تلخيص: د.علي بن خيال، تحرير: د.محمد الخازمي
هذه رحلة غريبة بعض الشيء عن عالم الرحلات المعتاد؛ ذلك أنّ صاحبها جعل شغله الشاغل معرفة النباتات، وأنواعها، وأشكالها، وفوائدها، وبَحَث في كلّ دقائقها، فهي إذًا رحلة علمية، لها لونٌ آخر مميز؛ إذ هي أقرب إلى الرحلة التخصّصية، وهي على كل حال تضيف إلى المعرفة العلمية كما تضيف إلى الجغرافيا والاجتماع والتاريخ.
وصاحب الرحلة عالمٌ فقيهٌ مالكيّ يعرف بابن الروميّة، من إشبيلية بالأندلس، ورحلته لا يكاد يعرفها غالب الباحثين في هذا الزمان؛ لأنها ضائعة أولا، ولولا حفظ ابن البيطار لكثير من نصوصها في كتابه (الجامع لمفردات الأدوية) لما اهتدينا إليها، وعدد النُّقول التي نقلها عنه ابن البيطار (92) نقلا، وهذا الأمر من فوائد النُّقول الطويلة التي كان ينقلها العلماء عن غيرهم، ولولا نقول ابن البيطار لضاعت الرحلة النباتية، وأحيانا يشير ابن البيطار إلى ابن الرومية بقوله: وفي كتاب الرحلة لأبي العباس النباتي.
وبعض كتب التراجم كـــ(الذيل والتكملة) للمراكشي، و(كشف الظنون) لحاجي خليفة يسمونها الرحلة، لكن لسان الدين بن الخطيب في (الإحاطة) -وهو مصدر كبير مهم- هو الذي أطلق عليها الرحلة النباتية، وذكر ابن العديم في (بغية الطلب في أخبار حلب) أنه وقف عليها وأنها حسنةٌ كثيرة الفائدة بحسب تعبيره.
وابن الرومية مع كونه فقيها، فله عناية بالحديث الشريف، وله مقدرة بارعة عجيبة مقطوعة النظير في النباتات حتى عد من أكبر العلماء في النباتات والأعشاب والحشائش.
استمرت هذه الرحلة ثلاث سنوات بين سنتي 612-615هـ، وكُلِّلت -كما هي غاية الرحلات- بالحج.
التقى ابن الروميّة في رحلته بالقِفطي صاحب (إنباه الرواة) و(تاريخ الحكماء)، والقفطي مع علمه ونبوغه رجل متفرّدٌ أيضا، من غرائبه أنه لم يتزوج، وله مكتبة كبرى يشار إليها بالبنان، فهو عالمٌ جمّاعٌ للكتب، خبيرٌ بها، ولهذا يلحظ الباحثون أن فنّ الترجمة عنده يختلف عن غيره، وكانت اللقيا بينهما في حلب، والظاهر أن للقِفطيّ أيضا اهتمام بالأعشاب، قال عنه: إنه أعقل من رأيت، وحصل بينهما نقاش حول عشبة اسمها (الذريرة)، قال له القفطي: إنها مذكورة في الكتب القديمة، والظاهر أنها منقرضة أو ضائعة، فأجابه ابن الرومية: بل هي موجودة، لكنكم لم تحسنوا الوصول إليها، رأيت منها في الأهواز (بشرق الأندلس) شيئا كثيرا.
وكان ابن الروميّة لـمّا وصل تونس صحب معه كتابا ضخما اشتراه من العالم النحوي الكبير (الشلوبين) اسمه: (العالم والمتعلم)، وهو في أربعين مجلدا، فالتقى بعامل لابن البربري حاكم تونس آنذاك، فأخذ منه ذلك العاملُ الكتاب قهرًا، ولما تذاكر أَمْرَ الكتاب مع القفطي أظهر توجّعا عليه، وأسفا لفقده، فهمّ القفطيُّ بإرسال يهودي إلى عامل تونس برسالة لاستنقاذ الكتاب، ثم عدل عن ذلك خوف المخاطر، ودعا على هذا الحاكم الظالم، ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاءهم خبر خروج بعض رعيته عليه، فاقتلعوا ملكه وقتلوه!
