الوجود، والحق الإلهي الذي يدعو له شيخ الجامع.. والمكر والخبث في شخصية اليهودي الشوباش، والسقوط الأخلاقي في شخصية خليل الملاح.. والعشق الذي كان يجمع الحبيبين عند نبع الطاحونة في ذكريات القرية، والسلام في أجنحة الحمام بين النخيل السامق.. فكان إن انتصرت حقيقة المكان على السُّلطة الزائفة بفرماناتها العثُمانية، وسقط الادعاء بالقوة العميلة القاهرة المتمثلة في المختار، وانتصر الخير على الشر في رمزية المطر الذي غمر القرية بعد طول جفاف، وأن يجتمع أهل القرية تحت المصابيح التي أضاءت المكان وأضاءت الذاكرة.
.. أنا وغيري لا نستطيع تحميل النص الروائي أكثر ممّا يحتمل من تفسير وتأويل، فالتلقي الجميل هو في مدى قدرة المخيّلة على التفاعل مع النص في حينه، قراءةً جميلة نابعة من ذائقة جمالية.. وأعتقد أن العمل «الجميل» هو الذي يمتلك خصائص حياته في اللغة والسرد، لتبقى حالة التأويل عند القارئ هي الإضافة الأهم. لقد كتب النقاد عن «الطاحونة» باعتبارها سيمفونية عطش على أرض يباب، ومن هنا كانت «الحرية» هي العطش الأزلي في حياة الإنسان في أزمنة العبودية، وإن كان رمزها هنا «طاحونة هواء» تعلو مئذنة جامع عتيق في قرية نائية، كادت تسقط تحت طائلة «فرمانات» عاصمة «الإمبراطورية» العُثمانية.

كيف تصنف الوضع الليبي الحالي سياسيا وثقافيا واجتماعيا؟

– بعد أحداث «فبراير» 2011 التي أطاحت بنظام العقيد «لقذافي» وأطاحت بالدولة الليبية معاً، تمر ليبيا بفترة حرجة جداً نتيجة الانفلات الأمني وانتشار السلاح بيد جماعات سيطرت على مفاصل الدولة وشلّت حركتها، ووقفت عائقا بل ومانعاً في طريق بناء الدولة المدنية.. هذه الفوضى العارمة التي استمرّت خمسة أعوام كانت كفيلة ببناء الدولة وتحقيق ازدهار تنموي، اقتصادي وثقافي واجتماعي.. لكن حال الحرب الطويلة والمواجهات المسلحة، أطاحت بالكثير من القيم الأخلاقية التي أأمل أن تكون عارضة وناتجة عن حالة طارئة، فالمجتمع الليبي مجتمع أصيل ومتماسك قبلياً ولا وجود لحرب أهلية وإن حاولت دوائر خارجية إشعال الفتنة بين القبائل الأصيلة في شرق البلاد وغربها وجنوبها.
.. يبقى فقط كم الخسارة في أرواح الشهداء الذين سقطوا في مواجهة الإرهاب، أما عداه فيمكن إصلاحه مع الوقت وإن كنتُ على يقين من أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل.
.. اللاقت في الحالة الليبية أن النُّخبة الحقيقية من المثقفين الليبيين نأوا بأنفسهم عن دخول المعمعة السياسية الرائجة التي تشهدها البلاد منذ أحداث فبراير، فمن تصدّر المشهد السياسي كان مدّعياً آثماً سرعان ما سقطت أوراقه أمام الناس، منتخبون ومسؤولون ومحللون سياسيون جلبوا الكدر لليبيين، مما زاد من حالة الامتعاض بكل الكيانات السياسية.. وهذا أمر في غاية الأهمية، ويمكنه إحداث تغيير جوهري في أول انتخابات قادمة. لقد تأذى الشعب كثيراً بمن أولاهم أمر تدبير شؤونة في انتخابات قبلية ليست نزيهة على الإطلاق، والمنتخبون أساءوا لناخبيهم قبل أن يسيئوا لمجتمعهم ولوطنهم.
.. أمام هذه التحدّيات السياسية، وانفلات الأمن في البلاد وعدم الاستقرار الإداري، إلاّ أن الفن والأدب كانا حاضريْنً في ضميرهما الشعبي.. فلم يخونا الشعب في رياء السلطة ولا في تلميع أجندة حزبية، دينية أو سياسية.. وعلى الرغم من إهمال الدولة في دعم الحركة الثقافية والفنية، على مستوى المسرح والفنون التشكيلية والإنتاج التلفزيوني والإبداع الأدبي ونشر الكِتاب، إلاّ أن بواعث الثقافة تحضر بقوة متى سنحت الفرصة.

