سرد

مقطع من رواية “فرسان السعال”

 

أنظر إليها من الشق الصغير بين الأشجار ‏وأراها تتعرى باحتفاء في هجير الغاب، كنسيم خجلان كانت تتهدهد وتتوارى خجلاً مني عندما أسألها أن ترتدي لي ثوباً أحضرته لها.

اقحوانة عارية تنتصب عند الغدير والريح تشكُلها كائناً جديداً، يذوي الشجر من حولها منزاحاً إلى لهيب شفاهها المكتنزة، عُريها خلّف عذاباً من مرتبة أعلى كما حُمـى في جسد.

البراعم النامية بين شقوق الصخور أُتيح لها أن تُزهر، والحِرج الذهبي بدأ للتو حديثه مُدلهاً في اضطراب النهدين، كما الحبر حين يراق‏ على ورقة تاركاً خلفه‏ مساحتين من البياض‏ فاتنتين ‏ في تسلق الحلمات.

أنسكب فوق بطنها ‏الراعشة ذلك الظل الغابي الفريد بينما طارت اللقالقُ إلى البعيد مغتاظة.

في انتظارها مرت الدقائق كالسنوات، كنت أنسج لها حقلاً كاملاً من القصائد، بصبر الكلام الذي لا ينوح بلون الرغبات التي تتلبث متلذذة بها.

كل ما يخصني تركته يرحل إليها، نزقي، صخبي، عبثي، شبقي، كل عاداتي، انتماءاتي، ولغات الزهور، لأنني انتظرتها في ديوانين وحديقة، وخوفاً من أن تدرك النهايات حياة أحدنا ، مستعد أنا أن أؤجل الخلود إلى ما بعد.

لكن الكلمات المعلقة بالحلق ذوّبها الترقب الحلو لاقترابها المعذِب، حين خرجت من الدغل بثوبها الحريري اختلجت غرائزي كلها في حفيف الثوب على بشرتها الحريرية السمراء، وتصاعدت رغبتي في امتلاكها مع النهار الذاهب إلى الزوال.

شيء لا أعرف ما هو تنزه في شعرها الطويل ، وعندما مالت تحدّث عن نفسه في رشاقة الخُصل، متهاطلاً على وجهها الذي إنزاح إلى عُري شفتيها المضرجتين.

جسدها الذي حل محل ثيابها عديمة الجدوى ارتعش في أنسكاب القُبل، أغمضت عينيها فاستكان للنوم الحجر النادر فيهما، تطرّت في البراري العميقة ليديّ عظام حرقفتيها عندما ضممتها فطرطقت فقرات ظهرها، جذبتها فوقي فتشهى فم الحلمات في ثدييها البازغين، وهامسني فخذاها الأملسان بزقزقة عصافير محجوزة تتخبط تريد اللحاق بي.

غلاف الرواية

لا شيء يضاهي الجنس عذوبة في لحظات الخطر ، عندما حمامة بين ذراعيّ في هذا الغاب المرشوق بالقتلى والمتفسخين في العراء منذ أسابيع، أُحس باستراحة هانئة معها لا يُأسى عليها.

في لحظات الخطر والتهديد يكون أخذ الجسد وعطاؤه نهب حالة غريبة من الارتعاش والتفصد، تتواثب حتى أعماق هاويتي كشلال غامر من الصعب إيقافه، وهي كذلك، وهي كذلك، يلوح ذلك من تورد بشرتها في يديّ والاستسلامة الوادعة ترقد على وجهها المكلل بشعرها المتناثر على صدري.

أشعر معها أن آلافاً من الساعات ينبغي أن تمر قبل أن أرتوي من هذا الغمر الحليبي في حنايا بطنها وفخذيها.

تحط طيوري المرهقة على عارم صدرها وترتاح، تتفيأ هناك ثم تلتقط الثمر المباح في بلح حلمتيها.

وكما يروي الشعراء قصائدهم، ترويني بدفق أقوى من الزمن، ترسم بمورانها وجوه أطفال وعشب مُموّج بالنسائم وتمحو، تمحو حربنا الأهلية وصدمة الدم وفتاوى رجال الدين البدو.

أنا الأربعيني ويدي المرتعشة بالحنق وجراح الوطن للوطن، تبترد أعماقي وينهمر العزاء في الشقوق حين أرقُبها وهي تدخل بي طوراً جديداً حيث تنجلي دخيلتي متسلقة إلى الأعالي، حبلى بنشيد يعتنق جسدها المتفتق، وأُفيض بأشواقي السرية لرجع صور إلاهتي في فضاءات لا تُحد.

في لحظة ما حين نقترب، يكون المكان كما لو كان خارج إطار الجاذبية، شيء يطوح به فنشعر بدوار وهو ثابت، والغريب أن المكان على ضيقه يصير رحباً رحباً، يمطر حدائق خضراء ونجوم، يمطر شغفاً وإنشطاراً وتوقاً حاراً، ثم يتوقف كل شيء من حولنا، الحركة والسكون من حولنا، ونحن كذلك.

