من أعمال التشكيلي مصباح الكبير
قصة

نعم سيدي

في أول تجربة لي مع الدراسة، نقلني والدي إلى فقيه الحي، كان شيخاً كبيراً، تخلت عنه بعض أسنانه، ونمت لحيته على ذقنه بشكلٍ يكفي لإخافة طفلٍ مثلي، أما عارضاه فمجرد بُقع من شعر لا ترتقي إلى مرتبة اللحية!
كان الصبية ينادونه (نعم سيدي)!.. نعم .. كانوا ينادونه هكذا دائماً، حتى عندما لا يستدعي الموقف ذكر كلمة الموافقة (نعم)، فهو دائماً وأبداً (نعم سيدي)..
كنتُ ملتصقاً بوالدي ممكساً بثوبه، خوفاً من ذلك العجوز الذي يُمسك بسوط طوله ثلاثة أمتارٍ تقريباً.. صافحه والدي بحرارة.. فتبسم الشيخ لي كاشفاً عن أسنانٍ متناثرة مصبوغة بلون (التمباك) الذي كان يتعاطاه.
ابتسامة الشيخ بعثت في نفسي طمأنينة زائفة.. جعلتني أرخي قبضتي عن ثوب والدي بعض الشيء..
سلمني والدي إلى الشيخ وخرج وأنا أُتبعه نظري.. أحسست بأن الدنيا بأسرها تخلت عني وأنا في هذا السجن الضيق!
نفس الشعور يعاودني بعد ربع قرن.. وأنا في (سجن بوسليم) حين نُعي إليَّ والدي!
..
أمرني (نعم سيدي) بأن أجلس مع الأطفال.. تفاجأت بتغير لهجته معي.. واختفاء أسنانه الصدئة!
جلست في مؤخرة الفصل، الذي لم يكن سوى قطعة حصير تحت ظل شجرة في فناء بيت ذلك العجوز.
كنتُ في أشد حالات الرعب، وأنا أنظر إلى ذلك السوط وهو يصفع به الهواء من فوق رؤوسنا، أو يجلد به الأرض عن يميننا وشمالنا، مُصدراً صفيراً وكأنه صوت الموت نفسه!
حاولتُ أن أطمئن نفسي بأنه لن يضربنا، وإنما يريد إخافتنا، لكن تلك الطمأنينة انتهت بجلدة على ظهر أحد الصبية، جعلته يتلوى…
..
(إنااااااااا أعطيناك الكوثر)..
كان الشيخ يمدها طويلاً ليُلفت انتباهنا إلى خطأ زميلنا الذي قصرها!
كنت في آخر الصف أفتح فمي على اتساعه، ليرى الشيخ أنني فهمت الدرس!
عرفت أن المشكلة في المد.. فمن لا يمد يمد له سوطه.. ولذلك كنت أبالغ في المد.
صوت الشيخ لم يكن واضحاً كسوطه.. فمه المملوء بالمضغة جعله يبصق عن يمينه ويساره من فجوة تركتها إحدى أسنانه الراحلة.. لكنني ما دمت عرفت أنه يريد المد، فما المشكلة؟
المشكلة أنني بدأت أمد كل حرف.. دون أن أعرف معنى حرف أو معنى مد!
..
(فصلِّ لربك وانحر)..
طفل آخر يتلقى جلدة..
وهنا مددت عنقي ليراني مُظهراً مدَّ الياء على شكل ابتسامة عريضة.. فصليييييي..
..
ألمُ الجلدة كان أضعاف ما يُطيقه رجل كبير.. فكيف بطفل في الخامسة!
استغليت عاطفة أمي وهي تدهن مكان الجلدة بزيت الزيتون.. وبكيت حتى لا أعود..
في الليل.. وأنا مستلقٍ على جنبٍ واحد.. كنت أفكر في شيئين:
الشيء الأول: هو ما كان يردده الأطفال حين انتهت الحصة:
“سلّم سيدي سرحنا … حط اعظامه في الجنة”!
تخيلت نفسي وأنا اتجول في الجنة، فأعثر على عظام (نعم سيدي) مُلقاة على أحد شواطئ الأنهار، بدون لحية، وبدون مضغة، وبدون بصاقه المقرف..
والأهم من كل ذلك.. بدون سوط!
كان ذلك يبعث على التشفي!.
الشيء الثاني: لماذا يناديه الأطفال بـ(نعم سيدي)، لماذا يُصرون على إضافة كلمة الموافقة (نعم)، ولماذا لا يقولون سيدي فقط؟!
غلبني النعاس دون أن أجد إجابة على تساؤلاتي الطفولية..
لكن..
وبعد عدة عقود..
تأتي الإجابة..
متأخرة.. ومتأخرة جداً..
..
بعد أن وافقتُ على كل شيء!!.

مقالات ذات علاقة

قـصصٌ قـصـيـرةٌ جـــدّاً

خالد السحاتي

البرقية

إبراهيم دنقو

اللـذة الـقاتـلة

محمد عياد العرفي

اترك تعليق