ما هو رهانك الثقافي تجاه هذه الأوضاع؟

– أنا أراهن دائماً على «العقل».. فما جرى في ليبيا منذ فبراير 2011 كان محض جنون، وما وصلت إليه البلاد في ستة أعوام، كان نتاج عبث حقيقي سلخ كل القيم في المجتمع وأضاق أفق الأمل.. لقد عانى شعبي كثيراً من ويلات الحروب منذ أزمنة غابرة، وكاد أن يستريح وينعم بخيراته التي وهبها الله له، من نفط وزراعة وثروات حيوانية وبحرية، ومن معالم سياحية تاريخية وتضاريس وجبال وأنهار.. لكن يبدو أننا شعب «محسود» على نعمته في الأرض، وهو يتحمّل الجزء الكبير من المسؤولية التاريخية في المستقبل، لأنه يسئ الاختيار.
.. من الأهمية بمكان أن يكون الشعب قد استفاد من الدرس جيداً، وأن يراهن على العقل في تقرير مصيره، ويجب أن يبدأ بتقريب الكفاءات من العقول النيِّرة التي كانت في منأى عن مناطق الصراع والنفوذ، وكانت مع الشعب تقتات معه كدر الأيام دون امتيازات، وقد صار واضحاً حجم الجريمة التي اقترفتها السلطة حين أخذت الصوت من الشعب، ثم كتمت أنفاس الشعب ليموت، فكانت النتيجة مؤسفة ومؤلمة، حصدت في طريقها الأرواح قبل أن تذبح الديمقراطية.
.. بلا شك، سيكون للثقافة دور كبير في تنوير العقل الجمعي وتوعية الناس بأمر مستقبلهم.. إذ لابد أن تنهض الدولة الوطنية التي ناضل من أجلها أجدادنا عبر التاريخ، من مقارعتهم للإمبراطورية العثمانية، إلى حربهم لطويلة ضد الفاشية الإيطالية.. آن للشعب أن يستفيق بيقظة العقل وأن يستمع لمثقّفيه الوطنيين، وأن يدافع عن المستقبل بتأسيس الدولة الوطنية، دولة المؤسسات والقانون.. وما عدا ذلك فالخسارة حتمية ولن ينتصر أحد في معركة.

المثقفين لديهم حلم أقرب إلى الإيمان هو أن المثقفون هم من يقودون التغيير في المجتمع. ما هي وجهة نظرك بهذه الفكرة؟

– الثقافة منظومة متكاملة. لا يستطيع فردٌ مهما كان تأثيره أن يقيم علاقة استثناء مع الناس، علاقة نبوئية متكاملة تجعل من الناس مريدين له مدى الحياة. كما لم تفعل السياسة التي جعلت من الحُكَّام آلهة تحكم بلا معروف، وتسقط في التاريخ كما يسقط اللصوص والمجرمون. لا أحد يستطيع فعل شيء ترضى عنه كل الناس. النبوءة انتهت، وكل هؤلاء العباقرة الذين تعرفهم في التاريخ الحديث، مجرَّد نتاج غير طبيعي لأوضاع غير طبيعية قادت الناس إلى الاعتقاد بامتيازاتهم في السلطة. إن التغيير الحقيقي في الناس لا بدَّ أن يبدأ بالثقافة، ثقافة لا تقودها دولة أو يقودها شخص في دولة. ثقافة اتجاه عام لكل الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني، في التعليم وفي القوى العاملة وفي مختلف وسائل الإعلام. علينا أن نفكِّر بعقل اجتماعي واحد، كيف يمكننا الخروج من مأزقنا الآسر في التاريخ وننهض بثقافة جماهيرية تقود ولا تُقاد.

