لم أفهم لماذا اسم جدي مركبٌ: «محمد علي». لعل هذه التركيبة لها علاقة بحياته المركبة من قطع متعددة، نجح نجاحاً ملفتاً للنظر في جعلها متجانسة ومتناسقة.
عيناه رماديتان واسعتان، تتلونان حسب محيطه، كجناحي عصفور الشمس، فإن جلس في حديقته محاطاً بأشعة الشمس أصبحتا خضراوين، وإن ارتدى بزته الزرقاء الكحلي في فاتحة بناته باتتا زرقاوين، وإن تمدد في عتمة حجرته اقتربتا من حبتي البندق، لتعودا إلى رماديتهما حين يستغرق في تفكيره ويتكئ بذقنه على عصاه.
جبلي السحنة والهوى. ولد في القواسم بغريان، وتجرع زواتينها حتى الثمالة. يعبئ عصير الزيتون الممتلئ برحيق تضاريس جبلية قلبه. ولد من أرض تنبت أزهاراً دون سقاية ولا زراعة، ملونة، صغيرة، تتعلق بأفرعها الضعيفة، تتشبث بالصخر، وتتعلق به محبة ووفاء، ولا تسقطها عنه رياح ولا مطر ولا حبيبات الجليد، ولا حتى دهسات الأقدام الحافية عليها.
رحل باكراً إلى مصر، مقتفيا أثر خاله الأزهري.. «ويا مصر منك ألوف»، واستقر في رواق المغاربة بالاسكندرية.
وله ببحرها وشواطئها وأهلها حتى أصبح منهم أو كاد. خلع معرقته ولباسه العربي، وارتدى الطربوش والبدلة، وتكلم مثلهم، إلا كلمات قليلة التصقت بلسانه وأثقلته، وشككت أحياناً في أصوله. لكن الاسكندرية المدينة المتوسطية كانت تعج بكل الأجناس والهويات واللغات. تحتضن الجميع، وتطبع جباههم بمصرية من هوى بحري ومذاق من مزيج الأعراق.
اقترن الجبلي بإسكندارنية نقية عبأ رئتيها نسيم البحر، وعرفت السباحة وأنواع السمك، وأكلت الكابوريا وأنواع الفواكه، وركبت الترام، وتنزهت بين محطة الرمل وسان استفانو، وشربت عصير القصب والمانجو.
استعان محمد علي بالغرياني باشا أحد وجهاء الإسكندرية من ذات أصوله، فلم يسأل أهل الإسكندرنية عن منبته ورحلته، واطمأنوا إلى بدلته وطربوشه ولهجته ومرافقه. وهكذا بدا من أهل الاسكندرية، ولم يكن كذلك.. انجبت له عزيزة ست بنات وولدين. أعطى ولديه اسمين مركبين: محمود فوزي ومحمد نبيل.
متطلعٌ طموحٌ، يحب العلم ويخالط كبار القوم. ألحق ثلاثة من أولاده بالليسيه الفرنسية في الاسكندرية، وأطلق على أمي اسم سهير، تيمنا بالدكتورة سهير القلماوي. بحث عن الوجوه الغريبة من بلده في رواق المغاربة وصافحهم ومد لهم يده.
وحين قرر العودة إلى بلاده، كان قراره مفاجئاً وصادماً وجريئاً. تخلى عن كل شيء إلا طربوشه وبدلته، ذات القطع الثلاث، وحذاءه اللامع، وساعته المدلاة من صديريه. أنذر الإسكندرانية أنها رحلة عودته إلى الأرض التي تجرع زيتها، وتلذذ بكرومها، وشرب الماء من فخارها، ومضغ عيشها. حينها فقط علمَتْ أنه من بلد مجاور، لكنه وعدها بأن تسكن بقرب البحر، ولن تعيش على سفح جبل. وبر بوعده.
سكن جدي عمارة تتوسط ميدان الشهداء، كما تتوسط سكان المدينة، ما بين المدينة القديمة وبالخير وميزران و24 ديسمبر والاستقلال، وأحيا علاقاته القديمة التي بدأ صفحاتها في رواق المغاربة بالإسكندرية، وصاهر عائلاتها. والأهم أنه صعد الطريق الملتوي الضيق (الشليوني)، وتفقد أهله وزيتونه الذي كان في انتظاره، لكنه لم ينزع بدلته ولا طربوشه الأحمر، ولم يغمس قدميه البيضاوين في طين أرضه. اكتفى ببعض الزيت والفواكه تأتيه في المواسم.