وأخيراً نهدأ.

************

جلسنا في صفوف متحلقين على الأرض نتدارس بيان وثيقة التوحيد وخطة الجهاد التي أعلن كافة الأمراء الالتزام بها في اجتماع لقاء الوحدة الأول بين حركة الجيا وأمراء الجماعات الأخرى من المناطق الثانية والخامسة والسادسة والتاسعة في جبال سيد علي بوناب ببو مرداس.

تكلم أمير الجماعة الموحدة الجديد جعفر الأفغاني بصوته الرفيع والحاد ماسحاً بيده على لحيته الكثة المحناة حديثاً:

ـ بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء أجمعين.

الحمد لله والمنة فقد انضم إلى جماعتنا المجاهدة اليوم عدد كبير من إخواننا المقاتلين بليبيا وتونس والمغرب، وعدد كبير من الفارين من جيش الحكومة الكافرة وحزب التحرير الوطني، ولا ننسى الدعم المادي والمعنوي لإخواننا المجاهدين بالسعودية لنُصرتنا على طواغيت الجزائر سعياً منا ومنهم جميعاً لتشكيل خلافة إسلامية مبدؤها الجزائر ثم المغرب الإسلامي كله نفتحه برفع راية الجهاد إن شاء الله، وامتداداً حتى أوربا باستعادة الأندلس والبلقان كما في عصور الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

واصل أمير الجماعة رسم تخوم أرض الخلافة الجديدة، صائغاً أُناسها الذين من طينة جديدة، قادرون بالصلوات الخمس وإسهال الفتاوى وهتك النساء والبطش بالمعاقين والعيش في مسارب الجبال على تحويل مجرى الزمن كي لا يستعاد كما كان.

يعدهم كان بشموس مضيئة وأناس أنقياء وعالم صحي خالٍ من الذنوب والأخطاء والمعاصي، عالم يزخر بالسلام والأمن حيث تتوقف عنده كل النفوس المتعبة ولا تلبث أن تلحقها أخرى وأخرى وأخرى من الشتات والمنافي في دول الجوار والعالم.

هذا المُنفلت من عِقال الحاضر، المنغمس في وحول الصحراء بثيابه الأفغانية يبتعث من جديد معولاً يضرب بإصرار المدنيّة والحضارة في دعواه للبداوة والتخلف.

هذا المتوهم بمعرفة الطريق إلى النعيم الأرضي المقيم في الماضي يضع حراباً إضافية في طريق الجزائر اليوم.

وأولئك المفصولون بمئات السنين عن عالم اليابسة حوله وقد باعدتهم عشرات السنين من التجويع والملاحقة والاضطهاد والتجارب الإشتراكية والشيوعية الفاشلة من عهد بن بلّا وبومدين وبن جديد وعلي كافي واليمين زروال عن نبض الزمن الحاضر، ينتمون إلى الخلية البدائية الأولى في نواتها ونيوترونها.

يصدّقون وعوده بالعيش في عالم الإشراق الصوفي حيث ينهدم العالم الحالي بماديته وفوضويته وظُلمه، وبناء أرض ميعاد جديدة على هيئة الله بدأً من شكل الرجال الذين ينبغي أن يرتدوا هذه الثياب الصحراوية الفضفاضة في مجاهل الغابات وعلى الصخور المسننة بالشواطئ والعباءات السوداء الملفوفة والبراقع للنساء في الصيف القائظ مروراً بجوهرهم الملائكي الذي لا يقع في الأخطاء ولا يلبي نداء الغرائز الجامحة، وصُنع عالم جديد يقوم على محض لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله التي تكفي وحدها لمواجهة أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الجرثومية، وتصلح وحدها لمكافحة الإيدز والسرطان، وقادرة وحدها على سبر الفضاء واكتشاف المجرات والغور في المحيط وهتك سر مثلث برمودا.

***

عطب بليغ أصاب الذات هناك، مذ كان الإنقسام بين شطري اليمن.

بدا كأن كل شيء خارج من فوات الأوان، وحكومة الشمال التي سيطرت بدأت سيرها الأعرج بمهادنة هؤلاء الناشرين للقتل ضد خصومها من الشيوعيين السابقين والحزب الإشتراكي الذي ورثه اليمن بعد الوحدة.

في يمن اللاّ قانون وألفعة النساء وسطوة الله وميراث القبيلة والخناجر المتمنطقة بالخصر واللحى المحناة والكحل حول العيون يظهر المنفى والاغتراب عن الأنسان والمرارة واسترخاص الأمان وحرمة الغريب.