هناك أزمة تواصل بين السلطة والمثقف, هل هناك وسيلة لحل أزمة الثقة بين الطرفين؟

– لا وسيلة لحل أزمة الثقة بين السلطة والمثقّف إلاّ بتولّي المثقف للسلطة، وهناك نخشى على المثقّف أن يتحوّل إلى «سلطوي».. فالسُّلطة دائماً آثمة وتتسيَّد بأدواتها على المجتمع دفاعاً على مصالحها وبقائها، فيما الثقافة تقوم على المعرفة بجوهر النظام الديمقراطي وشكل إدارة الحُكم على قاعدة التعايش السلمي والعدالة والمواطنة.. هذه هي المبادئ السامية التي ينادي بها المثقّف ويقارع السُّلطة في سبيلها.. حتى الأحزاب على اختلاف شعاراتها لم تحقِّق هذه الغاية، لأنها دائماً تسعى للسُّلطة.. المثقّف، خارج السُّلطة، هو الضمان الفكري الوحيد لمستقبل الأمة.. الفكر هو من ينير عقل الناس، وليست الشعارات لحُكم الناس..
من هنا لا سبيل لحل أزمة الثقة دون أن يكون للعقل الرشيد مكان في السُّلطة، وعلى أقل تقدير يكون المثقّف مستشارها. حينها فقط يمكن لهذه العلاقة أن تتّجه نحو مستقبل ترضاه الناس.. وحينها فقط يكون الناس هم البنيان المرصوص الذي تعتمد عليه السُّلطة في إدارة البلاد، وإذا اهتزَّت هذه الثقة بين الشعب والنظام، فإن من يسقط دائماً هو النظام وليس الشعب.. الشعب ينجو بالمعرفة نحو الأفضل، في اختيار شكل النظام، وفي اختيار من يمثِّلهم في هذا النظام. لكن لا أخفيك أن السُّلطة الماكرة، لن تتنازل لمثقَّف واحد قد يفقدها القدرة على حُكم الناس بلا معروف. ولهذا كانت السُّلطة دائماً مقيتة في حياة المثقَّف، ولهذا أيضاً كانت السُّلطة تقصي المثقَّف وتبعده عن شؤونها.

الديمقراطية شعار الثورات العربية . هل هذه الشعوب مهيأة لممارستها؟ ولماذا لم تنجح حتى الآن؟

– ليست الثورات العربية فقط، بل حتى الشيطان يمكنه رفع شعار الديمقراطية. الديمقراطية تظل دائماً هي حُلم الإنسان.. وهذا الحُلم دائماً ما يتحطّم أمام الحُكم. الشعوب تعطي أصواتها فقط في الانتخابات، ولا تأخذ شيئاً سوى الندم.. لاحظ معي الدعايات الانتخابية، ليس عندنا فقط في البلاد العربية، بل العالم، وانظر كيف يمسرحون المشهد السياسي بالتهريج والبهرجة، فتعلوا أصوات الناخبين كأنهم في سيرك أو مهرجان كرنفالي لا تنقصه الشمبانيا.. عن أي ديمقراطية نتحدّث، والأمم الديمقراطية في العالم تقتلنا في سوريا والعراق وليبيا.
.. لقد كان أسوأ ما في الأمر تسمية «المؤامرة» على بلادنا بـ«الثورة».. فقاد شعار الديمقراطية إلى الهلاك الديمقراطي، فأصبح الحُكم لمليشيات السلاح، تخطف وتغتصب وتقتل وتنهب المال. عن أي ديمقراطية نتحدّث وقد سبق «الناتو» حناجر الناس في ضرب حصون الدولة قبل النظام.. لقد سوّق الغرب لديمقراطيتهم عندنا ليحكموننا بديمقراطيتنا المزيّفة.. وعن أي ثورات عربية تتحدّث والغرب يقبض ثمن ضربات الناتو.. وعن أي بلادٍ تتحدّث والأمية الثقافية ضاربة في العقول… إنها بلاد الأحلام الكسيحة التي يتنعّم بخيراتها المعتوهين، لصوص السُّلطة والمال، منهم من يرفع رايته السوداء ليحكم باسم الدين، ومنهم من يرفع رايته البيضاء ليحكم باسم الديمقراطية.

