من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

آلهة في قبـــو

.

في أبريل، كنّا ثلاثة وثلاثون مقاتلاً، وكانَ الله رفيقنا. وبعدَ عام، وجدتُ نفسي ملقيًا في شوارع المدينة، وقد عمّ السكونُ المكان. حينَ عثر عليّ بعض الأطفال، زغردت النساء وهللوا لعودة الرجال.. نشرت العديد من المواقع خبرًا مفادهُ أنّ أحد الثوّار المفقودون عادَ إلى أهلهِ سالمًا، وهذا ما أعطى العديد من أمهات المفقودين في الحرب أملاً بعودة أبنائهم. طوال الوقت، والكلّ يرحّب بعودتي، كنتُ أقابل مديحهم ودموعهم وكلامهم بابتسامة صغيرة على وجهي تعبّر عن سعادتي أيضًا بعودتي إليهم، ستسألني احدى أمّهات المفقودين أينَ كنتُ طيلة هذهِ الأشهر، “كنت في الجنّة يا حاجة.. وشفت ربي بعيوني” أجبتها.

في مساء يوم عودتي إلى المدينة، تناولتُ وجبة الغذاء في بيت ابن عمي حميد، ثمّ بقينا الوقت كلّه نتحدّث ونضحك وندخّن بشراهة. خرجتُ من بيت حميد عند الغروب، واتجهتُ بالسيارة إلى السجن. هناك، صفعتُ بعض السجناء وصعقت أخرين بأسلاك كهربائة وتأكدتُ بأنّهم قد فقدوا الوعي تمامًا. أكلتُ مبكبكة رفقة حرّاس السجن، من رفاق الجبهة سابقًا ودخنتُ واياهم سجائر محلية وشربنا الشاي الأحمر ومن ثمّ قررتُ الرجوع إلى العاصمة لرؤية أبويّ المقيمن هناك. سألني أحد الرفاق البقاء واياهم حتى الصباح لأنّ العودة إلى العاصمة ليلاً خطيرة جدًا. سخرتُ من هذا الرفيق وذكرتهُ من أكون، وبعد ذلك تحدثنا قليلاً عن الحرب وأيام الحصار. تذكرنا بعض الرفاق الذين أكلتهم قذائف الراجمات وألات الموت. ركبتُ السيارة وحركتُ جهاز تشغيل المسجل. استمعتُ إلى أغنية مرسكاوي لمطرب مات منذ زمن، وتحركتُ ببطء خارج أسوار السجن.

كانت الساعة تقارب الثانية صباحًا. أحسستُ وقتها أنّ الحياة صارت بالفعل مملة. على الكرسي جانبي كلاشنكوف، وفي الدولاب الخلفي للسيارة آر بي جي. في البوابات على طول الطريق المؤدية إلى خارج المدينة، لاقيتُ احترامًا شديدًا من قبل حرّاس البوابات: أتوقفُ عند احدى البوابات، يسألني الحارس عن بطاقتي الشخصية، يقرأ اسمي، فيحدّق في وجهي ويعيد لي البطاقة مرفقة بأبجل التحيات والمدح.

