لم يُولد بعد لكنه كتب مفكرته عن عام 2565.
لم يكُن العقل الباحث عن مأوى يوسف القويري، من في حدة السكين وهو ينحت مفردته، مُحدد مُكثف، جملته مُقتضبة ولكنها جلية جياشة تكتفي بأن تقول القول الفصل، هذا الصارم العقلاني يعيش مبعثرا في الكون هو من الأرض ليس عليها. كائنٌ من الفضاء وهو قابض على المستقبل.
قدماه راسختان على الأرض، وثوقي حد التشكك فيما مضى فالماضي: كان ما سوف يكون، لكن هنا والآن بمُكنة الإنسان أن يجعل المستقبل يبدأ الآن.
شاردٌ عما هو لأنه مشغول فيما يرى فالأحلام مُستطاعة والماهوية ليست شغله، شغله عقل نحلة يُنتج مدينته الفاضلة بالشغل الدؤوب. السماء لا تُمطر إلا ما يريد، فالسماءُ أرض أخرى يمكن ترويضها، كما روض “صحراء سرت” في روايته المُستقبلية “من مفكرة رجل لم يولد” جعل لحوضها بحيرة عذبة تمخرها مراكب برمائية تطير أيضا عند اللزوم، لم يكن يكتب ذلكم في مطلع العقد السادس من القرن العشرين بل عاشهُ فترك لنا مفكرته لما جرى له عام 2565م.
يوسف القويري لم يولد بعد وإن عاش معنا لكن لم نعش معه هو من ولد عام 2565م. وهو يحثُ الخطى في درب التبانة قُبض عليه مُتلبسا بأحلامه بأن ما سيكون كائن فينا، فسُجن عام 1954 في مصر حيث ولد من قبل الديكتاتور عبد الناصر الذي يضيق بالعصافير الطليقة، كما فعل ذلك الديكتاتور القذافي عام 1973م، لما كان عاد من مهجره إلى موطنه حيث لا مواطنة له. هذا المواطن الكوني ضاقت عنه بلاده كما ضاقت به بلاد المهجر، فسكن الغد واتخذ العقل مأوى مساره درب التبانة فما سيكون يكون، كما أن قلبه تيسر لأن اليُسر في اليسار، تعلم ذلك من وبطريقة “سلامة موسى” الذي لم يهادن بالمرة كان المعلم، وكان العلم مشكاة الطريق فالعلم دينه وديدنه.
ديوان النثر المستقبلي منثوره ما شغفه وما استقاه مما يرى، وما يرى قائم أمام عينين نابهتين وعقل يقظ وأيدٍ تشتغل وأرجل ثابتة ونفس تواقة، دأبهُ النثر فالسرد، فالكتابة تلتقط المعتاد والمتوفر والجلي لتجعله نسيجا كما ليس مثله شيء، نابضا وحيويا لأنه عصارة تجعل لكل قارئ قراءة خاصة القارئ الذي لم يُولد بعد.
يوسف القويري يخطو خطوات في الحياة كما يتيسر ولكن بغضب ينظر للخلف متمردا عما يحيط، وفي الكتابة يكتب ما لا يتيسر هو في هذا نسيج وحده كتاباته يسيرة ومتاحة لكنها مقتطفة من ديوان النثر العسير على غير ذي همة وإدراك وتأنٍ. ما كتب قماشة مرسومة من كلمات كأنها ليست الكلمات، بأفكار منيرة لروح وثابة، فنان خطوطه/كلماته المُحددة العقلانية تنبض من قلب محب، هو عاشق ولهان يتعقل جملته ويلظم عباراته ويصيغ أفكاره …
وإنه لو لم يكتب إلا “من مفكرة رجل لم يولد” فهو كتب الكثير، لكن أيضا الكتب العديدة التي نشر ديوان النثر المختزل ما لا زوائد له ولا غموض كأنه السهل الممتنع، أكثر ما كتب قصير التيلة. كلماته معدودة ومحدودة لكنها ثرية وأفكاره جلية، مقاله سرد هو السارد المُكتفي بالإشارة، علاماته مفردة تضيق كلما اتسعت العبارة، يقص القصص ليمتع ويضيء النفس قبل الطريقة.
الضليل لم يضل عن الضوء لكنه مُريد للظلال حيث كلما اشتد ظله اشتد ضوؤه، السراج المُنير من حامل سراجه كما “ديوجين” في وضح النهار ليسرج الظلم.
نثر النهار في مدوناته وسردياته، واختزل بفصاحة وبيان الرقيمة قبل أن تكون، في ركينة كمُؤانسات التوحيدي ارتشف من النثر العربي الكلاسيكي سلافه، وأعاد في نفسه صوغه حتى تبين له الصبح في نثر “قويري” حداثي متفرد لكنه في نسيج النثر المستساغ: نثر الآن وهنا… فإنه الناثر في صيغة السارد الذي في صيغة النثر، فالشعر عنده مجس الغموض وهو جلي متجل.
وإن كانت الحياة استعصت عليه فإن الكتابة مجدافاه المطوعان لسباحة في مواجهة تيارات الحياة العاتية وأمواجها السالبة.
ساح في الدنيا وعاش على حافة الحياة لكنه ككاتب غامر وغاص في غورها، كتب نثره كما مأثور في جمل نابضة وحيوية، جاعلا من المقالة نوعا أدبيا مميزا، من النثر الكتابة الأدبية التي انفرد بها وسجل هدفه، وفي هذا هو “توحيدي” زمانه وفيه أيضا صاغ بيانه، كما “بورخيس” ليس من زمرة أحد ولا همه “النوع” الأدبي فهو غفل عن التصنيف، وكـ “كيليطو” كتب النقد كي يُمتع القارئ بكتابته العقلية الشعرية وبتأمله واستنتاجاته وطريقته إليها.
في كتابه الأول “الكلمات التي تُقاتل” ثمة مفارقة بين اسم الكتاب/ غلافه وبين متنه، فالكلمات التي تقاتل تبعث الحياة والنماء والخصب كما “تموز”، المتن سوح في ملكوت الكلمة التي كانت الفعل الأول: كن، فكان يوسف القويري مُفكرة رجل لم يولد.
_____________
نشر بموقع بوابة الوسط.