أساس الأزمة التي نمر بها الآن يتمثل في حالة من الفراغ أو التشوه القيمي التي يمر بها مجتمعنا، والمتجسدة في المنظومة القيمية التي يبتكرها التدافع الاجتماعي من أجل إدارة زحامه ومصالحه المتضاربة، وساهمت الأديان جلها، والعرف الاجتماعي، والنصوص الحديثة للحقوق، والمواثيق والدساتير، في صياغتها والاتفاق عليها من أجل تحاشي انتهاك الإنسانية، وتحقيق أكبر قدر من السلم والعدالة الاجتماعيين.
انحرف الخطاب الديني عن غاياته الإصلاحية والأخلاقية عبر تأويلات متراكمة جعلت منه متنفسا لكل العقد النفسية والنزوعات العدوانية، والأديان في جوهرها جاءت من أجل هدف أساسي وهو توحيد الخالق في الأعلى واحترام الإنسان في الأرض، بينما تشوه العرف الاجتماعي كأحد مصادر هذه القيم التي صاغتها خبرات متتالية كانت تسعى لتوطيد الحقوق في غياب القوانين والمؤسسات التي ترعى هذه الحقوق. ولأننا تركنا هذا الإرث الأخلاقي الشعبي الذي مثلته الأخلاق الدينية والاتفاق الجماعي فيما يسمى بالعرف الاجتماعي، ولم نستطع الوصول إلى النتاج الحضاري فيما يخص مواثيق حقوق الإنسان الملزمة دستوريا وقانونيا، وجدنا أنفسنا في حالة فراغ قيمي شامل جعلنا في حالة تيه جماعي يشكل جوهر الأزمة التي نعيشها الآن، والتي ترتبت عنها هذه الصراعات المجانية الخارجة عن كل منطق والتي لا يمكن وصفها سوى بالعبث، بل وجعلتنا نعيش واقعا من الجريمة اليومية التي لا يعقبها عقاب للجاني ولا إرجاع حق مجنٍ عليه، ولا يعقبها حتى حالة من تأنيب الضمير.
والمجتمع الذي يعيش مثل هذا الفراغ، لا أستطيع أن أقول عنه مجتمعاً تحكمه قوانين الغابة، لأن حتى الغابة لها قوانينها، فالوحوش على الأقل لا تفترس أبناء جنسها ولا تقتل إلا حين تكون جائعة، بينما القتل لدينا بدأ يشكل متعة في حد ذاته، ولا مبررات له، إذا افترضنا أن للقتل مبررا.
يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته عن مقتل الطفل، محمد الدره، في حضن أبيه: “محمـــد/ يرى موته قادماً لا محالة/ لكنه/ يتذكر فهداً رآه على شاشة التلفزيون/ فهدا قويا يحاصر ظبيا رضيعا/ وحين/ دنا منه شم الحليب/ فلم يفترسه/ كان الحليب يروض وحش الفلاة/ إذن/ سوف أنجو – يقول الصبي – ويبكي/ فإن حياتي هناك مخبأة في خزانة أمي/ سأنجو .. وأشهد”
كان الحليب يروض وحش الفلاة، لكن القتلة الوحوش، لدينا، كانوا يغتالون الآباء في سياراتهم مع أطفالهم، ويضعون المفخخات في الطرق إلى الروضات والمدارس، ويقتلون حتى النساء المكتظة أثداؤهن بالحليب.
في أواخر التسعينيات كتبت مقالة بعنوان (حقوق الإنسان في الثقافة الشعبية)، لأنه في تلك الفترة كان الحديث عن حقوق الإنسان كمصطلح لا يعنينا، ومتهما مسبقا بالاستلاب تجاه الغرب وبالتقليد، وكأن البني آدم لدينا ليس إنسانا، وبالتالي ليس معنيا بهذه الحقوق التي أنتجها التحضر الإنساني عبر مراكمة خبراته وتجاربه، وعبر استلهامه لكل القيم الدينية والاجتماعية التي سعت عبر قرون طويلة لاحترام هذا الكائن الذي أخلفه الله على الأرض.