الكل يراني شبحًا ها هنا في هذهِ المدينة. أسطورة. انسان وهمي كأبطال السينما، والأفلام الكرتونية. إحدى الصحف الأجنبية ذكرتني قائلةً أنني بطل حرب، لكنهم نسوا ذكر ما يقوله الناس هنا عنّي. الصحف المحلية تجاهلتني تمامًا. هناكَ العديد من الأبطال والأساطير غيري، وقصتي لم تكن بكمّ كبير من الواقعية حتى تثير وسائل الاعلام. كمّ الخيال فيها جعلَ وسائل الاعلام تتجاهلني تمامًا، وربما لهذا السبب بتّ أسطورة تتناقلها الألسن وتتحاشاها دور الطباعة والصحافة. “قصص الحرب متشابهة.. إلاّ قصتك” قالَ لي أحد المخرجين الوثائقيين ذاتَ يومٍ حينَ كنّا نغمس الخبز في زيت الزيتون. متى كانَ ذلك يا ترى؟ أعتقد أنّ ذاك كانَ في شهر أبريل، أي في ذاتِ الشهر الذي صعدتُ فيهِ إلى الجنة.. وكنتُ في طريقي عائدًا من الجبهة الحربية إلى قريتي الصغيرة التي هدمت معظم بيوتها بسبب القصف المستمر. في طريقي وجدتُ المخرج الأمريكي، ذو الشعر الأشقر وبعض الرفاق يجلسون لتناول الغذاء.. خبز وزيت زيتون.. شاركتهم الطعام، وحكيتُ للمخرج عن الأشخاص الذين يتطايحون أمواتًا أمام أعيني: يقفزون مقابلاً لجسدي عندما تكون رصاصة قادمة تجاهي.. ضحكَ وقالَ جملته تلك، وما ان فرغَ من قول الجملة حتى رأيتهُ ينتفض قبالتي كمن سينقضّ عليّ.. وقعَ على جسدي فأنطرحتُ واياه أرضًا.. تدفق الدمُ من فمه وفارق الحياة: رصاصة اخترقت مؤخرة رأسه.. رصاصةُ كانَ هدفها رأسي.. صارَ أحدَ ضحاياي.. وكلّ الرفاق شاهدوا الحدث، فتركوا الخبز والزيت، وأنسحبوا مصدومين. نعم، كلما قصدتني رصاصة، أرى شخصًا يطير أمامي أو يمسكني من الخلف ليتلقى الرصاصة عوضًا عني. هكذا خرجتُ من الحرب دونَ رصاص، دونَ اصابات تذكر.. دونَ أن تسحقني ألة الموت.

في الطريق إلى العاصمة، فكرت كثيرًا فيما حدث لي في ذاكَ اليوم من شهر أبريل، حينَ كنّا في القبو. كنتُ يومها، أشبهُ بمومياء. لا تزالُ التفاصيل عالقة في رأسي.. التفاصيل الدقيقة جدًا.. المكان، والمقاتلين، والتراتيل الدينية والأدعية.. الوجوه الأشبه بوجوه المطرودون من الجنّة. الغبار والأسود الذي يلطخ وجوهنا. الأسلحة التي نتشبّثُ بها كأمهاتنا. صوتُ استكاك العظام والارتجاف الشديد. قطرات الماء التي تصبّ من سقف القبو: قطرات تسقط بشكل ممتالي فوقَ رأس أحد المقاتلين.. الأسماء، أسماء المقاتلين تحصرني أيضًا. أكبرهم يبلغ السادسة والعشرين، أصغرهم يبلغ الرابعة عشر من العمر.. كنتُ في المنتصف.. عشرون عامًا، وفي أشهر قليلة سأصيرُ في الواحد والعشرين.. تعرّفتُ على بعضهم بعدَ أن ابتدأت الحرب، وبعضهم الأخر أعرفهُ مذ كنتُ طفلاً.. أرى مروان، جالسٌ في زاوية القبو، ماسكًا بندقيته ويراقبُ السقف.. أرى الدمع ينزلُ من عينيه.. أراهُ يرتجف. أتذكرهُ طفلاً.. أصطادُ واياهُ الحمائم ونشويها لأكلها. كنتُ دائمًا واياهُ وحميد.. لم نكن على علمٍ وقتها بالقادم نحونا.. بقبو سيصيرُ احدى أكبر المجازر في تاريخ المدينة.. حميد في كتيبة أخرى اسمها كتيبة “البركان”.. لا أدري لمَ رُمينا في هذهِ الكتيبة التي سيموتُ كلّ مقاتليها مرّةً واحدة.. اليومُ، قالَ لي حميد وأنا أتناولُ الغذاء رفقته أنّهم عثروا على المقاتلين في أرض، سانية، قريبة من المدينة.. قالَ أنّ جنود الجيش النظامي، الذي نقاتله، سيدخل القبو، وسيأخذ الجنود إلى سانية قريبة ويرموهم هناك، ويشعلون فيهم النار.. استوى حميد في جلسته وقد بكى عندمَا نطق اسم مروان، وقد تخيّل جسدهُ النحيف والنار تأكله: أرض ترابية في مزرعة أو قرية، فيها شجر زيتون ونخيل وبيوت غير مطلية. تتوسط الساحة جثث كثيرة، يصعد من الجثث دخان أبيض اللون، كأنها انطفأت للتو.

