آمال عوّاد رضوان
أمسية تكريمية واحتفائيّة بالأديب الشاعر الحجّار حنّا إبراهيم حدّادين، أقامها نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطنيّ حيفا، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافيّ، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، تولّى عرافة الأمسية المحامي علي رافع، وكانت مداخلات حول منجزاته الأدبيّة لكلّ من: د. منير توما وسهيل عيساوي، ومداخلات حول سيرته وماضيه لكلّ من: حنّا أبو حنّا والشيخ نوراليقين بدران والفنان سليم ضو، وفي نهاية اللقاء شكر المحتفى به حنا إبراهيم الحضور والمنظمين والمتحدّثين، وقرأ نصّين شعريّين، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة معه.
مداخلة عريف الأمسية المحامي علي رافع بعنوان الرفيق حنا إبراهيم: عرفناه منذ نعومة أظفارنا، وعرفه أهلنا منذ نعومة أظفاره، تلك التي لم تكن ناعمة مُطلقًا، كما ورَد على لسانه في ذكريات شابّ لم يتغرّب ص11، فالرفيق حنا هكذا عرفناه وما نزال، مهما تحدّثنا عنه من جميل الخصال يبقى صحيحًا، لكنّه غير كاف في حقّ رجل مناضل قضى أكثر من سبعين عامًا في خدمة شعبه وقضيّته العادلة وحتى اليوم، فلم يملأ الدنيا ويشغل الناس فحسب، بل اشتغل مع كلّ الناس في أكثر الأعمال مشقة وصعوبة، في مقالع الحجارة والفلاحة وبناء جدران الطلياني، كما قاسى من البطالة التي استمرّت لسنوات عديدة، والأكثر من ذلك، فإنّه عانى من ظلم الأقربين له كما ورد في سيرته الذاتية في جزئيها، “يوميّات شاب لم يتغرّب، وفي “شجرة المعرفة” يتعرّف القارئ على هذه الشخصيّة التي لم تلقَ القبول والاحترام والعناية والاستماع والانتباه من أشدّ الناس قربًا له، ويمكن الاطّلاع على كل ذلك في هذا الجزء الثاني من السيرة الذاتيّة.
في هذا التقديم أتوقّف عند ذكر محطات في حياة حنّا إبراهيم، تاركًا لغيري من المشاركين تقييم أعماله الأدبيّة، وإتاحة الفرصة لباقي مشاركين ليدلي كلّ واحد منهم بدلوه بحقّ هذه الشخصيّة الشاغوريّة المتميّزة. *بتاريخ 1-11-2016 يتمّ حنّا إبراهيم التسعين من عمره المديد، وقد تعلّم في المدرسة الابتدائيّة في قرية البعنة والرامة المجاورة، أمّا الصفّ التاسع والعاشر فتعلّمهما في المدرسة الحكوميّة في عكا، وحصل على لقب الطالب الأوّل في المدرسة، لأنّه حلّ مسألة حسابيّة لم يستطع غيره من التلاميذ حلّها. ثمّ تعلّم في مدرسة الشرطة في بيت لحم، وبعد ذلك كان يُعلّم فيها، لكن بتاريخ 31-1-1948 أغلقت مدرسة الشرطة أبوابها، فرجع إلى الجليل منذ ذلك التاريخ، ليصبح شرطيًّا في مركز شرطة مجد الكروم القريبة من البعنة.
في البعنة كان أصدقاؤه؛ جمال موسى وأخوه نديم عديل حنا إبراهيم ورمزي الخوري، وهم الذين حرّضوه وشجّعوه على دخول الحزب الشيوعيّ، ليصبح عضوًا فيه منذ 1-4-1948. لكن بتاريخ 30-10-1948 تمّ احتلال الجليل، فكان يوزّع جريدة الاتحاد في البعنة ودير الأسد ومجد الكروم ونحف، واشتغل حجّارًا حتى بدأت مصادرة أراضي وقف دير الأسد التي كانت مقالع للحجارة سنة 1961، لإقامة مدينة كرمئيل التي أقيمت سنة 1964، واشتغل في بناء جدران الطيلياني.
منذ عام 1961 وحتى عام 1978 بقي عاطلًا عن العمل، فكان وضعه الاقتصاديّ صعبًا جدّا، وكان يشتهي العضّة في الرغيف حسب تعبيره، وحين يقرب ابنه ليقبله فيرفض ابنه، فيقول له حنا: أنا بحبّك واللي بحبّ بيبوس. فيجيبه ابنه: اللي بحب بيعطي عشرة (عشله)!
بقي عاطلا عن العمل لمدة 17 عامًا، حتى تمّ انتخابه لرئاسة المجلس المحلي بتاريخ 8-11-1978 لمدّة خمس سنوات في اجتماع حزبيّ في عرابة. ولكن تمّ فصله من الحزب الشيوعي سنة 1989، لأنه قال بعد زيارة قام بها للاتحاد السوفيتيّ عام 1984: إنّ العالم الاشتراكيّ سوف ينهار، لأنّه مبنيّ بلا حديد ولا إسمنت على حد تعبيره! وانهارت المنظومة الاشتراكيّة سنة 1992. عدّة نشاطات خاضها حنّا إبراهيم:
*معركة استبدال الهُويّات الحمراء المؤقتة بهُويّات زرقاء دائمة، بمساعدة المحامي حنا نقارة الذي تبرّع بهذه المهمّة، موكّلا عن أهالي البعنة ودير الأسد، وحظي بتقدير موقفه فتردّد النساء في الأعراس والأفراح: طارت طيّارة من فوق اللّيّة/ الله معاكو يا شيوعيّة/ حنّا نقّارة جاب الهُويّة/ غصبٍ عن رقبة بن غريونا. *معركة إدخال عمّال البعنة للعمل مع عمّال يهود، في الكسّارة التي أقيمت على أراضي دير الأسد والبعنة. *معركة العمل في المحاجر في وقف دير الأسد، وبعدها في أراضي ساجور، ومحاولة البوليس منع الحجّارين من العمل، بتهمة عدم الحصول على تصاريح أو رخص للمحاجر.