وكما فتح محمد علي بيته لليبيين في الإسكندرية، فتح بيته «للغراينة» المنحدرين من «الشليوني» للمدينة، طلباً للعلم أو العمل أو قضاء الحاجة أو العلاج. رحبت الإسكندرانية بهم «أهلا وسهلا» وعاملتهم برفق ومودة، ودخلت بيوتهم المحفورة في الجبل، لكنها أحبت طرابلس التي سحرتها قلعتها المجاورة، ومناداة البواخر من مينائها، وخيوط صنارات صياديها المدلاة من المرفأ القريب، وطيران خطيفتها كل مساء، وعربات بيع السمك، وان افتقدت الكابوريا والمنجا والقشطة والكاكا. أما محمد علي فلم يفتقد شيئا، قرر ونفذ وعاش كما أراد بين الشاطىء والجبل.
وجيهاً، عرف صالونه الأحمر رجالات العهد الملكي والبعثيين والقوميين، وعرف لاحقاً عدداً من رجالات سبتمبر، منصتاً جيداً ومتحدثاً لبقاً.
لم يكن معنا حكاءً، لكنه كان باسماً. ولم يكن ناهراً، لكنه كان دافئاً، ولم يكن عالياً، ولكنه كان صاحب صوت خفيض، يصفق للمناداة ولا يصيح، يلعب معنا «الكوتشينة» والشطرنج، ويتقن لعبة الطاولة التي تعلمناها منه. حريص في طريقة أكله، يضع الفوطة على صدره، ويستخدم الشوكة والسكين، ولا يشرب إلا من كوب زجاجي. لا يخرج من حجرته إلا مرتدياً روبه وخفه القماش.
كانت «القواسم» قد أطلقت اسم نبيل وسهير وسامية وعزيزة على مواليدهم عام عودة جدي، لكنها فقدت نبيل لاعب فريق السلة بنادي الشباب/ طرابلس بحادث سير في غريان. وقع جدي من شدة الخبر وأصاب فقرات ظهره، فاستخدم عكازاً خشبياً في سيره زاده مهابة، أما جدتي فسرعان ما لحقت نبيل.
ذكي وصاحب نكتة حين تواتيه. عندما زاره صديقه رئيس وزراء ليبيا، وكان من أصوله، بعد أن اشتركت ابنته سامية وهتفت في مظاهرات انطلقت من مدرسة طرابلس الثانوية بعد نكسة 67، مشتكياً منها، نادى على ابنته، وغمز لها أن تعتذر، فاعتذرت، لكنه اقتنص الحدث وبلهجة مختلطة قال له «ياعبد المجيد.. دول شوية عيال وزعلوكم، أمال لو ثورة بالحق .. شن بتديروا؟».
حرص على دراسة بناته، ولعدم وجود مدرسة ثانوية، أخذ بيد ابنته سهير إلى القاهرة للحصول على الشهادة الثانوية، وألحقها بكلية الآداب، لتتخرج من قسم الاجتماع وعلم النفس بجامعة القاهرة، لتكون من أوائل الجامعيات عام 1962، كما التحقت بعض بناته بكليات الطب والعلوم السياسية بالقاهرة، إلا أن بعضهن فضلن الزواج على استكمال الدراسة، ولم يعترض على ذلك.
لم أره يبكي إلا مرة واحدة، كان في حجرة الجلوس يضع الراديو الترانستور الى جوار أذنه، يتنهد، وقد تسللت دموعه من بين رموشه الكثة، وهو يتابع جنازة عبد الناصر.
يحب الزميتة. يتناولها كل صباح، ويسمح لأصابعه أن تضغط على خليطها، ثم يرفعها إلى فمه دفعة واحدة، فلا يخطىء إليه طريقاً.
قضيت طفولتي في بيته، وتعلمت منه أن طرابلس ليست ليبيا، وأن جذورنا تمتد شرقاً وغرباً، ولها في سفوح الجبل عمقاً، وفي هوائه مجالاً.