لقد كنّا ثلاثة وثلاثون مقاتلاً، في قبو احدى العمارات في الشارع الرئيسي، في حرب شوارع خاضتها المدينة. كانَ ذلكَ في شهر أبريل، ولكنّ اليوم لا يخطرُ في بالي الأن. كنّا ثلاثة وثلاثون مقاتلاً، نحملُ على كاهلنا صليب الخوف، ونرى ملائكة الموت تحدّق في أعيننا في ذاكَ القبو الصغير أسفل احدى العمارات.

كنّا جلوسا، بعضنا يدخّن وبعضنا يقرأ أياتً من القرآن وبعضنا الأخر رفعَ يديهِ عاليًا إلى السماء يدعو الله أن لا يردّ حكم القضاء، لكن يسألهُ اللطف فيه.

في ذاكَ الصباح، بصقتُ على الأرض، وأدركتُ حقّ ادراك، أنّ هذهِ الحياة ليست سوى عبث، وأنّ لا عالم أخر في انتظارنا ان متنا في هذهِ اللحظة. كانت هذهِ الفكرة بحدّ ذاتها مخيفة.

بطبيعة نضوجي في عائلة متدّينة، وقد كبرتُ على تعاليم دينية صارمة، صارَ من الصعب عليّ تقبّل (في لحظة صارَ الموتُ فيها قريبًا)، عدمية الوجود وعبثه. لكنّني لا أخفيكم سرًا، بأنّني لحظتها تساءلتُ ماذا يعني أن يكونَ هناكَ إله مثلاً، و نكون في ذات الوقت كومة من البشر في هذا القبو الذي تفوحُ منه رائحة البول والعرق والأنفاس المتعفّنة، وفي الخارج هناكَ موتٌ محتّم، وفي ظلّ كل هذا الخراء، يكونُ هناكَ ربّ ما يشاهدنا أعلاهُ كأنّنا شخصيات ومشاهدَ في فيلم سينمائي.. كأنّهُ يستلذُ برؤيتنا نرتجف هكذا.. أليسَ هذا مؤلمًا بحقّ؟ أليسَ مؤلمًا أن أكونَ صباحًا رفقة “التكالي”، الشاب الوسيم ذو الوجه الفينيقي البشوش، وأن يحلّ الظلام على المدينة وأنا أحفرُ لهُ قبرًا؟ أليسَ مؤلمًا أن أذهبَ للاطمئنان على جدتي الستينية في بيتها ذاتَ ظهيرة، لأجد جنودًا يتناوبون عليها وهي عارية وترتجف؟ أن تحملَ السلاح، يعني أن تواجهَ الموت، ويعني أيضًا أن تحفرَ القبور لضحاياك وأصدقائك على حدّ السواء. الحياة جحيم، الحرب لعنة، العبث هو الأساس!