*معركة المواطنين العرب لإلغاء الحكم العسكريّ الجائر الظالم في الخروج والدخول إلى المناطق المغلقة عسكريًّا، والذي استُعمل كأداة لسلب الأرض وسحبها من تحت أرجل أصحابها الشرعيّين، والحصول على تصاريح للعمل في المدن المختلفة، وكان العامل يحصل على تصريح لأسبوع أو لشهر في أحسن الحالات.
*معركة عمّال قطف الزيتون (الفرّاطين) للحصول على أجر ملائم من أصحاب كروم الزيتون، ثمّ معركة أصحاب هذه الكروم ضدّ الحكومة التي حددت أسعار الزيت بمبالغ زهيدة، فمن وقفوا ضد أصحاب الأراضي بالأمس، وقفوا معهم اليوم، كما يقول حنا: أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب.
*المعركة الهامّة ضدّ مصادرة (5500) دونم من أراضي دير الأسد والبعنة ونحف من أصحابها العرب، لإقامة مدينة كرميئيل اليهوديّة عليها، والتي تمّ الإعداد والنشر لمصادرة الأراضي لغاية أقامتها سنة 1961، وتمّ تدشين المدينة سنة 1964، فكنت تسمع في الأعراس الأهازيج الشعبيّة التي كان عنوانها التمسك بالأرض وعدم التفريط بأيّ شبر منها خاصّة: نادى المنادى في الجليل/ أرض العروبة للعرب/ شاغورنا مالك مثيل/ وترابك أغلى من الذهب/ ما نرتضي عيش الذليل/ لو صرنا لجهنم حطب.
*مظاهرة الخبز والعمل في عكا (לחם עבודה). *بعد طرده من الحزب الشيوعيّ بسنوات التحق بالحزب الديموقراطيّ العربيّ، لكنّه تركه بعد أن اكتشف رئيس له حزب وليس حزب له رئيس (السيرة الذاتية). *إصدارات الأديب حنّا إبراهيم: المجموعات القصصية: أزهار بريّة عام 1973، وريحة الوطن 1978، والغربة في الوطن 1980، و هواجس يومية 1989. الروايات: أوجاع البلاد المقدسة 1997، وموسى الفلسطيني 1998، عصفور من المغرب 2002. السيرة الذاتية: ذكريات شابّ لم يتغرّب 1988، وشجرة المعرفة 199. الشعر: صوت من الشاغور 1983، نشيد للناس 1992، وصرخة في واد 2007، مجموعة شعرية معدّة للطبع (بقية البيدر).
مداخلة د. منير توما بعنوان/ حنّا إبراهيم أديبٌ وشاعرٌ شيوعيٌّ أصيل وعروبيٌّ إنسانيّ: قد يحتار من يريد أن يكتب عن الأستاذ المخضرم حنا إبراهيم الإبن العريق لقرية البعنة العامرة ِ بأهلها، ايكتبُ عن الشاعر أم القاصّ كاتب القصة ِ القصيرة والرواية، أم كاتب المقالة الصحفيّة الاجتماعيّة والسياسيّة، فهو بتعدّد مواهبهِ قد طرقَ هذه الأقانيم الأدبيّة الثلاثة بمهارةٍ وإتقان، حيث أجادَ في كتابتها جميعًا شكلًا ومضمونًا، فكان سيّدًا للكلمة الصريحة الصادقة، وباعثًا للفكرة النيّرة الجليّة، ومؤتمنًا على تاريخ عايشهُ بحلوهِ ومُرّهِ، وإن كان قد تذوّقَ مرارةَ الدنيا أكثر من حلاوتها، فحلاوةُ الدنيا لجاهلِها، ومرارة الدنيا لمن عقِلا وفقاً لقول الشاعر، ومع كلّ هذا كان قانعًا راضيًا بدربهِ ومسيرتهِ الكفاحيّة الكادحة، ومتمرّدًا على الظلم والقهر والطغيان على مرّ العقود من حياته ِ العريضةِ الطويلةِ، والملآى بالمنجزات والمآثر المثمرة على شتى الصُّعُد الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، مُتمنّين له موفور الصّحة والعمر المديد ليبقى نموذجاً ومثالًا للإنسان الوطني الحُرّ المعطاء لشعبهِ ومجتمعهِ وعالمهِ الإنسانيّ الواسع.
وعلى صعيد أدبيات الأستاذ حنا ابراهيم، فإنني بعد أن اطلعتُ على جانبٍ كبيرٍ من إنتاج وإبداع شيخ أدبائنا المُخَضرم، فقد ارتأيتُ أن أكتبَ وأتحدث اليوم عن شعره ِ بشكل خاصّ، من خلال مجموعتهِ الشعريّة التي تحمل عنوان “صرخة في واد”، وذلك انطلاقاً من كون الشعر زينة المجالس على حدّ قول الخليفة العباسيّ المأمون، وهذا لا يعني أنّ كتابات الأستاذ حنا ابراهيم النثريّة تقلُّ جودةً أو أهميّة عن قصائده، وإنّما لا يتّسع المجالُ هنا لتناول مؤلفاتهِ غير الشعريّة الغزيرة بالبحث والتحليل، تلك المؤلفات التي تتّسم أيضًا بالأناقة الفكريّة، والرشاقة الأسلوبيّة، والتعبير التصويريّ الثريّ الذي يلامس الحياة الشعبيّة الفلسطينيّة، ومشاعر معاناة الإنسان، وظروف المعيشة القاسية، وتماهيِهِ مع محبة الإنسان للوطن، وارتباطهِ وعشقهِ للأرض التي تعكسُ تعاطفَ وتآلفَ الكاتب مع المستضعفين والمُعذبين في الأرض، بكونهِ المثقّف الكادح الذي ناضل وتألّمَ وصبرَ رغم كلِّ المنغّصات والمظالم والمشاقّ التي واجهها وكابدها دون أن ينتابه يأس أو يعتريه ابتئاس، بل أنه كان وما يزال يسيرُ بإصرارٍ متبنّيًا الروحَ الشبابيّة بفكرهِ وأدبهِ وشعره وكيانه، متحدّيًا الزمن بعنفوان النسر المُحلِّق، وحكمة العصر المُدَقِّق.
