الثلاثاء, 22 أبريل 2025
قراءات

على هامش كتاب عملية إدريس لريتشارد سينغ (ج 3)

هشام الشلوي

كتاب (عملية إدريس) عن دار الفرجاني
كتاب (عملية إدريس) عن دار الفرجاني

صناعة ملك ومملكة

انتهيت منذ قليل من قراءة كتاب ريتشارد سينغ (عملية إدريس) وهو في حقيقته أكثر من كتاب؛

الأول: مذكرات والده بيتر سينغ الذي وصل على ليبيا عام 1943 وغادرها في أكتوبر 1947، ولو قُرئت هذه المذكرات منفردة، لما كانت على قدر كبير من الأهمية، لأن بيتر أحجم عن كتابة المحطات والمفاصل السياسية المهمة، وقد يكون سبب ذلك أن الإدارة العسكرية البريطانية لم تطلعه على خططها بالكامل، وهذا نلمسه أحيانا في تعليقات نجله ريتشارد، أو صدامات بيتر مع سياسات حاكم برقة العسكري، دنكان كومينغ، إضافة إلى أن السرية المفروضة قانونا والرقابة الذاتية التي فرضها بيتر على نفسه أثناء كتابة مذكراته، قد تكونان وراء ذلك.

الثاني: تعليقات ريتشارد سينغ على مذكرات والده والتي استمدها من الأرشيف البريطاني خاصة عن الفترة التي عمل فيها والده في ليبيا، وقراءة المذكرات والسير الذاتية للبريطانيين الذين عاصروا تلك الفترة. وهذه التعليقات من وجهة نظري هي التي أضفت على مذكرات بيتر سينغ بُعدا من الجدية والرصانة في التحليل ورسم الصورة كاملة.

الثالث: جزء من مذكرات السكرتير العام بالإنابة جيف كاسيلز، الذي جلبته وزارة الخارجية البريطانية بعد انتهاء فترة عمله، للإشراف على إدارة انتخابات فبراير عام 1952، لصالح مرشحي حكومة محمود المنتصر التي تلقت دعما بريطانيا سخيا، ضد مرشحي حزب المؤتمر الوطني بقيادة بشير السعداوي الذي تلقى هو الآخر دعما سخيا من حكومة الملك فارق في مصر. وانتهت نهاية مأساوية سواء على مستوى مستقبل السعداوي، أو على مستوى الحياة السياسية الحزبية في ليبيا.

ملاحظات على إخراج الكتاب

مما يؤسف له أن ناشر الكتاب لم يبذل جهدا معقولا في مراجعة وتدقيق مادة الكتاب، فالأخطاء المطبعية كثيرة ومقلقة، كما أن مترجم الكتاب لم يبذل أي جهد لتدقيق أسماء المناطق الواقعة في برقة، وهي موضوع مذكرات بيتر سينغ وتعليقات ريتشارد سينغ. وأظن أن الكتاب رغم أهميته البالغة يحتاج إلى طبعة جديدة مدققة.

إدريس أفضل خيار

في نهاية شهر مايو عام 1947، كتب السكرتير الأول، إريك دي كاندول: لقد أصبح من الضمني الواضح بشكل متزايد أن جماهير هذا الإقليم، وتحت سيطرة إيمانهم بالأمير، بأنهم لن يُقدِموا على أية خطوة أو لا يصرحون برأي في غيابه حتى يتحقق ذلك، فلن يكون ثمة تعاون حقيقي وشيك.

هنا مرة أخرى كان دي كاندول يؤكد تمسك الحاكم العسكري، دنكان كومينغ بإدريس كونه أفضل ضمان لبريطانيا لتحقيق أهدافها في برقة.

في القاهرة، كان إدريس ما يزال يلعب لعبة القط والفأر على أمل انتزاع المزيد من التنازلات، كان همه الرئيسي هو تحقيق القوة والمكانة والسلطة المعترف بها دوليا، لكنه كان سعيدا مع ذلك بالنظر إلى الحوافز المالية لاستيعاب المصالح البريطانية.

لم يكن إدريس يرى مانعا من استخدام أعضاء طاقمه للتعبير عن مجموعة واسعة من الآراء المتباينة، أحيانا استجابة لمد اتجاهات القومية العربية المختلفة في ذلك الوقت، ولكن في كثير من الأحيان على أمل زيادة الرهانات والإغراءات المقدمة؛ لم يبد أنه يريد المال لنفسه، بل عَدَّهُ وسيلة لدعم نفوذه وتوسيع نطاق رعايته.