صعدت معه الشليوني الضيق، وجريت أمامه في الهواء الطلق، وتعثرت بالأرض الصخرية، وجمعت من أرضه المستطيلة الصخرية في ذلك الوادي الزيتون وأوراق الخبيزة التي يحبها. كان يميز بين الشجر ما له وما لغيره، حريصاً على ألا نقترب إلا من شجره، وأكلت «الكرموس» من أعرافه، وخطفت حبات العنب من عناقيده، وجمعت حبات اللوز الأخضر وضغطت عليها بأسناني، فانكسرت، وتذوقت قلبها الأبيض اللزج قبل نضوجه، وتسلقت المرتفعات حافية لرعي الغنم مع الصغيرات، وعبأت عينَيّ بألوان الزهور الصفراء والبنفسجية والبيضاء، واستثارتني زهرة الأقحوان لقطفها، واقتربت من “الرتم”، وشممت عطر أزهاره المختلط بالهواء، وتمعنت نبات «الشيح» بأفرعه الطرية المختبئة تحت أفرعه الجافة، ولامست أوراق أكليل الجبل المشوكة لتتعطر أصابعي بها، وترافقني رائحتها حتى تخوم طربلس، واختبأت خلف شجر العرعروالسدر والصنوبر بشعره المتهدل بفوضى على ساقه، وجمعت ثماره الصلبة ذات الملامح العجوز، وصرخت في الوادي الذي أعاد لي الصدى.
حرص جدي على سقي شجيراته بمحبة، حتى امتدت فروعها إلى منبته، وتشابكت مع شجيرات أخرى بعد وفاته. قرر والدي ذات صيف أخذ إخوتي الثلاثة إلى القواسم عند أقارب جدي من عائلة “العقربان” لقضاء أشهر الصيف كاملة. صعدنا الجبل متلاصقين في الكرسي الخلفي، نردد الأغاني والأناشيد بلغات مختلفة، ودعناهم، وحين عدنا لأخذهم لم أتعرف عليهم، ولم أميزهم، يقفون بعيداً عنا مع جمع من الأولاد، ولم يقتربوا منا. ارتدى ثلاثتهم الزي الليبي السماوي، رأيتهم يتقافزون في الوديان حفاة بين الصخور بخفة، وقد شبوا عن الطوق، ونموا وتكاثر شعرهم، وصبغت الحمرة خدودهم.. رأيت الفخر في عيني أمي والزهو في كلمات أبي.
أبقى جدي علاقته مع موطنه رغم الهجرة والاختلاط وحياته المتنوعة، وصنع من حياته فسيفساء جميلة، ظهرت في ملامح وطباع أولاده وأحفاده، وترك لنا من ملامحه ألوان عينيه وبشرته، وبعضاً من لكنته واختلاط كلامه، والأجمل أنه صنع لنا امتداداً أبعد من العاصمة وأعمق من ياسمينها.
رحل جدي ودفن كأغلب أهل المدينة الذين وحدهم الموت في «جبانة سيدي منيدر»، إلى جوار الإسكندرانية التي ظل وفياً لها ولم يقترن بغيرها. رحل ولم يترك لنا جاهاً ولا مالاً، ولم يدّعِ في غربته وطنية أو ينسب مزايا. ترك لنا قطوم وزيتون وكروم ولوز في وادٍ جبلي سحيق، امتدت فروعها باستطالة وتشابكت. ترك لنا امتزاجاً بين ثقافات وملامح جبلية وعيون ملونة. ترك لنا أغاني عبد الحليم وأغاني الرحى، قصص يوسف إدريس وقصص كامل المقهور، كرة الخطيب والترهوني وأكلة الملوخية والبازين بالعيش.
نشأ جدي قريباً من أرضه رغم بعده، بينما توالت الأجيال بعيدة عن منبتها رغم قربها منه. ومنذ ذلك اليوم الذي ابتعد فيه الليبيون عن أراضيهم، واستظلوا بأسوار المدن؛ اليوم الذي اعتقدوا فيه أن المدينة بلاد، هجروا قراهم الوادعة، يلهثون نحو الصخب والضوضاء والدراهم، بل منهم من خلع عن قريته رداءها القطني، وأجبرها على ارتداء لباس المدن، فبردت. جلسوا أمام الشاشات بالساعات تمتص ما تبقى من رحيق عيونهم الجافة، بعد أن توقفت عن التحليق في الفضاء الأخضر، زهدوا في «الزرادي» والزيارات والتمدد على الأرض ومراقبة السحب، منذ أن دهسوا العشب بعجلات سياراتهم، واستبدلوا التربة «بالجليز»، والأشجار بالزجاجات والأكياس البلاستيكية، منذ أن توقفوا عن المشي والحركة وركنوا إلى المرابيع وحديث السياسة، ذلك اليوم ابتعدوا كثيراً عن بعضهم رغم قربهم. تنافروا رغم ما يجمعهم. أما جدي فقد عاد إلى قريته وارتمى بين أشجارها.
ما زالت أشجار الزيتون في ذلك الوادي في «القواسم» تنتظر من يجمع ثمارها، ويحيله الى زيت لتشربه أجيال تكاثرت من صلبه كما شربه وسقانا إياه.