وفي ضوء هذه المعاني، فقد كان َ أوّل ما استوقفني في مجموعة شاعرنا قصيدة “نشيد للشباب” (ص25)، من حيث كون هذه القصيدة تشكَّلُ عالمًا صغيرًا (microcosm ) وصفيًّا تراثيًّا لحياة الإنسان الفلسطينيّ القرويّ في الأرياف، يبرز فيها الشباب ركيزةَ هذا المجتمع وقوّة دفعه نحو الحياة الكريمة بحُرّيّةٍ وسؤددٍ، بعيداً عن الذُّل والهوان وامتهان الكرامات واستباحة الحقوق، فهذه القصيدة بمثابة لوحة صوتية (vocal painting ) رسمها الشاعر برفاهة حسّ، وجمال فكر، وصدق واقعٍ ملموس دون أن يبالغ أو يغالي في عرض الأمور، ممّا يدلُّ على تشبّثِه بجذوره وانتمائهِ المتمثّل في صدق لهجته، ونقاء فكرهِ، وصفاء عبارته. ونلمحُ في هذه القصيدة دلالاتِ الفرحِ والسرور في مناسبات القرية الفلسطينيّة، بكلّ ما فيها من جماليّةِ الأجواء والاندفاقِ التعبيري الجميل لأهلها وشعبها بعفويّة وتلقائية منسابة، كما يتجسّد في الأبيات التالية: وعرسًا يدبكُ الفتيانُ فيهِ/ تكاد رؤوسُهُم تصلُ السحابا/ وصفُّ السحجةِ المشهورُ يزهو/ الحداةُ بهِ فيصطخبُ اصطخابا/ وجوُّ القريةِ المملوءُ سحرًا/ يحيلُ المرَّ حلوًا مستطابا/ وتنورًا تجمّعت الصبايا/ قريبًا منهُ يغوينا الشبابا/ وشيخًا لا يفُكُّ الحرفَ يروي/ حكايا تملأ الصغرى كتابا/ فيا لكِ من ذكرياتٍ إن تداعت/ يبزُّ شريطهَا الخيلَ العِرابا/ أبيتَ اللعنَ إنْ أنشدتَ أكمِل/ولا تحتسب لذي عَذْلٍ حسابا
ويتابع شاعرنا إكمالَ الصورةِ، بإشارتهِ الى معاناةِ وفقر الإنسان العربيّ مادّيًّا، رغم الثروات التي جاد بها الخالق على الصحراء العربيّة من نفطٍ وثرواتٍ معدنيّة يتمتعُ بخيراتها أولئك الذين يُبذّرونها على الغواني، تمشّيًا مع رغباتهم وملذاتهم، مهملين شعبهم ومتناسين استصلاح ورعاية أرضهم نحو الخير العامّ، ولكنَّ شاعرنا يبقى مُعَلِّقاً الآمال على الشباب لإصلاح الأمور وتقويم الاعوجاج، فيقول في نهايات القصيدة: وينسى أنَّ للفقراء ربًّا/ دعاهُ القاعدونَ فما استجابا/ حباكَ الّلهُ صحراءَ استحالت/ رمالُ قفارِها تبرًا مذابا/ ليجري بين أثداء الغوالي/ ويتركُ أرضنا قفرًا يبابا/ فليتَ ربوعَها بقيت مراعي/ وليتَ رمالَهَا ظلّت سرابا/ ونعلمُ أنَّ بعدَ العُسر يسرا/ وأنَّ لكُلِّ مُعضِلةٍ جوابا/ ألا أنَّ الشبابَ رقاةُ سِحْرٍ/ تَفُكُّ القيدَ تختصرُ العذابا/ وتصنعُ في البلادِ سلامَ بيتٍ/ وللمحتلِّ تكتبُ الانسحابا/ وتوجِدُ للشريدِ حمىً وبيتًا/ وتمنحُ كَفَّهُ ظفرًا ونابا/ لكَ الدنيا فأوْرِثها الشبابا/ وحَمِّلْهُ الأمانةَ والكتابا
ومن هذا النمط من الكلام الهادف يقوم الشاعر بتحقيرهِ وتنديدهِ بإهمال المهملين والمتغافلين والمنتفعين من المتنفذين في بلاد العرب، وذلك بِنَفَس شعريّ أصيل، وصراحة تتجسّمُ فيها عاطفتهُ الصادقة وطاقاته الفكريّة والفنيّة، وحماسةٌ لافتة، وكلمةٌ مؤثرة ثنبثقُ منها إيحاءاتٌ وتداعياتٌ رحبةُ الآفاق.