السلطة تشتكي من مساحة الحرية التي يمارسها المثقف العربي, والمثقف يشتكي ضيق الأفق لدى السلطة. أين تكمن أزمة المثقف العربي في مسألة الحرية؟

– المثقّف في تقديري هو المعارض السلمي الوحيد للسُّلطة، فهو المستقل بلا آيديولوجيا يقودها حزب، وحزب يقود أيديولوجيا.. المثقّف ليس حصان تضعه أمثلة السياسيين، تارة أمام العربة وتارة خلف العربة.. مثل هذا المثال ينفع لتابوهات السلطة والسياسيين الذين يقتاتون على منافعهم في السلطة. المثقف لا يضرب لك بأمثال تصادر الحق في مسألة الحرية والمواطنة والتعايش الجمعي، وهي رهانات الديمقراطية الحقيقية.. لا توجد عصا وجزرة عند المثقّف للتعامل مع الأنظمة أو المجتمعات.. المثقّف هو حارس أحلام الناس أينما كانوا في ظلام الأنظمة والمجتمعات، وهو صانع الأمل والجمال بخياله وفكره ورؤاه.. هو المُبدع السارد الجميل القادر على صياغة الوجع واستبراق الأمل في النفس البشرية.. هو قلب الإنسان في الوطن وكتابه في السفر.
.. حقيقة لا توجد أزمة عند المثقّف العربي مع الحرية.. لقد أقام المثقّف جيوشاً من المعرفية لمقارعة الظلم والاستعباد، لمناصرة المعوّزين والمظلومين في الحياة.. فليس لدى المثقّف سلاحٌ يرفعه في وجه السُّلطة سوى الفكر، وهو يشكِّل أجمل معارضة في تاريخ البشرية، وهو الابن الشرعي للنبوءة والرسالات السماوية التي خاطبت العقل وجادلت الجهل بالمعرفة الخلاّقة.
.. قد تشتكي السُّلطة من مساحة الحرية التي يمارسها المثقَّف العربي، وقد يشتكي المثقَّف العربي من ضيق الأفق لدى السُّلطة، لأن كليهما صنوان في المعادلة الموضوعية لأزمة الديمقراطية.. عبر التاريخ كان الإنسان دائماً ضحية السُّلطة، فهي وإن فتحت المخابز، فتحت أيضاً السجون.. ولم يذكر التاريخ يوماً أن مثقّفاً سرق رغيفاً من فم جائع وأودعه السجن.

الأدب العربي مشبع بكشف التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية ورغم ذلك المجتمع لا يزال قطيعياً ويملى عليه , لماذا؟ هل هو بسبب عدم القراءة أم الخوف من السلطات المذكورة أم هناك أسباب أخرى؟