علّق دنكان كومينغ على مناورات الأمير إدريس، بأنه “مساوم صعب قد يغادر الساحة تماما إذا مارسنا ضغطا كبيرا عليه”

سلط كومينغ الضوء على بوادر راديكالية جديدة في برقة حيث “الوضع أقل ملاءمة، وأصبحت حركة ليبيا الموحدة منظمة أكثر من قبل، لقد أصبحت سياستنا في ليبيا هدفا سهلا لكل من القوميين الليبيين والمناهضين للإمبريالية في جامعة الدول العربية”

وأشار إلى أن إدريس كان مصمما عل مطالبة بريطانيا برفع فاتورة نفقات منزله الرسمي إلى مبلغ 23800 جنيها إسترلينيا سنويا.

في نهاية يونيو 1947، كان كومينغ يشير مرة أخرى إلى مخاطر الفشل، حيث قال: إن إدريس يبحث عن عذر للتقاعد من الساحة، لأن ارتباطه الوثيق ببريطانيا العظمى ينطوي على قدر أكبر من الكراهية مما يمكن تحمله.

توطين أسرة إدريس الكبيرة

عندما سافر الأمير إدريس صيف عام 1947 إلى لبنان لأسباب صحية ظاهرا، وباطنا للتعبير عن خيبة أمله من بريطانيا، نقل كومينغ تركيزه إلى التسريع بعودة أسرة السنوسي الكبيرة المتغلغلة في برقة بأكملها، كان معظمهم يعيشون في المنفى في مصر والدول المجاورة منذ العشرينيات.

حُدّد أكثر من 100 من أبناء عمومة إدريس على استعداد للعودة بعضهم عاد بالفعل، لكن آخرين يتطلعون الآن للحصول على حصتهم من الإغراءات المعروضة قبل نفاد أموال إعادة التوطين الموعودة.

في يونيو، أفاد دي كاندول بوضع مخطط جديد لاستقرار السنوسيين في مزارع كبرى “على غرار مخطط سهل المرج ومزارع الهضبات، الجديدان، بهدف إقامة الأعضاء الرئيسيين لأسرة السنوسي برسوخ في الإقليم”

سيشمل المخطط الجديد، الذي تبلغ تكلفته حوالي 12000 جنيه إسترليني، سبع مزارع بمساحة إجمالية تبلغ 1012 هكتارا، مع قيام الإدارة بتزويدهم بالآلات والمزروعات والبذور والإشراف الفني. وكان بيتر سينغ واحدا من أكثر المنخرطين في متابعة السنوسيين المؤهلين للمنح والعلاوات لإعادة التوطين، كما كان على مسؤولي الإدارة العسكرية البريطانية مراقبة الذين واجهوا صعوبات مالية أو فشلوا في تطوير العقارات المخصصة لهم.

تحديات هاملتون جيب

في مارس 1944 حدد المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب لوزارة الخارجية، تحديات استقرار السنوسيين في مزارع، حيث كتب يقول: أحد المضاعفات الرئيسية لإمارة سنوسية هو العدد الكبير من أحفاد مؤسس الأسرة، سيدي محمد بن علي السنوسي، وجميعهم يتوقعون أن تُوفّر لهم منح الأراضي والمرتبات التقاعدية وما في حكمها، والذين لن يرضوا سيتآمرون على الأمير الحاكم والدولة الحامية، من الواضح أنه من غير المرغوب فيه فرض أرستقراطية ملكية جديدة على البلاد، وسيتعين اتخاذ تدابير فعّالة منذ البداية للسيطرة على الفروع المتدربة لآل السنوسي، ولكن بالنسبة للأمير نفسه، سيتعين إيجاد مصدر كبير للدخل، على الأقل لتلبية المطالب التي تفرضها عليه تقاليد الضيافة العربية.

امتصاص ثمار الخوخ

يعود ريتشارد سينغ إلى مذكرات والده بيتر في مسألة أدت في النهاية إلى نقله من برقة إلى إريتريا نهاية عام 1947، وسبب نقل بيتر سينغ هو عدم فهمه واعتراضه أمام اللواء دنكان كومينغ الذي أصبح مسؤول الشؤون المدنية، على منح العائلة السنوسية مزارع وبساتين ومنازل جيدة، بينما هم لا يعرفون شيئا عن الزراعة وغير مهتمين بها ويريدون فقط العيش في راحة مع زوجاتهم والحصول على راتب تقاعدي من الحكومة، حتى أن بيتر قال فيهم قولته الشهيرة “يريدون ببساطة الجلوس تحت أشجار الخوخ ويمتصون ثمارها طوال اليوم”

ويدل تلك الواقعة على تحدي بيتر لسياسات إدارته، التي كانت تحاول دفع الأمير إدريس إلى الاستقرار في برقة والتأثير عليه وعلى عائلته، أي تدجين الجميع ضمن مشروعها السياسي.