وسرُّ عُلُوِّ مكانة الرحلة العلمية أن صاحبها يسير في الأرض وينظر، ويلحظ، ويدقّق، ويسأل الرعيان، والعطّارين، وعقلاء المناطق التي يمرّ بها، ثم هو بعد سؤالهم يَقبل بعضَ كلامِهم، ويردُّ بعضًا آخر؛ لأنه جاءهم بعلم ومعرفة، ولأن بعض الناس ليسوا دقيقين في إجاباتهم، أو ليس لهم علمٌ يؤهلهم لإجابة صادقة صحيحة، ولذلك تراه يقول: يوجد في المكان الفلاني والمكان الفلاني، ووصف كثيرا من أعشاب بلادنا، وبرقة خاصة.
من أمثلة وصفه البديع وصفُه لعشبة: (كفّ مريم)، وهي عشبة مشهورة، يقول عنها:
هي نبتةٌ منبسطةٌ على الأرض، رجليّة الورق، إلى الاستدارة، صلبة الأغصان، في ورقها جعودة، ويسيرة القبض، ليست شديدة الخضرة، تتكوّن في الأرض باستدارة على قدر الشبر، تخرج من بين تضاعيف الورق على الأغصان فيها زهرة دقيقة إلى الصفرة، ما هي على شكل زهر الرجلة، ثم يسقط فيخلفه بزرٌ أصفر من الحلبة، صلب يسقط وتُورِق، وتنقبض الأغصان…إلخ، ثم يقول عنها: وقلّ من يعرفها على الصفة التي وصفت، ولم يحلّلها أحد قبلي فيما علمت، وقد رأيتها بصحراء مصر، وهي أيضا بالمغرب بصحراء سجلماسة، ورأيت منها نوعا بجبال بيت المقدس صغيرا أبيض اللون، دقيق العيدان مدحرج الخلقة دقيق البزر، وهذا النوع هو موجود أيضا بطريق عسقلان في الصحارى.
ويذكر في رحلته نبات (العاقول)، وهو موجود بكثرة في بلادنا، ويعرفه الرعاة، وأهل البادية تأكله الإبل والأغنام، وهذا أمر معروف عنه، لكن الغريب أنه ذكر أن بعض أهل الموصل أخبروه؛ أن عصارته عندهم تجلو بياض العين والظلمة، وهم يستعملونه أيضا في برودات العين!
وهو أمر غريب، وكتاب ابن البيطار تُرجم إلى أوربا قديما، واستفادت منه، ولا أدري هل عندنا في بلادنا معامل يمكنها إجراء تجارب على هذه الادعاءات التي نقلها ابن الرومية!، وأوروبا انتفعت قبلنا بالعلم لأنهم طبّقوا من ضمن ما طبقوا في مناهجهم العلمية مبدأ (عدم الاستهانة).
ونختم بهذه النبتة العجيبة التي أسماها (امذريان)، وهي معروفة مجرّبة للدغ الأفاعي والعقارب، ويسقى أيضا ماؤها لمن يصيبه داءُ الكَلَب للمعضوض، وينفع أيضا للجرب الخشن، وعصارة هذا العشب تنفع أيضا من بياض العين، وإذا يُبّس ورقُها وسُحِق، فإنه يوضع على الخراجات، فيشفيها بإذن الله.
وعندنا في بني وليد عشبة تشبهها نسمّيها (عشبة الجلالطة)، نسبة إلى أهلها الذين يعرفونها، ويحتفظون بسر معرفتها، لكنهم لا يمنعون محتاجا منها، فإذا صحّ وصف ابن الرومية لهم فإن سرها قد آذن بالانكشاف!