لماذا كنّا ثلاثة وثلاثين مقاتلاً؟ أتذكرُ أنّنا كنّا أخر المقاتلين على قيد الحياة في كتيبة أنشئت عندما اقتحمت كتائب الحكومة وجيشها مدينتنا محملين بالراجمات والسلاح.. للكتيبة اسم وجودي، “كتيبة الأفراد”.. لا أعرف لماذا اخترنا لها هكذا اسم غريب، مقارنة بباقي الكتائب الصديقة التي اختارَ لها مقاتليها أسماءًا مباشرة وتقليدية كـ البركان والأسود والصمود.. كتيبة الأفراد كانَ اسمًا ذو معنى غريب، ولم يكن أحد من الكتائب الأخرى يسألنا لماذا هذا الاسم بالذات.. اليوم وأنا أتناول وجبة الغذاء رفقة حميد، سألني هذا عن السبب فلم أمتلك جواب لذلك.. الذي أعطى الكتيبة هذا الاسم قُتلَ في أول معركة نخوضها. كانَ رسامًا وفيلسوفًا.. ربما هذا سبب كافٍ لحلّ لغز اسم الكتيبة.

في لحظة ما، سأفتحُ عيناي لأرى دخانًا يحيط بي من كل جانب في ذاكَ القبو المتعفّن. كانَ من الصعب أن أحرّك رأسي. من الصعب تحريك جسدي. شعرتُ بأنّني قد شلّيت تمامًا.. إلاّ أنّهُ كانَ باستطاعتي تحريكَ أصابعي. بامكاني أن أشعر بزجاج تحتَ باطن يدي. كانت قطعٌ من الزجاج مغروسة في جلدي دونَ أدنى شك.. شعرتُ ببعض الوجع، ولاحقًا، سأدرك أنّني من الرعب بوّلت وخريتُ في بنطالي.

في تلكَ اللحظة التي شعرتُ فيها بالخراء اللزج في بنطالي، تذكرتُ ذاكَ القنّاص العدو الذي قتلتهُ من علو احدى العمارات: كانَ قد ربط نفسه على شجرة محاطًا بالأوراق وعلى احدى أغصان الشجرة ربطَ كيسين من الطعام والشراب. كانَ يقوّص على الرفاق.. قتلَ منّا أربعة على مدى ثلاث أيام. لم نعرف من أينَ يأتي هذا الرصاص، ولكنني في اليوم الثالث لمحته. قنّصتُ عليهِ، لكنّني لم أكن آنذاكَ قنّاصًا جيّدًا، لهذا استغرقت ما يقارب النصف ساعة في تثبيت العدسة وقياس سرعة الريح واختيار الرصاص المناسب واللحظة المناسبة. كنتُ على بعد مسافة خمسمائة متر منه ناحية الشرق، وعلى علو أربعة طوابق، بحيث كنتُ أثبّت فوهة السلاح إلى الأسفل، ولأنّ البناية التي كنتُ فيها على مهبّ أربعة طرق متفرّقة، فقد كانت الرياح تضرب بقوة معظم الوقت، ولهذا استغرقت وقتًا طويلاً حتى استطعتُ تجهيز تلكَ الطلقة.. أطلقتُ الرصاصة وكنتُ لا أزالُ خائفًا.. مرّت لحظات ولم يسقط فيها.. لكن بعدَ لحظات.. مرّ أحد الرفاق من الشارع ولم يصب برصاص القنّاص.. مرّ أخر ولم يصب.. أدركنا أنّهُ معلّقًا على الشجرة ميّتًا أو مصابًا.. حينَ نزلنا البناية وتفحصناهُ بحذر، رأينا دمًا يقطّر من أعلى الشجرة.. صعدتُ ورفيق أخر.. رأيناهُ رابطًا نفسهُ ورأينا أكياس الطعام: بسكويت وحليب وبيض مسلوق وعلب تن وقناني الماء وألواح الشكلاطة.. قطعنا الحبل بالسكاكين فهوى الجسد من علو الشجرة إلى الأرض. أحدثَ الجسد صوتًا غريبًا أشبهَ ببساط وقعَ من علو شاهق. لم أحضر دفنَ عدوي، ولكن رفيقي الذي حفر قبرهُ قالَ لي أنّهُ حينَ خلعَ ملابسه لدفنه، رآهُ يرتدي الحفاظات، لحبس البول والخراء كل هذه المدة.