إنَّ الأستاذ حنا ابراهيم هو شاعرٌ مُجيد تنقادُ له القوافي، وتتغلغلُ روحُ الشاعريةِ في كيانهِ، فهو الشاعرُ المُحلِّقُ المُبدعُ الجامعُ بين متانةِ اللغة وجزالةِ الأسلوب، تلمسُ روحَ الوطنيّةِ الحقّةِ الصّافية في شعره الوطنيّ وفي شعره الإنسانيّ عمومًا، وتطالعُ انتقادَهُ اللاذع في شعرهِ الإنتقادي وفي طيّات قصائدهِ، وتطربُ ويهتزُّ شعوركَ، وتشاركُهُ عواطفَهُ الجيّاشة مع قوافيهِ عندما يأتي على ذِكْرِ أمانيهِ بالسلام في هذا الوطن وهذه الديار، ففي قصيدة “ويكون سلامٌ .. أمنية” ص50) نلتقي مع حنا إبراهيم شاعرًا سلاميًّا (pacifist) يدعو للسلام بين شَعبَي هذه الديار بتحقيق حلّ الدولتين، لأنَّ في ذلك حقنًا للدماء، حيث ليس هناك من جدوى في الحرب والعداء والتشدّد، وأنَّ المصالحة وإنهاءَ الصراع هي النهايةُ المثلى التي يصبو اليها الحكماء والشرفاء، من منظور الشاعر الذي يعبِّر عن ذلك في الأبيات التالية من هذه القصيدة: ويكونُ أن يتصافحَ الغُرَماءُ/ ويكونُ أن يتصالحَ الأعداءُ/ ويكونُ أن يتعانقَ العلمان في/ القدس الشريف وتمحّي البغضاءُ/ ويرفرفُ العلَمُ الفلسطينيُّ في/ الأقصى ولا تتعكّرُ الأجواءُ/ ما ينفعُ البسطاءَ أن يتكاثرَ/ القتلى وأن تتناثر الأشلاءُ/ أو ينفعَ الشهداءَ أنَّ دماءَهم/ طُـلّتْ وأن التضحيات هباءُ/ هذا الدمُ المسفوكُ ليسَ بخمرةٍ/ بجمالها يتغزَّلُ النُدماءُ/ بلغ العداءُ القرنَ لم يثبتْ سوى/ أنَّ التشدّدَ خطةٌ حمقاءُ/ لو راجع َ المتشدّدونَ حسابَهُم/ لم يحسبوا أنَّ الدواءَ الداءُ/ ورأوْا الخسارةَ في السلامِ غنيمة/ منها القويُّ يفيدُ والضعفاءُ/ لا تُرجِعُ الوطنَ المضَيَّعَ خطبةٌ/ ناريّة وقصيدة عصماءُ/ طالَ الصراعُ ولن تكون َ نهايةٌ/ إلّا بأن يتصالحَ الغرماءُ/ ويكونُ أن يتصافحَ الأعداءُ/ ويكونَ من بعدِ القنوطِ رجاءُ/ ويكونَ.. لكن لن تكونَ نهايةٌ/ إلّا التي يسعى لها الشرفاءُ
من هنا نرى أنَّ الأستاذ حنا إبراهيم وطنيٌّ مثمرٌ في خدمةِ القضيّة الفلسطينيةِ والدفاعِ عنها، والدعوةِ الى سلام ٍ يضمنُ الحقوق، فهو يناضل بقلمهِ ولسانه في هذا السبيل، مُثابرًا كمناضلٍ شريفٍ مُميّز، في سبيل شعبهِ وأمّتهِ وحريّتها، ودفاعهِ عن القضايا المصيريّة، ومقاومتهِ للظلم والطغيان، وسعيهِ في انتهاجِ الحلول الإنسانيّةِ السلاميّة الواقعيّة التي تنبذُ التشدُّد والعداءَ المتواصلَ الذي لا طائلَ منه، سوى سفكِ الدماءِ وإهدارِ الطاقات. إنَّ شعر الأستاذ حنا إبراهيم يمتاز بمتانةِ العبارة على بساطةٍ وسلاسةٍ، وبرشاقةِ السياق على رصانةٍ وغزارةٍ واندفاق، فأُسلوبُهُ جليُّ العبارةِ، واضحٌ بعيدٌ عن التعقيد والمواربة، وهذه تشهدُ لصاحِبهَا بالقدرةِ على تناولِ الموضوعاتِ العامرةِ بالعاطفةِ والشعور، والوجدان الدال على صدق الأحاسيس ونُبلِ الأخلاق، والصفات وما يتمتّع به من حكمة، جرأة، وتعقُّل، وروحٍ نبيلةٍ وتصلّبٍ أمامَ الشدائدِ وتقلّباتِ الزمن. وفي دعوتهِ الى السلام والأمان والاطمئنان لشعبه وأمتهِ والإنسانية جمعاء، فإنّما يعكس شخصية إنسان تكمنُ في أعماقهِ فضائلُ المحبةِ والتسامح والوفاء التي تتجلّى في مشاعرهِ وغرامهِ الفريد ببلدتهِ البعنة الحبيبة الى قلبه، حيث يقول في قصيدة “الحب الأوّل” (ص45–46): محبوبتي يا بلدتي أيتها الأجملُ في البلدان/ يا بعنتي نفديكِ بالأرواح والأموالِ والولدان/ ويا أعزَّ موطنٍ خيرُ جليسٍ أنت في الزمان/ قريتُنا يا إخوتي لا تنجبُ الملوكَ والأبطال/ بضعةُ فلاحينَ لُصّت أرضُهم فأصبحوا عُمّالْ/ لكن لهم في الأمر عند الجدِّ ما يُقالْ/ يدرونَ أنَّ اللهَ لا يغيّرُ الأمورَ والأحوالْ/ ما لم تُغيّرها- كما هم أثبتوا- سواعدُ الّرجالْ/ بالعَزْمِ والحِكمةِ والصمودِ والنضالْ/ وهكذا أحببتُها ولمْ أزلْ أحبّها لروحها الشّمّاء/ لأنّها أرضعتِ الأجيالَ من تربتها السمراء/ وربّت النشءَ على الشموخِ والعِزّةِ والإباء/ فقال كلُّ الناس عنها البعنة الحمراء/ واليوم لا لونَ لها لكنها نقيّة كالماء .
وهكذا، وبعد هذه الجولة القصيرة في ثلاثةِ نماذجَ من شعر الأستاذ حنا إبراهيم في مجموعتهِ الشعريّة “صرخة في واد”، نكونُ قد بلورنا موجزًا تحليليًّا تقريبيًّا للموضوعات المطروقة في قصائد المجموعة، باعتبار أنَّ القصائد الثلاث الواردة في هذه الدراسة تعكس وتعبِّر عن مُجمل معاني المجموعة، كمحصّلة لِما اعتملَ في صدر شاعرنا وفكرِهِ في مواقف متعدّدة ومتنوّعة شملت الوطنيّات، والاجتماعيّات والإنسانيّات، والتي لا يخلو الكثير منها من الأبعاد السياسيّة المباشرة وغير المباشرة ذات الطابع الوطنيّ تارة ً، والأمميّ تارة ً أخرى، وبالتالي نكون قد لمسنا ما لهذا الشاعر من مواهبَ شعريّةٍ، أثبتت أنّه فيّاض القريحة، يتدفّقُ الشعرُ عندهُ بإحساسٍ وبتعبيرٍ صادقٍ عن وجدانه، مُفعمٍ بشعورٍ مستكنٍّ في أعماقٍ ضميرهِ، ويترجمُ عمّا يجيشُ في نفسهِ من حسٍّ صادقٍ أصيل، لا تصنّعَ فيه ولا تكلّفَ، فلا غرو أن يكون شاعرنا من أصدق المترجمينَ عن آلامِ شعبهِ وأحزانهِ بمختلف جزئياته، فللأستاذ الكبير وشاعرنا الأديب حنا أبراهيم أجمل التحيات، وأطيب التمنيات بالصحة والعافية وطول العمر، والمزيد من العطاء والتوفيق.