أعادني كلام لُلوة بقسوة إلى الماضي، كلامها الذي لا رغبة لي بسماعه لولا أنها سلفتي وصديقتي.

كلامها عن الإسلام والعادات والتقاليد في مجتمعات يتواشج فيها الله مع البدو بعلاقات باتت تصيبني بالدوار.

سؤالها اليوم قرعني بقوة، سؤالها الذي لن يجد له أحدُ جواباً باليمن التي عانيت فيها ما لم أعانه في أفغانستان ولا في الطريق إلى بيشاور حيث لجأت إلى الأمم المتحدة طالبة مساعدتي في الرحيل إلى اليمن حيث لاذ ضاوي هناك بكهوف اليمن مُعيداً سيرة الجهاد ضد الحزب الشيوعي والكفار من زوار اليمن.

سؤالها يُعيد إنتاج نفسه اليوم في ذاكرتي.

الإسلام أولاً أم العادات ؟ البداوة أولاً أم الأنسان ؟ وأين يقع الخير والحب وقيمة المرأة ؟ وهل بالوسع تجاوز هذا الأرخبيل والعبور بنا إلى العالم العقلاني والمحترم ؟ هل بالوسع تأسيس حالة صحية من المدنيّة بالسعودية أو بالجزائر أو باليمن أو بأفغانستان  نفسها؟

آه يا لُلوة، لِمَ كان عليكِ أن تفعلي ؟ لِمَ كان عليكِ أن تعبري بي إلى الماضي حين شهدت على أخس عمليات القتل والملاحقة؟

لما لم تفلح معي ولا مرة دروس أناهيتا عندما اجتازت بنا وحدها مجاهل ممر خيبر الحزيزة حتى أوصلتنا جميعاً إلى بيشاور ؟ ولم لم يقدر سائح واحد ولا سائحة من أن يُعيدَني إلى صوابيتي برفض ذاك الذي كان يحدث؟

لوني، أونسال وديبورا، دينيكا وخيرارد.

آه، لم تفارقني حتى اللحظة ملامحهم، لم تستطيع السنوات أن تُلغي من عقلي لحظات الرعب والذعر التي عاشوها وعشتها معهم.

لوني الإنجليزية، مرسلة الشعر، ذهبياً كان وناعماً كخيوط عنكبوت، جدائله ملفوفة برفق تتضاءل حتى ملتقى وجنتيها، متوردة حتى الاحمرار رغم مسحة العذاب التي لاحت على صفحة وجهها النحيل، عيناها النباتيتان تبرقان في قلبي، ويداها اللتان نحُلتا بسبب الجوع والخوف لطالما مسحت بهما على وجه طلحة.

عيناها تقيسان بذعر غرابة المكان، تحدق في الكهف وجدارنه الملأى بخربشات الفحم والطبشور الأبيض لتفاصيل لم تفهمها.

سألتني يوماً وهي تستأذنني في شرب بعض الماء من الكوب الصدئ الوحيد الذي نشرب مه كلنا.

ـ ماذا تعني هذه الخربشات على جدران الكهف معصومة؟

حرت جواباً، ولاح ارتباكي بسرعة من تلعثمي الدائم بالرد عليها بإنجليزيتي التي تجد صعوبة في فهمها أحياناً.

أردت أن أقول لها الحقيقة، حقيقة هذه الخربشات التي تتصدر جدران الكهف الذي اسكنه مذ حللت باليمن.

أردت أن أقول لها إنها خربشات زوجي ورفاقه المجاهدين ضد العُزل من السياح وأعضاء البعثات الدبلوماسية والقنصلية ومتطوعي المنظمات الأنسانية التي جاءت لمساعدة اليمنيين بعد الحرب الأهلية وتوحد الشطرين.

أردت أن أقول لها إن هذه الخربشات تمثل أفكارهم التي تختزن أمثولات التاريخ الإسلامي وعصر الفتوحات وانتصارات الرسول والصحابة وفتح الأندلس ليطلقونها اليوم من قمم الجبال ومغارات الكهوف حيث ضوء المشاعل المنقوعة بالزيت والنفط وأصابع الفحم يخطون بها على الجدارن تواريخ اجتماعاتهم وأسماءهم الحركية وخطوط تحركاتهم.

أردت حقاً أن أخبرها إن خربشاتهم تلك تمثل صرخاتهم من هنا من جبال سُرات ومنار ودية وصابور والنبي شُعيب في وجه العالم لتُدوي في آخر القرن العشرين وحتى المائة، هادمة حصون الترسانات النووية والبوارج الحربية في مياه عدن والخليج وناطحات السحاب ومكوك الفضاء والأقمار الصناعية.

مقالات ذات علاقة

رواية ديجالون – الحلقة 12

المختار الجدال

رواية الحـرز (19)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية غياهب الحي المقابل – الفصل الخامس

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق