بقلم وعدسة: زياد جيوسي
هل تهاجر الأوطان أم يهاجر مَن فيها فيصبحون بلا وطن؟ هذا السؤال الذي طرأ على خاطري حين أعلمتني الشابة الرقيقة عبير ظاهر بالمعرض، ووجهت لي الدعوة، ليليها دعوة من الفنان الشاب سامي الشولي عبر اتصال هاتفي لدعوتي والتأكد أني في عمّان ولم أعد إلى رام الله بعد، ثم دعوة رقيقة من الفنانة أسيل عزايزة مدير جاليري إطلالة اللويبدة في عمَّان الذي استضاف المعرض، فوعدتهم بالحضور، وإن لم أستطع حضور الافتتاح بسبب التعب الصحي المفاجئ ، إلا أني كنت حريصاً على زيارة المعرض مرتين بعدها للتجوال في فضاءات المعرض كي أجد الإجابة على سؤالي.
المكان دوماً يسكنني ويرافقني، وواضح من خلال تجوالي في لوحات المعرض التي بلغت ما يقارب 33 لوحة، منها 27 لوحة زيتية وهي التي سأتناولها بتحليقي في فضاءها، أن المكان يسكن روح الفنان ويرافقه، ومن اللوحة الأولى حتى الأخيرة لا يملك المشاهد والمتأمل والقارئ للوحة إلا أن يحلق مع الفنان في فضاء المكان، ويشعر بإحساس الفنان وهو يعبر عن نزف روحه بأسلوب مختلف عن الكثير من المعارض التي تهتم بالمكان، ففي معظم اللوحات يقوم الفنان بتجريد المكان من أشكاله المعتادة، ليحيله إلى رمز يروي الحكاية، أو يمازجه بالإنسان؛ فالمكان بدون الإنسان يصبح مجرد كومة من الحجارة والبراري والتلال المهجورة والمتروكة لوحشية الطبيعة.
في خمس عشر لوحة نجد الفنان يجسد فكرة تمازج الإنسان بالمكان إلى درجة الانصهار، وسأختار منها أربع لوحات للحديث عنها لإعطاء الفكرة عن الأسلوب المتميز الذي لجأ إليه الفنان في صهر الإنسان في المكان.
في اللوحة الأولى، والتي رسم فيها الفنان عدداً كبيراً من البيوت بشكل متراكم كأنها تبدأ من سفح تلة ثم تصعد إلى قمتها، نجد أنه في قلب اللوحة وبؤرتها في المنتصف تماماً، وحين ندقق النظر نرى وجود فتاة تضم خاصرة شاب بيدها اليمنى، ونلاحظ التمازج بجسدي الشابين بالمكان، فعليهما نوافذ وأبواب، وإن لم يركز المشاهد باللوحة لن ينتبه لوجودهما، وربما لولا الشعر المنسدل كما ذيل الفرس للفتاة لظن المرء أن ما يراه بيوتاً من ضمن البيوت الموجودة، وهذا أيضاً نراه في تمازج جسدين على يمين ويسار اللوحة لرجل وامرأة، فلولا أكف الأيدي لكانت الأجساد بالكاد تنفصل عن البيوت، وهذه اللوحة أخذت البناء بأسلوب اشعاعي يبدأ من اسفل منتصف اللوحة حتى يصل للسماء الزرقاء الداكنة، والفنان استخدم ألوان مناسبة للمكان ترتبط بالارض واعتمد على انعكاس النور بشكل احترافي على يسار الأبنية بالنسبة للمشاهد.
في لوحة أخرى كانت الرمزية هي السائدة على اللوحة ذات الخلفية السوداء، والأبنية متراصة بجوار بعضها باللونين الأزرق بتدرجاته والأبيض، وكأن الأبنية على حافة الماء فتنعكس في الماء على شكل وجوه غاضبة ومتراصة، وفي هذه اللوحة كان التباين الضوئي يلعب دوراً كبيراً في منح اللوحة رمزية جميلة وكذلك اللون، فالأزرق لون السماء الذي يريح النظر والروح، وهو لون البحر الذي لا ينساه الفلسطيني، وهو يذكر دوماً البحر المغتصب.
اللوحة الثالثة أيضاً اعتمدت اللون الأزرق المتمازج مع اللون الرمادي وبعض من اللون الأبيض مع بعض التوشيحات بلون التراب، وفي هذه اللوحة نجد جسداً عارياً لامرأة على عرض اللوحة تقريباً بين الأبنية، لكنه يتمازج بالأبنية والمكان بطريقة جميلة لا تخفي الجسد وإن مازجته بالمكان بنسبة أقل من اللوحات الأخرى، وهي تحتضن الأبنية ومغمضة العينين بمسحات من الألم تسود قسمات الوجه، وهذا ما ميز اللوحة عن اللوحات الأخرى التي انصهرت بها الأجساد بالمكان حتى بالكاد تظهر بدون تدقيق، ومحيط اللوحة نجده باللون الرمادي وكأنه يرمز في لوحته للفلسطيني من خلال المرأة، ولفجر لم يظهر بعد من خلال اللون الرمادي وإن بانت تباشيره، وغياب اللون التقليدي للأبنية واستبداله بالأزرق رمزية لونية بلون السماء والبحر، وبالتالي حلم العودة.