جمعية عمر المختار

كانت لدى بيتر سينغ بصفته السكرتير السياسي فكرة جيدة عما يُناقش في أندية جمعية عمر المختار، لأسباب أقلها أن العديد من موظفي الإدارة العسكرية البريطانية البارزين كانوا هم أنفسهم نشطين بين أعضاء النادي. وبدأ النقاش بين بعض المثقفين لصالح حل سياسي تحت رعاية جامعة الدول العربية.

ويسلط ريتشارد سينغ الضوء على مسألة مهمة تتعلق بأهمية برقة الاستراتيجية بالنسبة لبريطانيا، حيث أن العلاقات البريطانية المصرية المضطربة كانت في أزمة حقيقية، وفي هذه الحالة إذا اضطرت بريطانيا في أي وقت إلى التخلي عن منشآتها العسكرية في مصر، فإن تلك الموجودة في برقة يمكن أن توفر بديلا قيِّما للغاية، وهذا ما دفع الإدارة العسكرية البريطانية إلى الضغط لعقد صفقة حاسمة مع الأمير إدريس السنوسي.

شروط إدريس

شعر البريطانيون بخطر الدعاية المناهضة في برقة للإدارة العسكرية، وما قد يشكله ذلك من تداعيات، لذا أسرعوا في عقد صفقة مع الأمير إدريس، بهدف استجلابه إلى برقة، لأن الأمير عامل استقرار في الإقليم، وسيسهم وجوده في برقة في تخفيف الضغط على الإدارة العسكرية الحاكمة.

وأوحى الأمير إلى دونكان كومينغ مع نهاية شهر سبتمبر 1947، باستعداده للعودة إلى برقة، كان ذلك بعد موافقة الإدارة العسكرية على شروط الأمير وهي؛

أولا: إبعاد مسؤول أو اثنين من البريطانيين عن برقة، والذين لا يتمتعون بالخبرة في التعامل مع العرب وشؤونهم، أو غير المتعاطفين مع إدريس وعائلته السنوسية.

ثانيا: تعيين مجلس إداري بأعداد متساوية من الأعضاء البريطانيين والعرب.

ثالثا: الصيانة الفورية لقصر غراتسياني في بنغازي ليكون مقرا للحكومة بتكلفة 3500 جنيه إسترليني.

رابعا: إضافة إلى المقترحات التي أرسلها سيسل غريتوريكس، بالقائمة المدنية التي سيتم دفعها إلى إدريس مقابل أداء مهامه كأمير وإدارة أسرته في بنغازي.

في المجموع، بلغ العرض 1000 جنيه إسترليني شهريا لإدريس، و 655 جنيها إسترلينيا شهريا لموظفيه وللحالات الطارئة، أي أقل بقليل مما طلبه إدريس في البداية.

وطالب إدريس بحافز خاص، في 11 سبتمبر 1946، وهو تقديم سيارة فاخرة الطراز، نوع، هامبر بولمان، لتكون سيارة ليموزين رسمية.

بدأت ثمار الاتفاق تؤتي أكلها، إذ تخلّى العميد، ج . هوو عن منصبه في 9 أكتوبر ليصبح قائد منطقة في طرابلس، بينما تولى دي كاندول منصب القائم بأعمال رئيس الإدارة بدلًا منه.

كان متوقعا بعد ذلك وصول إدريس لإكمال الانتقال الرمزي إلى إدارة يمكن أن تقدّم نفسها على أنها مدنية وليست عسكرية، لكن الأمير تمكّن مرة أخرى من إيجاد أسباب للتأخير النهائي.

في 19 أكتوبر، بعد أن كان إدريس قد وُعد بالفعل بمبلغ 8000 جنيه إسترليني لتسوية ديونه المصرية، ذهب كومينغ لوداعه وليتمنى له رحلة سعيدة، متوقعا تماما أن يغادر إدريس في غضون الأيام القليلة المقبلة، لكن إدريس طلب مبلغ 2500 جنيه مبلغ إسترليني كدفعة مستقطعة من مبلغ 8000 جنيه إسترليني الموعودة.

