صدر منذ سنوات بعيدة كتاب “صدمة المستقبل” للباحث الأميركي “ألفين توفلر” وضع فيه سيناريوهات القرن الواحد والعشرين، وما ستعانيه شعوبٌ كثيرة من تناقض مع الواقع الجديد وتخلف مهول وعجز عن اللحاق بالتحول السريع والتطور المذهل لكل شيء في حياة المستقبل وسُمي كل ذلك الارتباك والعجز بمرض “صدمة المستقبل”.
هذا المرض وهذه الصدمة ربما نكون نحن العرب والمسلمين أكثر المصابين بها الآن، وربما تكون أعراض مرضنا هذا الأكثر وضوحًا وعنفًا من بين شعوب العالم. فموقفنا من الراهن والمستقبل يبدو الأكثر عنفًا وتطرفًا، وارتباكنا الحضاري يبدو الأكثر تعقيدًا ومواقفنا من هذا المستقبل “الراهن” الأكثر عدمية ويأسًا، لكأننا نمارس حالة انتحار أو عملية “استشهاد حضاري” نستهدف بها قتل هذا المستقبل “الراهن” الذي يجتاحنا حضارة وجغرافيا!
قد يرى المتفائلون كل ذلك حالة “ولادة جديدة من رمادنا الحضاري” فمصطلح “النهضة” الذي أنتجته أوروبا لا يعني في لغات الأوروبيين إلا “الولادة من جديد” واستخدم مترجمونا كلمة النهضة كتعويذة وفأل حسن لتجنيبنا آلام الولادة من جديد والاكتفاء بنهوضنا من غفوتنا التاريخية نشطين متفائلين!
ننهض بعنف، ننتفض مختنقين مرعوبين من كابوس المستقبل الذي يداهمنا لنكتشف أن المستقبل الغول ليس كابوس نوم، بل طوفان واقع يحاصرنا من كل مكان ويمتد إلى ما شاء الله.
تحت آثار صدمة المستقبل ننكفئ على ذاتنا القديمة نحاول حمايتها من أي تغيير قد يطالها، نحاول الخروج بها من حصار المستقبل مكفنة بالأسود، نستعين بكل ميراثنا السحري وتعاويذنا من أجل أن نخرج بها سالمة غانمة كما كانت عند ولادتها، بكرًا عذراء ما مسسها تاريخ!
إننا نتمترس في ماضينا ولا نريد الخروج منه، ولا نحاول صد هذا المستقبل عن ذواتنا فقط بل نحلم ونحاول أن ننهي وجوده من العالم لنعود لنومنا هانئين مطمئنين دون تغير ولا تطور يلحقنا، ولذا تتسع معاركنا الانتحارية ضد المستقبل لتغطي كل الساحات والميادين.
يرى “ألفين توفلر” أن صدمة المستقبل تعطل قدرة الكائن البشري غير المؤهل أو المعد لهذا المستقبل على التكيف، تلك الخاصية التي مكَّنت الإنسان من البقاء على الرغم من كل الأوبئة والبراكين والفيروسات والتحولات الطبيعية والاجتماعية الكبرى، وجعلته قادرًا على تطوير أدواته للتكيف مع الجديد وجعله مفيدًا لبقائه بدل أن يكون مهددًا له، لذا فإن بإمكاننا القول وحسب “توفلر” إن صدمة المستقبل لا تقل خطورة عن تلك التحولات والثورات الطبيعية التي أدت إلى انقراض الديناصورات على الرغم من حجمها الهائل وقوتها الجبارة.
صدمة المستقبل تنتج لنا سلالات بشرية جديدة مختلفة عن تلك التي عرفناها، سلالات ثقافية معولمة لا ترتبط بجغرافيا ولا عرق ولا دين، يسميهم توفلر “البدو الجدد” وهم رجال أعمال وصناعة ومال وثقافة، ينتقلون من مدينة إلى أخرى ربما بشكل يومي، يحملون مكاتبهم ومعارفهم ومشاريعهم في “مخلاة” اتصالات ويتنقلون بها عبر مراعي الحضارات والموارد الطبيعية, بالضبط كما حمل رعاة العصر الحجري الحديث “مخاليهم” من مرعى لآخر.
إن “بدو المستقبل” يطردون “بدو العصر الحجري” من مراعي الأرض غير مكترثين ولا معترفين بطابوات “الوطن ولا القومية ولا الديانة”.
إن “البدو الجدد” يخوضون حربهم الشرسة بأعصاب باردة مستخدمين أسلحة لا عهدة “لبدو العصر الحجري” المصابين بمرض “صدمة المستقبل” بها.
ويخوض “بدو العصر الحجري” معارك بقائهم بتعاويذ الماضي السحرية وأدواته القديمة، إن “دون كيخوت” يجرد سيفه ليواجه طائرة بلا طيار، طالبًا الموت وليس الحياة.
معركة البدو هؤلاء بأشكالهم القديمة والجديدة، معارك صدمة المستقبل تقع على أرضنا وفي عقولنا وفي كهوف أرواحنا، وكي لا نساير سيناريو “ألفين توفلر” فإن بدو العصر الحجري ما زالوا قادرين على البقاء والمواجهة بطائرات وقنابل بشرية موجهة وما زالت الأكثر تطورًا. ما زالوا قادرين على تعطيل اندفاع البدو الجدد المذهل.
_____________________
عن بوابة الوسط