خلقت الأحداث العربية المتسارعة في السنوات الأخيرة واقعا مختلفا، ساهم بدوره في التأثير على الحراك الثقافي والفني والإبداعي، وخلق تيارات إبداعية جديدة، أكثر التصاقا بالواقع، وأكثر جرأة وتحررا في أطروحاتها، وهذا ما يبدو جليّا خاصة في ما ينتجه المبدعون من الشباب.
كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” مختارات شعرية وقصصية ومقاطع روائية لجيل الكتابة الجديدة في ليبيا. لا شك أن هذه المختارات الشبابية تلفت النظر إلى جيل جديد من الكُتاب عاش الحرب الأهلية الليبية، وكانت الكتابة وسيلته للتعبير عن رغبة في التنوع، ونبذ العنف والكراهية والقتال، والدعوة إلى المصالحة والتسامح بين كل مكونات مجتمعهم. ويقول محررا الكتاب الشاعر خالد مطاوع والكاتبة ليلى المغربي “أردنا لهذا الكتاب أن يطل كنافذة للمشهد الليبي عامة بتواتراته السياسية والاجتماعية والنفسية خاصة في فترة ما بعد القذافي، وتحليلا للوضع الليبي من وجهات نظر أفراده ومخاوفهم المجتمعية الواسعة”. الكتاب الذي هو أحد مشروعات مؤسسة آريتي للثقافة والفنون التي أنشئت في ليبيا عام 2012، يحوي نصوصا لـ25 كاتبا وكاتبة تتراوح بين المشاركات الشعرية والقصصية والروائية، وما بين نص واحد وأكثر من نص لكل منهم، وهذا التفاوت يرجع إلى المشرفين على الكتاب. وفي المجمل يحوي الكتاب 83 من القصائد والنصوص، و26 قصة، وفصلا من رواية مكتوبة بالعامية.
ويشير الناقد أحمد الفيتوري في دراسته المعنونة بـ”كتابات شابة لا كُتاب شَباب”، أن هذه المختارات ليست المختارات الليبية الوحيدة، فقد سبقتها عدة كتب، وإن كانت لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وأضاف “هذه المختارات قائمة على مسح للحالة الإبداعية الليبية للشباب الذين نشروا نتاجهم في الفترة ما بعد 17 فبراير 2011، والملاحظ على كُتاب هذه المختارات أنهم عاشوا تجربة السفر الطويل والمهجر وهذا ملمح جديد في الإبداع الليبي، لأن الكُتاب الليبيين جلهم فيما سبق عاشوا في البلاد، ومن خرج منهم كان في عمر متقدم”. يرفض الناقد أحمد الفيتوري مصطلح الكُتاب الشباب مبرراً ذلك بأن الشاعر الليبي الراحل علي صدقي عبدالقادر قد تجاوز الثمانين عندما كتب قصيدة النثر. ويضيف “إن مسألة التجربة الإبداعية الأولى للمبدع التي كانت الدافع وراء هذا الكتاب هي مسألة تبين أن المبدع عند البدء حالة مفارقة تستدعي العناية الخاصة، من منطلق أن المرء في حالته في طور التعلم، ويستدعي من الخطاب النقدي درجة من الخصوصية تتسم بنوع من التعاطف الذي يوجبه رولان بارت عند نقد النص، إذ صيرورته تمكن الناقد من الدرجة الصفر للنص”.
وتشير الباحثة فريدة المصري في مقدمة الكتاب إلى أن هذه المختارات هي ابنة البيئة المحيطة بها من جهة، وهي كذلك امتداد لمراحل سابقة مر بها الأدب الليبي في تطوره بكل أجناسه، حيث كانت البيئة المكانية باشتقاقاتها وتأثيثها حاضرة بعمق باعتبارها خلفيات لا بد منها لانتساب هذه النصوص إلى بيئتها الاجتماعية. وعندما نقول عنها امتدادا هنا فإننا نعني بها أنها صارت وثيقة تاريخية. فنصوص الكتاب مليئة بمفردات متعلقة بثنائية الموت والحياة. وترفض الباحثة فريدة المصري القول إن الأزمات هي التي أنتجت لنا هذه الأسماء الإبداعية، وتضيف “ببساطة لا أعتبر هذه الأسماء عابرة تنتهي بانتهاء الأزمة، بل هي أسماء تمتلك أقلاما نستطيع أن نُعول عليها في تأسيس أدب ليبي معاصر لكل الظروف والمواقف”. وتشير المصري إلى أن النصوص تنوعت من حيث اللغة والحكايا والأماكن والزوايا، فكانت المدينة حاضرة بضواحيها، سواء بأسمائها أو بلا أسماء، ويحضر كذلك البحر والقرية والشارع والزقاق والمدرسة والجامعة، كلها تشهد على علاقات متعددة الأشكال والأوصاف.
ويقول الفيتوري بدوره إن التنوع ظاهر في هذه الكتابات، حيث حققت توازنا بين الشعر والسرد من جهة ومن جهة أخرى جمعت بين معالجات مختلفة وليست متباينة، فالنفس واحد في جل الكتابات وروح التوتر والعلاقة المضطربة مع اللغة ومع الواقع. هذه الكتابات لم تعكس الواقع بل قدمت واقعا فنيا شائكا ومرتبكا، منها كتابات فنتازية وأخرى واقعية لا تشطح في الخيال لكن الزاوية الملتقطة فنتازيا في الواقع تنبئ بأن الواقع أمست شطحاته أكثر غرائبية من خيال الكُتاب.