في 25 أكتوبر، أرسل إدريس سكرتيره الخاص عمر شنيب، لكن إدريس نفسه لم يغادر القاهرة حتى 11 نوفمبر.

وصاية مصرية

ومما عجّل بعودة الأمير إدريس، هو التقرير الذي بعث به السكرتير السياسي بيتر سينغ عن اجتماع سري لأعضاء جمعية عمر المختار ومجموعات شبابية في منطقة رأس الهلال، شرقي درنة، حيث قرر المجتمعون إنشاء حركة قوية للمطالبة بالوصاية المصرية، من اللجنة الدولية الرباعية الممثلة لدول الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا. إلا أن دي كاندول في تقرير بعث به إلى دنكان كومينغ، وصف الاتجاه المؤيد لمصر بأنه خطوة تكتيكية إلى حد ما، تهدف إلى الضغط على الإدارة العسكرية البريطانية، وليس انطلاقا من رغبة حقيقية في التبعية لمصر.

وصول إدريس

في 11 نوفمبر عام 1947، خرج الأمير من القاهرة متوجها إلى بنغازي، احتجزته السلطات المصرية في مرسى مطروح أربعة أيام بدعوى إصدار تراخيص تصدير أمتعته الكثيرة، دونكان كومينغ فسر الخطوة المصرية، بأنها محاولة اللحظة الأخيرة لإقناع إدريس بإصدار بيان يلزمه بالتضحية من أجل استقلال ليبيا الكامل ووحدة برقة وطرابلس وفزان، وهذه حيلة لتعزيز دعوى مصر للوصاية على ليبيا، أمام اللجنة الرباعية الدولية المرتقبة.

وصل إدريس إلى بنغازي في 21 نوفمبر، وذكر السكرتير العام بالإنابة جيف كاسيلز، تعليقا على الترحيب الشعبي بالأمير، بأن نفوذ إدريس الشخصي مازال قويا في برقة، وأن الولاء له ما يزال القوة المهيمنة في سياسة برقة.

لاحظ السكرتير العام بالإنابة جيف كاسيلز، الذي خلف بيتر سينغ، في تقرير له، أن جمعية عمر المختار نشروا أفرادا في النقاط الهامة أثناء استقبال إدريس لقيادة الهتافات من أجل الاستقلال والجامعة العربية، وأن إدريس حرص على التوفيق بين الفصائل المختلفة من خلال تعزيز الجبهة المؤيدة له، وتجاهل وجود جمعية عمر المختار السياسي.

دفاع إدريس عن بريطانيا

في خطاباته، دافع إدريس عن دور بريطانيا، التي قال: إنها تدعم استقلال برقة وطرابلس في المؤتمرات الدولية، وأنها غادرت الهند بالفعل وقررت مغادرة فلسطين وإخلاء مصر، بينما تساعد سوريا ولبنان في الحصول على استقلالهما، لذلك نتمنى أن نكون أصدقاء لها، لقد أوفت سابقا بوعدها للسنوسيين في كل مؤتمر عُقد في الماضي.

يقول ريتشارد سينغ: إن الإدارة البريطانية المؤقتة التي سادت في برقة منذ وصول والده في يناير 1943 على وشك أن تصبح نظاما واقعيا للحكم غير المباشر الذي سيمكن إدريس من تولي سلطات تنفيذية، أصبحت الوظائف الأوسع للإدارة العسكرية البريطانية تميل الآن بأغلبية ساحقة نحو الهدف السياسي الوحيد المتمثل في تمكين إدريس وعائلته الكبيرة في الحكم، والذي كان يُنظر إليه على أنه ضروري لضمان تحالف وثيق وطويل الأمد.

لم تكن الصحافة المصرية وحدها هي التي تصف النظام الجديد بأنه “ملكية عميلة حتى المهندس الرئيسي لعملية الانتقال، دنكان كومينغ، اعترف بأنه كان يقدم ” شكل من أشكال حكم القرون الوسطى العربية معدّل بنصيحة بريطانية ” ومع ذلك بدا أن برقة تقدم وعدا جديدا في وقت كانت فيه حقائق ما بعد الحرب القاسية تجبر بريطانيا على إعادة التفاوض بشأن علاقاتها في كل مكان آخر من الشرق الأوسط. وكما كشف كومينغ لكاندول في يناير 1948 “من المؤكد أن حكومة جلالة الملك ستبقى في برقة بأي ثمن”

ومنذ وصول إدريس في نوفمبر 1947 إلى بنغازي، وُضعت برقة على الطريق، حيث كانت تأمل وزارة الخارجية البريطانية أن تكون “دولة عربية تحت وصاية بريطانية” وفي عام 1949 تحولت الإدارة العسكرية البريطانية إلى إدارة مدنية تحت القيادة الاسمية لإدريس السنوسي.

