نيفين الهوني
يحاصرني الذهول اشياء كثيرة تجتاحني تقتلعني من نفسي وأنا أتجول في شوارع المدينة التي لم ولن أحب مدينة أخرى بذات الحب الذي علمتنا إياه سنوات وسنوات وترميني وريقة خريف يابسة. أتجول باحثة عن ترابه ندي يمتصّ جذوري من ثانية ويحضنني للابد لأنسى سنوات الغربة والمساءات التي كانت تسافر في وجداني كل ليلة وتقتلي وتحييني ترفعني وترميني تحت التراب وأنا حية .خرجت من بيتنا الذي تفاجئ كل الجميع بمجيئي دون علم اخبار والذين غضبوا من خروجي صباح اليوم الثاني من وصولي اشفاقا علي مما سيقع عليه قلبي قبل عيني خرجت يملؤني انتظار طفلة صغيرة بشوق لقطع الحلوى التي تأتيها هدايا من كل القاطنين معها وكل الزائرين لببتها وكل العابرين بها في الحياة ابحث عن مساحات دافئة تجمعني بمن أحببتهم ومن عرفتهم ومن سألتقيهم صدفة في هذا الصباح الجميل حيث الشمس المشرقة أملا لم تستطع غيوم الامس الممتدة بين البيضاء وبنغازي حجبها مساحات يتمية من حلم متأمل بكاها الصباح الجميل ذاته حين قررت السماء أن تغرقنا بحزن الندى الذي سافر عن ورود المدينة التي ذبلت وصعد اليها مستنجدا بسحب الأماني في ان الغد أفضل.
كنت أشعر بالوحشة والغربة داخل شوارع وسط المدينة التي أحفظها عن ظهر حب وليس قلب ليست هي ذاتها من عرفت ولا من احتضنت كل خطواتي وذكرياتي وعلمتني وهدهدت خفقاتي الاولى وصفعت خد احلامي مرات ومرات أيضا.
الخراب يسكن كل شيء الوحشة تلملم قلب المدينة وليس ضواحيها لتترك اطرافها عرضة للعراء والبرد وسط المدينة التي رفضنا أن تكون منكوبة كان أكثر نكبة من نكبات العرب التي سمعتها وعشتها على مر سنوات العمر الذي ضاع دفعة واحدة في السنوات الست الاخيرة كنت أحاول الاقتراب من المحظور تدفعني نفحات من أنين أرواح الذين رحلوا هنا ولم تُحمل جثثهم على الاكتاف معززة مكرمة بل شاء الله لها ان تبقى فتختلط بأسفلت الشوارع وتراب الازقة وتنبت رغم كل شيء زهور صفراء وبنفسجية تقاوم التصحر في قلب المدينة الذي قد من قلوبنا نحن.
استمر في الولوج صوب العالم المجهول وصدى ضحكات ساكني ومتسوقي شارع جمال عبدالناصر تداعب اذني ومعاكسات شباب البلاد تدغدع ذاكرتي وتنعش روحي أملا في انهم لازالوا هنا وانني لازلت تلك الصبية المبتسمة دائما رغم حزن المدينة لسنوات عدة تلك الفتاة التي ستنتشي فرحا بحصد الاعجاب الممهور بتواقيع النساء قبل الرجال لان جواز مرورها ابتسامة واسعة باتساع احضان الرباية التي ربتهم ولم يكونوا بها بارين.
حين اقتربت من المنطقة الممنوعة ووجدت ما يمنعني من الاستمرار في التوغل صوب شارع عبدالمنعم رياض حيث كل الحب ومزيدا منه أيضا شعرت بالوهن بالضعف وبرغبة قاتلة للبكاء على أكف المدينة الندية بدماء من عرفتهم ومن قتلوا قبل أن اقابلهم واصابع مدينتي تلتقط عبراتي وتنسيني سنوات الغياب حلم يئن في مخيلتي يصرخ خلف جدران صمتي عودي لي لاضمك من جديد لتحتضن عمارة الاعلام ومكاتب المؤسسة – كما نحب ان نطلق على الهيأة العامة للصحافة – اجتماعاتنا وضحكاتنا وهمومنا الصغيرة ومناوشاتنا وبكائنا وضحكنا مرة اخرى في دورة يومية تحمل كل تفاصيل الحياة في ساعات نقضيها معا تحتضننا تربطنا توثق عرى محبتنا كأخوة في بيت واحد ربما أكثر من اخوتنا الحقيقيين صرخت روحي عودوا لأنهل من معين حبكم زاداً لوحدتي وماءً لرضاب روحي عودوا لأستطيع العودة مرة أخرى
حين جلست في المقعد الذي أن هو أيضا وصم آذاني بصرير معاناته اليومية مع مسافري الخطوط الليبية كنت أعلم أنها ليست الأولى ولكنها ربما الأخيرة التي سأشاهد فيها المدينة على هذا النحو فلن أحتمل زيارة أخرى تمزق ما بقي لي من شرايين تنبض بأمل في حلاوة الغد رغم مرارة اليوم
الحروف والكلمات المتزاحمة في عقلي تسرقني وتحرمني من التواصل مع جارتي في كرسي الطائرة اشعر بالبرد بالخوف يجمدّ اطرافي ويمنعني الشعور بانصهاري في بوتقة البوح دون وجع..كل الذكريات التي طرقت بعنف وبلا شفقة أبواب الذاكرة التي تعاني..أخرجت أوراقي والقلم وفتحت طاولة الطائرة وبدأت في محاولة للكتابة فتفاجأت بأنني أكتبها حلم وردي وغربة بإذن الله لن تطول.