مداخلة سهيل عيساوي: مع أنَّ بعضَ النقّادِ المحليينَ تناولوا نتاجَ الكاتبِ مثلَ: نبيه القاسم، ود. حبيب بولس، ود. محمود غنايم، ومحمد حمز ة، ومحمد علي طه وغيرهُم، وقدّمَ بعضُ الطلابِ أطروحةَ الماجستيرَ حولَ شعرِهِ، وبعضِ طلابِنَا في المرحلةَ الثانويّةِ تناولوا نِتاجَهُ ضِمنَ وظائِفِ البجروتِ، لكنَّ الحقّ يقالُ، إنَّ الرجلَ لم ينلْ ما يستحقّ، فأدبُهُ مسيرةُ شعبٍ، يستحقّ دراساتٍ أعمقَ وأكثرَ جدّيّةٍ، وفي نظري، أدبه وأدب مَن مثلِهِ من الأدباءِ المَحليينَ الكبارَ يجبُ ادراجهُ ضمنَ مناهجَ التعليمِ، وعلى المُحاضرينَ العربِ الكبارِ في الجامعاتِ الإسرائيليّةِ والكليّاتِ توجيهِ طلابهم لدراسةِ الأدبِ المَحليّ، وعلى النقادِ الكبارِ تناوُل الأدبَ المَحليّ بسخاءٍ وبصورةٍ نقديّةٍ وأكاديميّةٍ. نعرفُ أنَّ أبوابَ الشهرةِ أقصرُ لو تناولوا أدبَ طه حسين، وأحمد شوقي، والبياتي ومظفر النوّاب، ويوسف إدريس، والطيّب صالح وأدونيس. إنَّ مثلَ هؤلاء الأعلامِ لهم ألفَ مبدعٍ وناقدٍ في العالمِ العربيِّ يكتبُ عنهم، حتى تصيرَ المادةُ عنهم فيها نوعًا من الاجترارِ، ولكن مَن لِمُبدعينا؟! أعرفُ أنَّ هنالك إشكاليّة مُعيّنة بكوننا أقليّة في هذهِ البلادِ، وكلّنا يعرفُ الآخرَ عن كثبٍ؛ يعرفُ شخصَهُ لا نتاجَهُ، وقد نخجلُ من توجيهِ الانتقاداتِ الموضوعيّةِ للآخرِ. حانَ الوقتُ لكسرِ هذهِ الحواجز بعدَ أن أصبحَ العالمُ قريةً صغيرةً، ويجبُ معالجة النصِّ بدون اعتباراتٍ شخصيّةٍ، لخدمةِ النصّ والقضيّةِ الأدبيّةِ والأدبِ المَحليِّ والأدبِ عامّةً، والأمرُ يعودُ بالفائدةِ على الكاتبِ نفسِهِ، وأيضًا لدينا مشكلةٌ تسويقٍ مثلَ هذه الدراساتِ محليًا .
كتابُ “صرخةٌ في وادٍ” يقعُ في 276 صفحةٍمن الحجمِ الكبيرِ، إصدار مطبعة النهضة، بطباعة أنيقة، وغلاف يحمل لوحة لواد خالٍ من الحياة، حرصَ الكاتبُ على ترجمةِ اسم الكتاب للغتين العبريّة والإنجليزيّة كعادته في مجموعاته الأخرى، ويُهدي المجموعةَ إلى جيلٍ مضى وجيلٍ لم يولدْ بعد، ونلاحظُ أنّ الإهداءَ يَنسجمُ مع اسمِ المجموعةِ، فالإهداءُ يقتصرُ على مجوعتينِ: أولى خاضتِ الحياةَ وانسحبت منها، والأخرى لم تجرّبْ حظَها بعد، وكاتبُنا لا يُحبّ المُقدّماتِ التي تتصدّرُ الكتابَ، ليتركَ القارئَ يتصفحُ قلبَ الكتابِ مباشرةً بلا مقدّماتٍ، فهو يكتبُ تحتَ عنوانِ إيضاحٍ، وفي مجموعاتٍ أخرى مثل “أزهارٌ بريّةٌ يكتبُ بدلًا مِن المقدّمةِ أو توضيح، فهو لا يسوقُ المجموعةَ، بل يوضحُ نقطةً ما للقارئِ مُلحّةً بنظرهِ، ففي توضيحِه يشيرُ إلى أنَّهُ لا يٌحاربُ من أجل عمر كما قالَ القائدُ الفذُّ خالد بن الوليد، وشعرُه يفيضُ بالمَحبّةِ لشعبِهِ ولشعوبِ الأرضِ عامّة، وهو يؤمنُ أنّ الصّراعَ بين قوى الشرِّ والخيرِ أزليّ، لكنَّه يَطمحُ بالتوازنِ والعدالةِ الاجتماعيّةِ، وأنَّ فكرة إصدارِ الكتابِ عندما تقدَّمَ بهِ العمرُ ليتجاوزَ الثمانين، فكّرَ في جميعِ القصائدِ ليزفَّها إلينا بحُلّةٍ جميلةٍ، لنجدَ أنّ لشعر حنّا إبراهيم نكهة خاصّةٍ، تمامًا مثلَ حديثِهِ اليوميّ. بينَ ثنايا الكلماتِ وتحتَ حافةِ اللسانِ كثيرٌ من الصراحةِ والحكمةِ والمباشرةِ، يحملُ أنينَ الشعبِ وصرخاتِ المجتمعِ، ورسائل مباشرة للحكامِ والشعوبِ، وصورٍ منَ الصداقةِ ووفاءِ العهدِ للأصدقاءِ الأحياءِ والراحلينَ، ومواقفَ من الدينِ والسياسةِ وقضايا الأمّةِ والإنسانيَّةِ. تحتوي المجموعةُ (95) قصيدة، معظمُها نُظّمتِ في مناسباتٍ مختلفةٍ، منها (37) قصيدة رثاءٍ لأصدقاء ومعارف، فشاعر قصائد المجموعةِ ثائرٌ على أوضاعِ العربِ والعروبةِ، والديوانُ حافلٌ بقضايا ومواقف يُسجّلُها لنا الشاعرُ. في هذه المقالةِ نستعرضُ فقط همومَ الشاعرِ المتعلقةِ بالعروبةِ وقضايا الأمّةِ، وخيبةِ أملِ الشاعرِ من مكانةِ وسياساتِ العربِ والمجتمعِ العربيِّ هنا، مع أنّنا نلمسُ بعضَ نسماتٍ من الأملِ تهبّ، خاصّةً فيما يتعلقُ بالقضيّةِ الفلسطينيّةِ، وضرورةِ انتصارِ الحقِّ على جحافلِ الباطلِ، مع ملاحظاتِنا العامّةِ على المجموعةِ، ففي قصيدة “إلى الأخ الفلسطينيّ خلف الخط الأحمر” ص10 يقولُ: وعرف أنّ الحاكمين بأمرهم/ وبأنّ حرفَ الضاد لا يكفي/ ليُعطي بعضهم نسب العرب/ الأدعياء لمجدك انتسبوا/ دسنا على الممتاز من ميراثنا/ فإذا بنا نختار ما يرضي العدا/ يا إخوتي أنا متعبٌ بعروبتي/ وبشمل أمّتنا أراه مُبدّدا/ وقيادة محتاجة لقيادة .