كانَ انفجارًا.. هذا بالضبط ما حدث في القبو.. فقتلَ اثنين وثلاثين مقاتلاً، وبقيتُ وحدي، أخر من تبقى من أفراد الكتيبة. قبيل الانفجار، وقفتُ على باب القبو.. أمامي سلالم رخامية تقودُ إلى العمارة ومنها إلى الباب المؤدي إلى الموت. كنتُ أسمعُ طلقات أعيرة نارية بكثافة وصواريخ الجراد تسقط بقوة.. رائحة الصواريخ والرصاص والجثث.. رائحة صدئة.. التفتّ إلى المقاتلين الذينَ باتوا يرتلون القرآن ويقولون الأدعية بصوتٍ عالٍ.. كانت وجوههم كئيبة.. أدركتُ أنّ الموتَ باتَ محتّمًا وواجب.. كانت النيران تقترب منّا، والعمارة شارفت على الانهيار.. سندفنُ كلّنا تحتها… فجأة، في ظلّ هذا الخوف والدمار وجدتُ نفسي أصرخُ “أنتم الألهة.. أنتم الألهة.. أنتمُ الأحرار.. أنتم الطلقاء”… ومن ثمّ بوووووووم… وأنينٌ في أذني ودخان كثيف.

وتحملني الملائكة عاليًا في السماء، أو هكذا ظننت. لم أحسّ بأيادٍ ترفعني، ولكنني أحسستُ بنعومة الحرير تلامس جسدي العاري. أشعرُ بشيءٍ من الخفّة والنعومة. لحظتها، أدركتُ بأنّني قد متّ. شعرتُ بنفسي كما كانَ يخيّل لي لحظة سماعي لأصوات الشيوخ تتعالى حولَ الشهداء الذينَ صعدوا إلى ربّهم باسمين. أحسستُ نفسي الهًا في كرسيه.. لقد كنتُ أجلسُ على عرش الله، نعم، لم تكن رؤية، كنتُ أجلسُ على كرسيهُ سبحانه وتعالى.. جلستُ عليهِ ومنهُ رأيتُ الحرب أمامي… وعزرائيل بجانبي. لم أرغب بالموت يومًا، ولم أرغب بالحرب.. لم أتصوّر الموتَ يحدّق بي. في ذاكَ القبو، كُتبت نهايتي، حتى رأيت نفسي تحلّق عاليًا.