اللوحة الرابعة اختلفت بالشكل وإن حافظت على الروح، فهنا امرأة تبرز كعملاق شامخ من بين المباني وتحتضنها بكل الحب كما تحتضن الأم طفلها، وهي تنظر إلى يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد بنظرة تحد وإصرار، وفي هذه اللوحة مازج الفنان الجسد مع الأبنية باللون الترابي، برمزية واضحة لارتباط الإنسان بالمكان إلى درجة الانصهار، والفنان أيضا لجأ الى رمزية اللون، فكان المحيط للوحة باللون الأصفر المتمازج مع لون الأرض كأنه يشير إلى أن شمس الحرية ستبزغ من قلب الأرض، وباقي اللوحات الأحد عشر لوحة التي مازجت الإنسان بالمكان تدور حول الفكرة نفسها وبأساليب مختلفة، ولو كانت مساحة المقال تسمح لكنت قد قرأت كل لوحة على حدة، فكل لوحة تستحق قراءة مستفيضة.
أسلوب آخر لجأ اليه الفنان في لوحتين حيث كانت الخيول هي المتمازجة بالمكان، و”الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة”، وهي رمز للقوة والإعداد ورمز لارتباط العربي فيها، وفي اللوحة الأولى نجد جواداً جامحاً منطلقاً من بين البيوت باتجاه مقدمة اللوحة، وهو متمازج باللون والأشكال بالبيوت، في لوحة مازجت اللون البني مع اللون الترابي والأصفر والأزرق، وهي ترمز للغضب القادم الذي سيتفجر كما البركان، بينما اللوحة الأخرى، والتي مازجت تدرجات البرتقالي مع الأصفر والبني مع لون التراب والأبيض، نرى أربعة خيول تنطلق بقوة بحيث شكلت ثلث اللوحة من الوسط، وهي تنطلق بعنفوان من بين البيوتات، وفي رمزية كبيرة نجد أن أحجام الخيول ضخمة مقارنة بالمكان والأبنية، في إشارة لثورة قادمة ستكون أكبر من كل التوقعات، فهي من الأرض ومن خيولها وجيلها القادم.
اللوحات الأخرى من عشر لوحات كانت لوحات تعبيرية رمزية تحمل الكثير من الرمزية فيها، وفي لوحتين منها كان استخدام البحر والسفينة، فاللوحة الأولى تظهر مقدمة سفينة كأنها تحمل بلداً بأكملها على ظهرها وتمخر عباب البحر، وهذا يعيد للذاكرة مشهد من أُجبروا على الهجرة في العام 1948 من فلسطين تحت قوة السلاح والمجازر التي ارتكبها الصهاينة، وأجبروا على ركوب السفن، وهنا رأيت رمزية تشير إلى أن من أُجبروا على الهجرة حملوا بلداتهم في قلوبهم وأرواحهم ولم ينسوها، لذا ما زلنا نرى أن الأجيال التي ولدت في الشتات ولم تكتحل عيونها بمشهد فلسطين/ الوطن لم تنسها أبداً، ما أفشل فكرة الصهيونية أن الكبار سيموتون والصغار سينسون، وفي اللوحة الثانية نجد سفينة ممزقة الأشرعة كأنها مهجورة في وسط اللوحة في بقعة حافلة بالنور شكلت بؤرة اللوحة، ومنها وبأسلوب حلزوني كانت الأطراف تزداد قتامة، كأن هذه السفينة ترمز للعودة التي ما زال الحلم قائماً بها وإن كانت مؤجلة حتى فجر حرية، وباقي اللوحات كل لوحة حفلت بالرموز المختلفة ووسائل التعبير، وكل لوحة تستحق وقفة خاصة.
الفنان سامي ليس موهبة فقط بل دراسة أكاديمية وخبرة جيدة ومشاركات عديدة في المعارض والتدريب للفن، ولذا أهمس له بضرورة الانتباه إلى تقنية استخدام اللون أكثر، ففي بعض اللوحات كان هناك سهو عن كرم اللون بحيث ظهر نسيج القماش في بعض زوايا اللوحات إضافة إلى بعض البثور اللونية، وهذه مسائل تحتاج لانتباه وتركيز أكثر، وإن كانت معظم اللوحات تخلو من هذه العيوب، والمعرض كان ناجحاً من ناحية عدد اللوحات، فهي تمنح الفرصة للمشاهد والوقت الكافي للتحليق والتأمل، إضافة إلى التنسيق الجيد ومنح المجال للمساحة البصرية بين اللوحات بدون تراكم.
وفي النهاية أرى أن الفنان حينما أطلق اسم “أوطان مهاجرة” على معرضه، أعتقد أنه قصد بذلك أن الوطن وأمكنته تهاجر مع روح الإنسان وتتنقل معه، وإن كان لا بد من ملاحظة تخص الشعب الفلسطيني في هذه الفكرة، فالإنسان الفلسطيني لم يهاجر، وإنما تم تهجيره بالقوة والعنف وممارسة كافة أشكال الضغوط، وبالتالي لم يهاجر طوعاً، وإنما هُجِّر قسراً، ولم يغادر الوطن طوعاً إلا من اضطروا لظروف اقتصادية أو اجتماعية للاغتراب ولم يهجروه نهائياً، ويعودون للوطن بين الفترة والأخرى.
الفنان سامي الشولي من بلدة الخضر/ بيت لحم، وهي كما كل منطقة بيت لحم أنموذج متميز للتعايش الفلسطيني بغض النظر عن الديانة، وهو مواليد 1980، ودرس الفن في جامعة القدس، وأنجز أكثر من معرض، منها معرض شخصي (أسود وأبيض) في بيت لحم العام 2009، وشارك في معرض تسامح الدولي في هولندا وفرنسا العام 2009، كما شارك في معارض في أوروبا وأمريكا وفي عدة معارض جماعية في الأردن، وشارك برسم جداريات في مدينه بيت لحم.
وفي نهاية المعرض كنت أشد على يد الفنان الشاب سامي الشولي وأهمس له: من القلب أهنئك على هذا الإبداع.. حقيقة حلقت روحي بجمال الفن ورمزية الفكرة وانصهار الروح مع الريشة..
(عمَّان 16/10/2016)