وفي قصيدةِ نشيدٌ لفلسطين ص14 يقول: فإنّ ليلي طويلٌ طولَ غربتنا/ وإنّ يومي أمر كله وغدي. وفي قصيدة دموع الرجال ص29 يقول بحسرة: أمّا العروبة وهي تحمد ربّها/ وتصوم في أمن وراحة بال/ لا شيءَ يُشغلها سوى الأعداد/ للأخرى وتلكم غاية الآمال/ أمّا كبار الحاكمين فحظهم/ بذخ آناء الليل والآصال.
وفي نفس القصيدة ص31 يدعو شاعرنا الى ثورة تكنس عروش الطغيان: ما لم تدكّ إلى الأساس عروشهم/ وقصور كلّ مغامر دجال/ سنمر في التاريخ طيفا عابرا/ ونعيش ما نحيا بربع خال.
وكأنّ أمنياتِ الشاعر أخذت تتحقق في ظلّ ربيع الشعوب العربيّة، وفي قصيدة “واحيانا على بكر أخينا” ص32: عرب يُقاتل بعضُهم بعضا ما/ هو في سبيل الله والاوطان ذلكم القتال/ والأرض تعرف أنّهم عربان/ ذو مال وآخر دون مال/ بل يعرف الشيطان/ كيف يُكدّس المال الحرام/ وكيف ينفق في المخازي والضلال.
إشارة إلى كثرة اقتتال العرب مع بعضهم البعض وتجويع الشعوب بحجّة أمن الوطن، وكيف تُصرَف أموال النفط على طاولات القمار والبارات، وأمعاء أطفال العرب خاوية، فيطلب الشاعر الموازنة بين الدين والعلم في قصيدة “كلام مرّ على سمع فيصل الحسيني والمتوكل طه” ص38 يقولُ معاتبا: وأنا الذي أدري بما في شعبنا/ من طاقة لا تستغل فتهمل/ أنا مثل غيري متعب بعروبتي/ يتمزّق الصف الذي لا يعقل/ يبنون جامعة فنبني جامعا/ لم لا نشيّد كليهما أنا أسأل .
ولا يدّخرُ الشاعرُ العتابَ بين الأشقاءِ، لأنَّ ظلمَ القريبِ أشدُّ قسوةً وعنفًا، وحال اليومِ هو ثمرةُ تنكّرٍ وإنكار وتجارةِ الآخرينَ بجراحِنا الثخينةِ، فيقول في قصيدة “استقبال السفير الأردنيّ ص47: ليس ظلم الغريب هو ثقيل/ ما رماني بدائه ما رماني/ بل كما قيل ظلم ذوي القربى/ رمونا الى كلاب الزمان .
وفي قصيدة “دمشق سلاما” ينتقدُ الشاعرُ الكسالى الذين يحلمون فقط بالجنة، وهو يُكثرُ من تكرارِ هذه الانتقاداتِ في هذه المجموعةِ فيقول ص59: مَن قال إنّ صرير أسنان الضعاف/ يُخيف أعداء المحبّة والسلام/ وبأنّ في الفردوس مُتّسعًا لحشد/ لا يُعدّ من كسالى والنيام/ الحالمين بألف جارية وقصر/ من رخام فوق نهر من مدام/ والمغمضين عن الأذى/ والناطقين عن الهوى.
وفي قصيدة “عتابا اخوي في مهرجان اول ايار 1985 ص83 يقول: أيّام العروبة من بسوس/ وعاشوراء تبعث من جديد/ فنهجم والغريب على أخينا/ ونفخرُ بالشهامةِ والعهودِ.
وفي قصيدة “بين الماضي والحاضر” ص89 يتصفّحُ تاريخنا، فلا يجدُ به سوى الغدرَ والخيانةَ والتقاعسَ فيقولُ: فلا أرى غيرَ ما يَندى الجبين له/ من فساد ومن عار سلاطين/ مَن يشترون بدولار وغانية/ يطبقون علينا حكم فرعون .
وعن شعبنا الاسطورة يقول في قصيدة (أوّل أيّار بعد يوم الأرض كفر ياسيف 1976 ص104 :هو كالناصري إن يصلبوه/ ظلّ حيّا مصلوبه والدفين/ اِصلبوه يقمْ بثالث يوم/ اِسجنوه وهل تخيف السجون.
