محمد عياد العرفي
في يومٍ من أيام السنة القمرية وصلتني دعوة لِحضور مؤتمر تحت مسمى [الصفات والتسميات البشرية] ارتديتُ ملابسي التركية ورششتُ عطري الليموني على أطراف معطفي الهزيل وانطلقت.. ولا أدري لماذا تمت دعوتي ؟ وصلت للمكان وأعجبتُ بنفسي كثيراً ربما لست معتاداً على القبول .. و لان الدعوة كانت رسمية لدرجة أن زر البنطلون انقطع مني فتشبثت يدي اليمنى بخصري خوفاً من أن ينتحر السروال… وصولاً إلى قاعة المؤتمرات وجدت نفسي وحيداً فالمكان الذي قصدته كان يسكنه الظلام.. كانت القاعة عتمة مهجورة لا يوجد سوى بقايا من الكراسي هذا بالنسبة للجماد ..أما ما يتعلق بالكائن الحي أنا وبعض العناكب التي تترصد على النوافذ القديمة..ارتعبتُ قليلاً ورفعت يدي قرابة وجهي وحدقتُ بعنفٍ نحو الساعة فوجدت أن التوقيت صحيح ..أردتُ الجلوس ولكن قلت يا ترى أي صفٍ أختاره ؟ بسرعة بديهة وقع الاختيار على الصف الثالث بما أني لست أستاذا أو دكتوراً..فجرت العادة من ذوي ربطات العنق المتشدقة أنهم لا يحبذون فكرة التقارب ابتعدت عن الصفين الأولين..جلستُ وأطلقت سراح مخيلتي التي كانت على موعد مع المتعة المجهولة ..تخيلتُ أنني (وزير الثقافة والأعلام) على وزن( وريث التفاهة والأفلام ) هذا المنصب يحتاج إلى شخص مؤهل أدبياً وفكرياً وأيضا اجتماعياً.. يستطيع التفريق بين أقلام الرصاص وبين الرصاص الذي كان له ذكرياتٍ مؤلمة في الأيام الخوالي !! كنت أحترم الكتّاب ..وسنـــويا أصرف لهم مكافآت وحوافز ..أسافر شبه يومياً من مدينة إلى أخرى ..أتابع الندوات وأشرف شخصيا على المراكز الثقافية ..قليلاً ما أتواجد مع أسرتي..أعمل صباحاً مساءاً أتابع شكاوى الصحفيين لا أتردد في اتخاذ القرار الصائب..أدافع عن الحق ولاشيء سوى الحق.. قاعدتي متينة مبادئي واضحة…ميثاق الشرف الصحفي هو رسالتي .. حرية الرأي والتعبير هو هويتي ..ازدهار الصحافة والثقافة أحد أهدافي.. تشجيع الكتّاب والأدباء والشعراء من منطلق أفكاري..الكل يستطيع أن يتكلم الكل يُعبّر عن رأيه الكل يستطيع أن يكتب لا مجال للترهيب, والتعذيب, والتهديد, ذات يوم قصدت المكتبة..لشراء كتاب وسعدت بوجود الكم الهائل من الناس مددت يدي نحو كتاب بعنوان (…… درنة) التقطه أحد المواطنين.. كانت النسخة الأخيرة!! ابتسم في وجهي وقال: يا سيادة الوزير هذا حضك وأنا أسف.. ابتهجت وقلت في سري هذا رائع مادام الناس يتوجهون إلى المكتبات ويشترون الكتب فهذا يعني أن كل شيء على ما يرام ..توجهتُ نحو المسرح وبالصدفة كانت تعرض مسرحية (خرفّ يا شعيب) أعجبتني المسرحية وعرفتُ أن الممثل الكوميدي المعروف كان يقصد بلداً أخر ..عند هذا الحد أوقفتني مخيلتي وطلبت مني تغيير المنصب …فاخترتُ أمين السياحة .. وبما أن بلدي تهتم كثيراً بهذا الشأن ..وضعتُ نظارتي الشمسية والطقس كان حاراً في منتصف الصيف .. ركبتُ السيارة وأنطلق بي السائق ..متجهاً نحو المصيف العائلي ..جلست قرب الشاطئ أتابع بترقب..ما حققته طيلة السنوات الماضية ..شعرت بالفرحة تملئ قلبي ووجوه الناس تُعبر عن السعادة ..رمال الشاطئ الناعمة.. المنظر الخلاب النظافة تعم الشاطئ بأكمله.. سرقتني في لحظة غفوة بسيطة ..