– القراءة هي المناعة الطبيعية الأهم، المُكتسبة من الأدب العربي. والسُّلطة تعرف أن التشجيع على القراءة، ودعم التعلُّم، سوف يجعلها جاهلة أمام شعب نخبوي مُثقَّف ومتعلِّم. لذلك فالمدرسة في معظم البلاد العربية تُعلِّم القراءة والكتابة لمحو أميّة المواطن كي يتهجأ ويقرأ قوانين البلاد وإن لم يفهم شيئاً.. هذه الممارسة السطحية تشي بالأميّة الثقافية، ليكون المواطن تابعاً للسُّلطة وليس متبوعاً، وإن كان هذا المواطن رقماً صالحاً في الانتخابات.
.. من هنا فالمعرفة هي الخطر الحقيقي الذي يتهدّد السُّلطة، وهي النعمة الوحيدة التي يجب أن يتحصّن بها المواطن لاكتساب المناعة الطبيعية ضد استخفافات السُّلطة بمصيره. حتى عامل الخوف الذي تعيش أوزاره بعض المجتمعات كان ناتجاً عن انحسار وسائل المعرفة. المجتمعات المتخلِّفة تعيش تحت ربقة الطغاة ولا تستطيع التغيير لأنها تجهل وسيلة المواجهة، القهر فقط هو الذي يجعل الإنسان ينتفض ضد قمع السُّلطة لينجو من الموت قاتلاً أو مقتولاً، وهذه غريزة قهرية لا تقدير لنتائجها، وليست معرفة بحتمية الفعل العاقل.

هل يجب أن يركن الإنسان العربي في زاوية (الإيمان بأن أنظمته راضخة لأوامر القوى الغربية ولا مجال للإصلاح) بدليل استمرارية النزيف الدموي الرخيص بين الشعوب؟

– تعرف أن السياسة على مستوى العالم هي لعبة رجال أقوياء سادوا في التاريخ. رجال حرب وانقلابيون وحزبيون. رجال سلطة يحكمون باسم الديمقراطية وشعاراتها. رجال محتالون سرقوا حقوق الشعب بشعارات حزبية على ورق وقماش. رجال صنعوا دستور البلاد لحُكم البلاد، فكان صوت الشعب اليائس لنيل الحرية دعامة جوهرية لاستبداد السلطة في البلاد، حتى صارت معضلة الديمقراطية مشروعاً داعماً باستمرار لأنظمة الاستبداد. وفي خلال محنة الديمقراطية وخطاباتها السياسية الفجَّة في التاريخ العربي الحديث، خسرت الثقافة العربية أهم عوامل بناء الشخصية الوطنية صانعة سنوات النضال والمقاومة ضد الاحتلال. فالحرية التي نالها الشعب عن جدارة في خلال معاركه الثقافية ومقاومته الوطنية للاستعمار، سرعان ما خسرها مع قيام النظام السياسي، كما خسر معها صوته الذي كان المشعل المتّقد لتلك الحرية التي أضاءت العقل العربي في سنوات النضال الوطني.
أمام هذا الزحف المخيف لسطوة السياسي، لا بدَّ من تفعيل دور الثقافة لمواجهة التحدِّيات الراهنة. فالديمقراطية هي معضلة ثقافية بالدرجة الأولى، امتهنها السياسي للوصول إلى السلطة، وخسرها الشعب في الثقافة. علينا أن نستعيد المعادلة الصحيحة في الحياة، لينقلب النظام السياسي على أعقابه في التاريخ. علينا أن نبدأ من حيث نريد نحن بثقافتنا العربية والإسلامية، وليس من حيث يريد الآخرون بثقافاتهم الاستعلائية والعنصرية، الإعلامية والثقافية والاقتصادية، وبمشروعات الهيمنة السياسية التي تتأسس اليوم في المنطقة على مساوئ النظام السياسي العربي وضعفه وعجزه عن الارتباط بحركة الجماهير.

مقالات ذات علاقة

أحمد البخاري…موقعي لن يكون محصورًا على إنتاجي فقط

المشرف العام

فاطمة سالم الحاجي: حُلم ليبيا يبتعد أكثر فأكثر

المشرف العام

الروائي سالم الهنداوي: ليبيا تحتاج هدنة يسكت فيها صوت الرصاص

المشرف العام

اترك تعليق