وفي قصيدة نظمت بعد الفوز بانتخابات 1974 يقول منتشيًا بالنصر ص115: ويقول حين يرى عروش تزلزلت/ والكادحين بسدة الأمراء/ شرف وايم الحق إنّي كادح/ يمشي بظلّ الراية الحمراء.
وفي قصيدة “مساء الخير يا أمّنا الأرض” ص120 يعود وينتقد أحوالنا وحياة البذخ والترف عن الأمراء العرب يقول: وطويل العمر مشغول بإحياء الليالي الحمر/ والسكر على مضجع ربات الحجال/ والذي يشتار من دبسا من قفا النمس.
وفي قصيدة “صرخة ألم” ص133 ينتقد حالة الانشقاق عن الذات فيقول: ماذا أقول ولم يفرق صفنا/ إلّا زعيم قام أو متزعم.
وفي قصيدة “وداع القنصل المصري 1993” ص136 يمتدحه الشاعر وبين طيات المدح عتاب للحكام العرب، ويفطن إلى أنّ استقامة مصر من استقامة الأمّة، وعزّة مصر هي عزّة أمّة بأسرها، وأنّ الزعامة العربيّة تليق فقط بمصر أمّ الدنيا يقول: أيّها القنصل المكرّم عفوا/ إنّ للأمر عندنا أحكامه/ علمتنا مدارس الدهر ألّا نعبد المتسبدّ أو أصنامه/ فغدونا بعقدة منه حتى/ لو أتى الناس مُشهرًا إسلامه.
وفي قصيدة “دعوة للمتفرجين” عام 1959، يقول وفي ظلّ الحملة الشرسة ضدّ الشيوعيّة، وحينه كان شاعرنا من أركان الحزب البارزين: أترضى أن تكون مع النيام/ وجلدك من سياط الظلم دام/ وترضخ للإساءة مستنيما/ ولا تصحو لوخز من ملام.
وفي قصيدة “هل نحن شعب أم حمائل؟” يطرح العديد من الاسئلة الفكريّة المشروعة حول تشرذمنا غير المبرر، وينتقدُ التصنيفَ الطائفيّ والحزبيّ والحمائليّ والعائليّ بين أفراد الشعب الواحد، فيقول ص151: هل نحن شعب أم قبائل؟/ وهل ننتمي لجذور أعرق أمّة / أم نحن مازلنا خليط من حمائل؟/ أيحسّ أحمد أنّ حنا كفه/ وذراعه اليمنى وصاحبه المناضل؟ ويخلص ص153 إلى نتيجة: ما حكّ جسمَك غيرُ ظفرك/ أيّها العربيّ فاختصر الجدال.
وفي قصيدة عن المتاجرين بالوطينة عن تعمّد وسبق إصرار ص158 يستثني الذين يتاجرون بالوطن والوطنية بحسن نيّة وما أكثرهم، يهاجم الأحزاب وقادتها وأدعياء الوطنية، ويتساءل ص161: يقال عنا شيعة قبلية/ وسوى الحمولة ما لنا أنساب/ عشنا وشفنا كيف يغدر شعبه/ نذل وينعق في الخراب غراب .
وفي قصيدة “الذكرى الخمسين لاستشهاد الشاعر نوح إبراهيم” يبكي الشهيدَ، ويرفعُه إلى مرتبة ما بعد الرسولِ، ويقصُّ عليه ما آلت إليه أحوالنا من تخاذلٍ وضياعٍ، لكن حسبه أنّ السلام يلوحُ في الأفقِ القريبِ أو البعيدِ الجميلِ، وص189 يقولُ: خمسين عاما والسؤال انتقني/ أعراب أمريكا أم إسرائيلا / خمسين والأردن يلعق جرحه/ وضفاف دجلة تستغيث النيلا/ والعالم العربيّ أعني شطره/ المستضعف المستعبد المكبولا.
وفي قصيدة “رثاء الرفيق خليل خوري” من أبوسنان 1987 يقولُ مستذكرًا نائباتَ الدهرِ على شعبِنا: أم لشعب أخنت عليه الليالي/ وهموم الرحيل بعد الرحيل.
وفي قصيدة في رثاء الاستاذ عبد العزيز امون من دير الاسد يقول ص269: فلا فرق بين شعب وشعب/ وبين المسيحي والمسلم/ كرهت الطغاة وظلم الطغاة/ ومن يظلم الناس قد يظلم.
وفي قصيدة “رثاء الشاعر جورج نجيب خليل” المعروف، يدسُّ لوعتَهُ على حالِنا فيقولُ ص240: لقد غادرتنا والساح ملآى/ بأسباب التعاسة والشقاء/ وشعبك في المناطق والمنافي/ يعاني كلّ أنواع البلاء .
الشاعرَ حنّا إبراهيم أجادَ بإتقانٍ قصائدَ الرثاءِ التي خصّها لأصدقائِه ومعارفِه من سياسيّين وشعراء ورجال دين، هي عامّة قصائد قصيرة فيها الكثير من الحسرة واللوم على الفراقِ المبكّرِ، ويمتدحُ الشخصَ الذي يرثيهِ، ويذكرُ اسمَهُ وصفاتَهُ الحقيقيّةَ وقبساتٍ من تاريخِهِ وسيرتِهِ، فله معارفُ كثرٍ، ويخلصُ لأصدقائِهِ القدامى ورفاقِ الدربِ وإن تفرّقتِ السبلُ بهم، حتى نجدُهُ يرثي مختارَ البعنة خصمَهُ السياسيّ ويمتدحُ افضالَهُ، وتغلبُ الحكمةَ على أشعارِ الرثاء كأسلوب المتنبّي، والتسليم بالقدَرِ المحتومِ، فهو لا يستطيعُ أن لا يرحّبَ بالموتِ، لكنَّهُ يطلبُ أن يزورَ الأحبابَ بعد سنّ التسعين .