فهز كتفي سائقي الخاص ..فنهضت ورجعت أجلس من جديد أنظر إلى منظر الشاطئ الساحر ..كدت أغفو من جديد لكن مسئوليتي ..كبيرة وحبي لبلدي أمانة في عنقي .. ركبنا السيارة واتجهنا إلى الفنادق.. سرنا بجانب بحيرة 23يوليو وشعرت بدموع الفرحة تسيلُ على خدي.. طلبت من السائق أن يقف جانباً مددت وجهي نحو البحيرة رأيت وجهي ينعكس علي بوضوح كالمرآة ..وصوت البط والإوز ..يملئنا بالبهجة ..وبعض الزهور ملقية تطفو وتتحدث عن العشاق ..كانوا بالأمس هنا ..تركنا السيارة واتجهنا نحو فندق تيبستي ..مازحني السائق وقال لي أتسابقني على الدَرَجْ ؟ ..فقلت له لا بأس قفزنا من درجة إلى أخرى ..والناس تبتسم ..وعند مدخل الفندق تم استقبالنا بالورود.. فتقدم إلينا مدير الفندق ومعه الطباخ دعانا لحضور مائدة الغداء ..لكن من جديد اعتذرت منهما ورحلت بسبب مسئوليتي وحبي لبلدي !! انطلقنا نحو أمانة السياحة وأكلنا بعض الشطائر ومن ثم طلبت من السائق أن نسرع قليلا للذهاب إلى المطار والتوجه نحو الصحراء الليبية لنستفسر على راحة السائحين.. عند هذا الحد رجعت مخيلتي تعاتبني وتطلب مني تغيير المنصب ..غيرت طريقة جلستي ورفعتُ رأسي ..شعرت بأن الكرسي غير مريح للانتقالي لمنصبٍ جـديد( مـحافظ مـصرف ليـبيا الـمركزي) كانت مخيلتي متكدرة خائفة بعض شيء بسبب المسئولية التي أحملها على عاتقي ..اجتمعت بمدراء المصارف وقعت على بنود كثيرة وأصدرت قرار في رفع الجنية الليبي مقابل العملة الأجنبية .. مئة دينار ليبي يساوي ما يعادل 350 دولار..قروض وسلف مريحة الأقساط بعيدة عن الشبهات!! تعالى التصفيق داخل الاجتماع وتصافحت مع جميع المدراء ورجعتُ إلى المصرف وصرفت مكافأة لكل الموظفين ..من جديد رجعت مخيلتي مبتهجة ترقص وتغني سنعيش بأمان لن نجوع بعد ألان !! لكن مخيلتي الشقية تعشق المخاطر وتحب التغيير!!..طلبت مني تغيير المنصب فنهضتُ من الكرسي فانكمش وَرَدّ إلى وضعه العادي وكأنني كنت طابقاً على أنفاسه. هذا الكرسي المسكين إلى متى يتحمل ترهات المسئولين!! فقلت يا ولد لماذا لا تشغل منصب يغطي جميع المناصب … فوقع الاختيار على منصبٍ ..ليس هو الذي تفكر فيه يا سيدي القارئ!! ..رئيس الوزراء أو أمين اللجنة الشعبية ..في هذه الحالة أستطيع أن أضع أردافي على جميع الكراسي.بدأت بالاجتماعات من أمين الصحة: مادمنا نعالج في الخارج فالصحة ليست بخير .. إلى التعليم: لا بد من إيجاد حلٍ واضح للمقلصين .. إلى التخطيط: لا داعي لصرف المليارات تكفي المتابعة عن قرب.. إلى الصناعة:أين اختفت مصانعنا؟ إلى الزراعة:ليس التصحر هو بيت القصيد.. إلى الرقابة:انكسر إبريق الزجاج ولن يرجع كما كانَ عليه في السابق.. إلى المرافق: رفقاً بالشباب.. أين الشقق ؟ إلى العدل:يطبق القانون ..لكن القضاة فشلوا في حل مشكلة أهالي الضحايا.. إلى التشغيل:من قال أن الباحثين عن العمل صرفت لهم مرتبات؟!.
إلى أن استيقظتُ من فراشي متكدراً والعرق يتصبب من جسدي.. دقات قلبي كطائر نقار الخشب المزعج ..كنتُ أشك بأن ما حصل كان مجرد كوابيس..أو خيال ..لكن ما حدث كان أعظم.
نشر في صحيفة قورينا سابقا