براعة إدريس

في يناير 1948 أبلغ دي كاندول، الجنرال دونكان كومينغ في القاهرة، بانطباعاته الإيجابية بشأن “صفات إدريس في الحكم والإدراك والحزم، وأنه في الأمور الشخصية والرسمية على حد سواء، فهو بارع في قيادة الصفقات الصعبة، وربما تعلم في تعامله مع الإيطاليين منذ أكثر من 20 عاما”

لكنه على الجانب السلبي “يجد صعوبة في قول: لا، ويسهل التعامل معه كثيرا” وأنه كان محاطا “بمغامرين سيئ السمعة يمارسون تأثيرا ضار عليه”

نهاية إدريس

يقول ريتشارد سينغ: إن العامل الثابت في الاستراتيجية البريطانية تجاه برقة حتى عام 1949 – وبعد عام 1950 ، تجاه ليبيا بأكملها – هو تركيزها الشديد على تعزيز سلطة رجل واحد، السيد محمد إدريس.

كان كبار المسؤولين البريطانيين في ذلك الوقت على دراية تامة بمخاطر هذا التركيز، كما اعترف روجر ألين من وزارة الخارجية الإفريقية في أغسطس 1951 “إنه ليس شخصية قيادية، فهو لا يريد حقا أن يكون ملكا، فهو رجل مسن في حالة صحية سيئة، وليس له وريث واضح. لكن الحقيقة الواضحة هي أنه لا يوجد شخص آخر يمكن أن يكون رئيسا للدولة المستقبلية، وبالتالي يجب أن نتعامل مع الأمير ونستفيد منه أيضا …. مستقبل ليبيا متوازن من وجهة نظري على حافة السكين”

أنشأ إدريس نظاما أبويا للغاية للحكم، مع تركيز كل السلطات في الديوان الملكي، حيث كان زعماء القبائل من برقة يسيطرون. مع بقاء الهيكل الفيدرالي المرهق للبلاد في مكانه حتى عام 1963 وهو الوقت الذي أصبح فيه النفط المصدر الجديد للثروة والمحسوبية.

بصفته ملكا حاكما يتمتع بسلطات واسعة، ربما كان أكثر عيوب إدريس وضوحا هو تفضيله للبقاء غير مرئي تقريبا، ومع ذلك فقد تمكن من لعب دور شخصية رمزية في دولة منقسمة وأحيانا حول بعده إلى استخدام جيد من خلال الوقوف فوق صراع السياسة المثير للانقسام، يمكنه التدخل عندما تتطلب المواقف ذلك. في أوائل الستينيات كتب مجيد خدوري أن “أعظم ما يملكه إدريس ربما يكون قدرته على تحقيق التوازن بين قوى الطرد المركزي المضطرب والشخصيات المتنافسة في بلد تمزقه الخلافات القبلية والمنازل المتنافسة التي تتنافس على القيادة فإن الحاجة إلى رجل معترف بهيبته ونزاهته عالميا أمر ضروري للحفاظ على النظام والاستقرار الداخلي”

أدى فشل إدريس النهائي في تأكيد القيادة القوية في الستينيات المضطربة وتعامل حكومته غير الفعال مع عائدات النفط الجديدة في البلاد إلى تفاقم التحديات التي واجهتها ليبيا حتى أنه بحلول عام 1969، على حد تعبير المؤرخة ليزا أندرسون، “كان النظام الملكي يُعتبر عالميا تقريبا مفارقة تاريخية”

كان إدريس خارج البلاد لتلقي العلاج الطبي في اليونان وتركيا عندما أدى انقلاب 1 سبتمبر 1969 إلى إنهاء نظامه المتعثر؛ بعد ذلك عاش في مصر – فترته الثانية في المنفى – حتى وفاته في مايو 1983، عن عمر يناهز 94 عاما.

مقالات ذات علاقة

رواية عبدالمُطّلب الهوني “مقبرة المياه” بين الواقعية وحقيقة الموت في المتوسِّط..

سالم الهنداوي

الشر الذي لا يغتفر: محاكمة الاستعمار في ليبيا

المشرف العام

قراءة في «أسطورة البحر»: لا سكاكين في طرابلس

المشرف العام

اترك تعليق