قبيلَ ساعات قليلة من الانفجار الذي سيقتل أفراد الكتيبة، جاءتنا تعليمات للتحرك نحوَ الشارع الرئيسي لكي ننقضّ على قوّات العدو.. أرتدي كمعظم أفرادِ كتيبنا سروال جينز وقميص أسود وحذاء رياضي.. حاملاً السلاحَ على مستوى وجهي كما في الأفلام السينمائية. كلّما سمعتُ صوتَ رصاصة وجدتُ نفسي أرتعش وألفّ حول نفسي أكثرَ من مرة بحثًا عن من يحاول قتلي. طلبَ مروان منّي أن لا أخاف، مكملاً كلامه، بأنّني لن أسمعَ صوتَ الرصاصة التي ستقتلني. كانت جملتهُ تلكَ كافية لوضع كلّ احتمالات الموت أمامي.. ما معنى عدم سماعي للرصاصة التي ستقتلني؟ هكذا تساءلتُ وقتها، ولكن لم أستطع تجميع أفكاري كلّها في حلقة واحدة، ممّا اضطرني للتخلّي عن فكرة الموت والسعي وراء فكرة انتهاء الحرب قريبًا والعودة إلى الحياة.. كانَ ذلكَ قبيل ثوانٍ قليلة من بدء قوّات العدو شنّ هجومها علينا.. صوتُ رصاص من كلّ جانب.. صراخ، تكبير، تهاليل.. سبّ وشتام، ثمّ انطرحتُ على الأرض باحثًا عن مخرج.. العديد من الجثث حولي، ورأيتُ مروان وباقي أفراد الكتيبة يهرولون إلى تلكَ العمارة في قارعة الطريق.. وقفتُ وجريتُ رفقتهم.. دخلنا العمارة، ثمّ سمعنا صوتَ ارتطام قذيفة هاون على المبنى.. سارعنا هابطين الدرج إلى القبو، وهناك، قالَ مروان أنّ ما حدث كانَ مصيدة للقضاء علينا.. جلسنا كلّنا في القبو ونحنُ نسمعُ صوتَ الرصاص والقنابل.. وقتها بدأت الأدعية، وبدأت التهاليل.. صوتُ الولاّعات أثناء اشعال السيجارة.. صوتُ احتراق التبغ.. “هناكَ خائن أوشى بنا، وأوقعنا في هذهِ المصيدة” قالَ مروان، ولم نكن نملكُ اجابة، وكلّنا يتشبّت بالحياة كما يتشبّت بسلاحه.. ثمّ، بعدَ الانفجار والدخان، والهلع، رأيتُ نفسي أصرخُ في الجمع، ومن ثمّ رأيتُ نفسي محلّقًا رفقة الملائكة إلى عرش الله في السموات.

هذهِ تفاصيل أخرى اذن، وكل ما سيحدثُ لاحقًا تفصيل.. هناكَ تفاصيل… وهذا أمرٌ يؤرقني.. لم ألتقط من هذهِ الأحداث سوى التفاصيل.. في عرشي، قبيلَ نزولي الأخيرُ إلى الأرض، دونَ ملائكة، ولا عزرائيل.. أدركتُ نفسي في ظهيرة، في المدينة، وكانَ الفراغ، حتى شاهدوني الأطفال، وجاءت النساء يزغردن وهللوا الرجال لعودتي.. ستأتيني نساء لاحقًا يسألن عن حالي، ويسألن عن أولادهن الذينَ فقدوا.. ثمّ انطلقَ حميد، عندما كنتُ في بيته نتناول الغذاء، انطلقَ ساردًا لي حكاية مقتل الديكتاتور، سعيدًا بوجهه البشوش أنّهُ كانَ حاضرًا، وأنّهُ لكمهُ على وجهه. ابتسمتُ لهُ وأنا أستمعُ لحكايته.. أتذكرُني في السماء، جالسًا على العرش، وقد وضعَ الديكتاتور يدهُ على زناد مسدسة ليطلق الرصاصة في رأسه.. رفعتُ يدي إليه، منعتهُ من اطلاق الرصاصة.. رأيتُ حميد وسط حشد من المقاتلين وقد اقتربوا من مكان اختباء الديكتاتور.. ثمّ رأيتهم يقبضون عليهِ ويسحبون المسدس من يده.. وبينما كانَ حميدٌ يلقي على مسامعي تلكَ الحكاية، والتي – كما لاحظتم – كانَ لي دورٌ فعال فيها، اخترتُ عدم الصعود إلى السماء مجددًا. لي ذرّ السموات والأرض، أرضها، وباطنها… وأنا ولي التوفيق.

سألني حميد عمّا حدث في القبو، وكيفَ استطعتُ النجاة. كانت الدموع محبوسة في عينيّ. وقفتُ لأودّعه، ولم أكن أملكُ اجابة لسؤاله.

“في أبريل، كنّا ثلاثة وثلاثون مقاتلاً، وكانَ الله رفيقنا”. قلتُ له.

مقالات ذات علاقة

الباب

عائشة الأصفر

الــنــون

علي جمعة اسبيق

الـــجادور

جلال عثمان

اترك تعليق