المقالة

بين الواقع وذاكرته القريبة

أحمد الشارف

إنّ الإنسان حين يرجع إلى الخلف بزمنه قاصدا تحليل حدثٍ ما لا يجلب معه مشاعره الآنية التي تحكمها أحداث وحروب دموية ومآلات بشعة بل إنه ولكي يُجيب على السؤال الذي اتخذه لنفسه مفتاحا يرجع به إلى زمن مضى ينبغي له بأن يرجع بذاته ومشاعره وتفكيره وآمالهِ وقتما كان الحدث ليقيس عليه وليسأل: هل كانت ثورة أم لا؟ هل كان صحيحا أننا ثرنا على نظام القذافي؟

انه لمن الخطأ  أن يرجع للحدث وفق حنينٍ ما راجع لردّ فعل من واقعه المُعاش أي بمعنى آخر أن يرجع بجسده وعقله ومشاعره “الآن”، إنه بهذا سيقول فوراً ودون تردد أنّ ذاك النظام كان أفضل من هذا الوضع الذي يُعتبر بالقياس في زمن النظام حينها  أسوأ، هو أسوأ فعلاً كحالة إنسانية نعيشها ونمر بها، ولكن بالتأكيد ليس حُكما صائبا أن نقوم بتجميل ومدح النظام السابق وندعوه بما لا يستحق لأن واقعنا لا يزال يتفاعل بناءً علي هذا الحدث السابق ولا نزال نحن كـ”ذوات” في حالة تشتت نفسيّ واجتماعيّ.

لذا و إن نحنُ رجعنا بمفاتيح الوقت الماضي وأغمضنا أعيننا لاتّضح لنا بما لا يدعو مجالا للشك عدة فوارق مهمة تجعلنا ننفي صفة المقارنة بتاتا. وهو أنه – وبجزمٍ واضح -إنّ هذا النظام طوال أربعين عاماً كان واضحاً للمرء تمام الوضوح بأنه نظام همجيّ دموي وفق مقاييس الأنظمة السياسية السائدة حينها “واقعيا ونظريا” بل انه إن قلنا مجازا أنّ الطبيعة الدكتاتورية للنظام هي مطلب ظرفي للبناء كما كانت ترى وتبرر اغلب دول العالم النامي حينها، نجد أنه وبالقياس لعصره السابق وموارده وقتها قد انحدر اجتماعيا وسياسيا وأوضّح هنا بمقصدي بالانحدار من واقع المفهوم العام للتنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي من الضروريّ أن نصل إليها  بالقياس لما تمتلكه هذه البلاد من موارد، ولم نكن نشهد أيّة ملامح للبناء والتطور خصوصا في السنوات الأخيرة ولا أي خطط مستقبلية إلا على الورق وتجاذبات سياسية هنا وهناك داخل السلطة السياسية، بل إننا كنا نسمّي هذه الدولة تهكّما (وبمناسبة التهكّم فلربما كنا أكثر شعبٍ تهكّم على خطب زعيمه ونسج النكت وقلناها في مخادعنا سرا بهمسٍ أشبهَ بالصمت) أعود لقولي بأننا كنا نسمي هذه الدولة بدولة القرار، إذ أننا كنا ندرك وخلال أربعين سنة بأننا سنصحو كل يوم لنقول ماذا يا تُرى سيأمر العقيد في جلسات المؤتمر القادمة؟.

ومن الفوارق المهمة التي لابد لنا أن نعيها هي أنه حين ثرنا علي هذا النظام ثرنا عليه من واقع رفضنا “لدولة العقيد” القائمة ذات السلطة المطلقة بغيّة استبدالها بدولة ذات نظام سياسي مغاير تماما، ولذا فالمقارنة هنا مجحفة وليست منطقية خصوصا بما يتعلق بالأمن والحاجيات الأساسية فنحن ثرنا علي نظام قائم بذاته له سلطة واحدة وهيئة سياسية تحكم ومُسخّرةٌ لها كل الموارد والإمكانيات أما اليوم فنحن لم نؤسس بعد نظاما سياسيا بدستوره وسلطاته الدائمة والذي من خلاله سنقارن به نظام القذافي السياسي الذي ثرنا عليه، فسياسة المقارنة علميا تقوم علي نظامين سياسين قائمين لهما طرق واضحة وثابتة في صناعة القرار ومؤسساتٌ أيّا كانت فهي مؤسّسات منضبطة وتعمل وفق رأي الهيئة السياسية التي تقود  وليس على نظام سياسي ومرحلة انتقالية وظيفتها الوحيدة والمفترضة أصلاً هي بناء النظام السياسي المأمول.

ومن الفوارق الأخرى التي سندركها من جرّاء عودتنا بعقولنا للزمن الذي “مضى” بأننا سنجد أن الشعب الليبي كان “شعورياً” يتفق أو بنسبة كبيرة منه طوال أربعين عاما على نكران هذا النظام ومقته والمضي إلى نظام أفضل، نظام سياسي يُصلح ما أفسده النظام القائم وقتها ويقودنا إلى التقدم المنشود، هذا هو الشعور العام والمنطقي، ولماذا المنطقي؟ لأني هنا لا أتحدّث عن مرحلة الربيع العربي كثورة لها تداخلاتها الدولية ذات المصالح المتضاربة بل أتحدّث عن حقبة كاملة اسمها “نظام العقيد” رأينا فيها من الذلّ الإنساني والتدهور والتوتر السياسي والاجتماعي ما لم تشهده دولة في الوطن العربي دونما توسّع لئلّا تخونني المقارنة  وأنا هنا أقارن بين دول قائمة تتشابه في الكثير من المعطيات.

أتحدّث عن حقبة اجتمع الشعب  واتفق فيها على رفضها خلال الأربعين سنة الماضية ولست هنا في خضم أن أُعدِّدَ المشاهد والحوادث التي تُؤكّد هذا الكلام فهي كثيرة والأهم من هذا أنها “واضحة” لمن أراد أن يرى ويُنشّط ذاكرته. إن هذا النظام ووفق المقاييس النظرية لحدوث الثورات ومعجِّلاتها وأسبابها هو باقتدار نظامٌ كان واجبَ السقوط والثورة عليه ولا ديمومة له. إننا في مرحلة أسوأ ونأمل بكل ما نملك أن نتخطّاها إلى الأفضل ولكن هذا لا يجعلنا أن نُجمّل ما لا يُجمّل بداعي تفريغ شحنة اليأس التي نمر بها، فإن المؤرّخين والباحثين بعد زمن سيقلّبون الأوراق والمشاهد وسيحكمون ولن تكون لهم نزعة اليوم ولا ضجر الأمس بل سينقلون ما تم وفق ما اقتضته ظروف المشهد وتعريفه وما أنتجه وبهذا فإنه لا يمكن لنا الآن أن نقارن بين نظام و”لا نظام” ونقول بأن زمن العقيد أفضل – بالطبع أفضل – وهل من بيده سلطة مطلقة لا يجلُبُ الأمن والأمان؟

___________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

البدو الجدد

منصور أبوشناف

المدينة الرمادية

يوسف القويري

الدستور والوصاية

علي عبدالله

اترك تعليق