تمثلت حقوق الإنسان في عرفنا الاجتماعي في احترام حياة الإنسان كموضوع مقدس، وفي احترام حرمة البيوت وعدم انتهاكها، وفي احترام لجوء الإنسان إلى قبيلة أخرى لحمايته، وفي تجريم ما يسمى بـ(النصرة) أو اشتراك أكثر من شخص في الاعتداء على شخص واحد، وفي تجريم التمثيل بالجثة إذا ما وقعت حالة القتل، وفي تجريم الاعتداء على المرأة بالضرب أو الأذى اللفظي، بل ووصلت إلى تجريم قتل الحيوانات الأليفة مثل الحصان والكلب، وغير ذلك كثير من القيم الاجتماعية الوقائية التي قننها العرف عبر مواثيق جماعية (الدريبة) أدارتها البنية القبلية من خلال تسليمها بالغريزة العدوانية لدى بعض البشر، فحاولت أن تهذب صراعاتها وحروبها عبر قوانين عرفية تقلل الضرر بأقل حد ممكن. لذلك كان على الإنسان حتى في حالات العنف أن يتمتع بأخلاق الفرسان، فيواجه خصمه وجها لوجه، ولا يغدر به أو يضربه من الخلف، ولا يعتدي عليه بسلاح وهو أعزل، والأهم من ذلك يجرم بشكل كبير الاعتداء عليه في بيته احتراما للأسرة وحرمة البيوت.
وبالتالي لا يوجد فراغ قيمي أو قانوني حتى في أكثر المجتمعات بدائية، وما يحدث الآن في مجتمعنا يعتبره الرأي العام سلوكا غريبا وشاذا ولم يحدث في تاريخ صراعاتنا الاجتماعية أو السياسية، وحين يكون القضاة ملاحقين ومختبئين في بيوتهم، والمجرمون يتسكعون في الشوارع بكل أبهة ودون خوف، فهذا مؤشر قوي عن ما سبق ذكره من فراغ قيمي مخيف.
طرح دوستويفسكي في روايته الجريمة والعقاب كابوس الإنسان الذي يرتكب جريمته ولا يُعاقب فيقضي عمره بحثا عن العقاب، من أجل أن يحافظ على توازنه النفسي، ليأتي بعده كافكا فيقلب الصورة ويجعل الكابوس أكثر قسوة، إذ يُعاقب الإنسان أولاً فيقضى المعاقب دون جريرة حياته باحثا عن الجريمة التي استحق بموجبها العقاب، وأيضا من أجل توازنه النفسي.
فكلما قُتل إنسان لدينا يبدأ التفكير مباشرة في الجريمة التي ارتكبتها هذه الضحية، بل ويصل الأمر إلى خيالات تحاول أن تخترع له جريمة ليستحق العقاب، من باب أن الآخرين يبحثون عن توازنهم النفسي أو عن وهم يبعدهم عن الخوف من القتل أو العقاب طالما هم أبرياء ولم يرتكبوا جرما. لكن ما يحدث في الواقع أن كل شخص أصبح معرضا للتعذيب أو للسجن أو الخطف أو للقتل حتى وإن كان بريئا. وفي مثل هكذا كابوس تتحول الحياة إلى حالة شاملة من العبث الذي ينمذجه ألبير كامو في روايته (الغريب) حين تُرتكب جريمة قتل رجل مجهول على الشاطئ يبررها القاتل بكون الشمس في تلك اللحظة كانت عامودية.
وكل هذه الأعمال الروائية العظيمة رصدت مجتمعاتها وهي في حالة شاملة من الفراغ القيمي، بمعنى إذا كان العنف قدر الإنسان، والجريمة لابد منها، لا مفر من أن يكون ثمة سبب، والأهم من ذلك لابد من العقاب حتى يحافظ المجتمع على توازنه النفسي.
في هذه المنطقة الحرجة من التيه التي غادرنا فيها منظومتنا القيمية الاجتماعية، ولم نصل إلى تكريس القيم المدنية الحديثة، سندفع الكثير من الثمن، ثمنا لا يدفعه القتلى فقط، ولكن يدفعه أيضاً الناجون من هذه المذبحة عبر اختلال أخلاقي مزمن وتشوه نفسي يصعب علاجه.
وفي خضم هذا العنف، ومع غياب أخلاق الفرسان التي تجعل العنف أقل وطأة، يصبح الموت، قدرنا جميعا، أكثر إيلاماً، ووسط هذه المآتم المنتشرة في كل مكان وكل شارع يصبح الميت ميتةً طبيعية هو المحظوظ، وربما المحسود أيضا، وتصبح لازمة المعزين في مواساتهم لأهله: “الحمدلله أنه مات على فراشه” حتى وإن كان شابا في مقتبل العمر.
إنه كابوس ثقيل، ولا يمكننا أن نصحو منه إلا عبر بعث قيمنا الاجتماعية القريبة التي تراكمت عبر مراحل التأسيس للتعايش والتسامح، في انتظار أن نبني مؤسسات حقوقنا المدنية فوق هذه القاعدة الأخلاقية الاجتماعية العريضة التي كم عوضت غياب الدستور والقانون، وكم حافظت على السلم الاجتماعي، عبر تاريخنا.
_____________________