في مجموعةِ “صرخةٌ في واد” يكثرُ من استعمالِ الإشاراتِ الدينيةِ الإسلاميّة والمسيحيّة في قصائدهِ، لكنَّ الإشاراتِ الاسلاميةِ هي الغالبة والطاغية في جلِ قصائدهِ، وهذا الامرُ يدلّ على سعة ثقافتهِ، فالأمورَ الدينيةَ تهمّهُ من منظورِ ملاحظاتهِ ومواقفهِ من عدّة قضايا، وتخوّفهِ من التطرّفِ وقبولِ الناسِ على أساسٍ طائفيّ: الله، رسوله، جنات الخلد، معانقة الصليب مع الهلال، هابيل وقابيل، نسل أبي لهب، الأقصى، الحجاب، الصوم، الحجّ، الأمين، لم يولد ولم يلد، أنبياء، الرحمن، الصلاة، محراب، الأتقياء، طهر، لو يُبعث المصلوب، عيشة نسّاك، تلاميذ أصفياء الرسول، المسيح، طوبى، قدر القضاء، بابا نويل، الموت حقّ، يهوذا، بطرس، تحوّل الخمر، أمر الناس شورى، أحاديث، الله أكبر، يسبّحون الله، نبي كاذب، الرشد، الإنجيل، القدس الشريف، جامع، صالحين، اعتصمنا بحبل الله، جند الله، البعث، مثقال ذرة، أطيع الله ورسوله، إكليل، البابا، بنو الله، سدرة المنتهى، أوثان، كفر، سابع سما، يسوع، يوم الحساب، الناصريّ، النبي محمد، ناموس، كتاب، مؤمن.
قصائد المجموعةِ كتبت على فتراتٍ متباعدةٍ، أغلبُها كتبت إثرَ حدثٍ أو مناسبةٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو شخصيّةٍ، فحبّذا لو لم يحرص الشاعرُ على تحريكِ الكلماتِ في جميعِ القصائدِ لضمانِ سلامة اللغة عند القراءة، فبعضُ المقاطعِ في عددٍ من القصائدِ غابت والصورِ الشعريّة، بسببِ اعتمادِ الشاعرِ على الأسلوبِ المباشرِ كقولهِ في قصيدة الى الاخ الفلسطيني خلف الخطوط الحمراء ص10 “أحسنت حين ربطت ما بين النتيجة والسبب”، تكرارُ نفسِ المعنى في أكثرِ من شطرٍ واكثرِ من قصيدةٍ مع تبديلٍ طفيفٍ في بعضِ الكلماتِ في حديثِ الشاعرِ عن الظلمِ، ربما هذا الامرُ يشيرُ الى احساسِ الشاعرِ بالظلمِ على الصعيدِ الشخصيِّ وعلى صعيدِ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيّ، خاصّةً وأنّ الظلمَ مقدّمٌ من ذوي القربى ومن بين الأصابعِ أثناءَ المصافحةِ. يقولُ الشاعرَ في قصيدة الى عرابة مع قصب السبق 1978 ص87 : صلوا نارين: من خصم قوي/ وعلقم ظلم ذوي قربى عميل
وفي قصيدة مرة أخرى عن أكتوبر 1975 ص94: إنّ ظلم ذوي القربى كما ذكروا/ أشدّ وقعًا من الهندي إن ضربا. وفي قصيدة استراحة الشاعر ص166 يقول: وظلم ذوي القرابة والأعادي/ وطعن الغدر في ظهر وبطن. وفي قصيدة في حفل تكريم محمد شريف خليلية ص165 يقول: لتقول: هم أهلي وإن جاروا/ أحقّ الناس بالشكر الجزيل. وفي قصيدة في استقبال السفير الأردنيّ ص47 يقول: بل كما قيل ظلم ذوي قربى/ رمونا الى كلاب الزمان. وفي قصيدة صرخة ألم ص134يقول: من ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة/ حتى كان الخصم منه أرحم.
أمّا الملاحظةَ الأخيرةَ حولَ أمورِ العقيدةِ في قصيدة في رثاء الشاعر محمد شريف خليلية ص552 يقول: ما دام أمر البعث غير مؤكد/ فاحسب بعد الموت أن لا تلاقيا. الشاعرُ هنا يقطعُ أنّ أمرَ البعثِ غير مؤكّدٍ! والبيتُ غير موفقِ في سياقهِ، خاصّةً وأنّ القصيدةَ ليست فلسفيّة إنّما في رثاءِ صديقٍ، كذلك في موضعٍ آخرٍ، نفهمُ تحاملَ الشاعرِ على من يدّعي ويمتطي الدينَ كوسيلةٍ لتحقيقِ مآربهِ الشخصيّةِ، ومن يتستّرُ ويأخذُ من الدينِ أداءَ الفرائضِ دون أن يطبّقَ القيمَ الدينيةَ الساميةَ المرجوّةَ، كاحترامِ الغيرِ والصدقِ وصلةِ الرحمِ ووفاءِ العهودِ، لكن في بعض المواضع نلمسُ التعميمَ من الشاعِر كقولهِ في قصيدة في ذكرى الخمسين لاستشهاد نوح إبراهيم ص189: والدين ما ظلّ ابن مطلق لحية/ إلّا وأمسى لإله وكيلا. وفي قصيدة صرخة ألم ص133: ماذا أقول وكلّ مُطلق لحية/ في أمّتي سبحان وائل ملهم .
خلاصة: ديوانُ صرخةُ في وادٍ مجموعةُ شعريةُ تستحقُ الوقوفَ طويلًا للدراسةِ والتحليلِ، والتأملِ في سيرةِ شاعرٍ مجدٍّ وجادٍ يعشقُ الشعرَ والحرفَ، ويطوّعُهُ للروايةِ تارةً وتارةً للشعرِ وللقصةِ القصيرةِ، حتى احتارَ اهلُ النقدِ أين يصنفونَهُ! لقد أتقنَ صاحبُنا كلَّ صنوفِ الأدبِ بجدارةٍ، لانَّهُ يكتبُ من القلبِ الى القلبِ، ومن نبضِ الشارعِ والحياةِ التي عاركَها طولًا وعاركَتهُ طويلًا المجموعةُ تحملُ في طياتِها الكثيَر من تجربةِ الحياةِ العريضةِ والعميقةِ، وحكمةِ جيلٍ عاصرِ الأحداثِ الجسامِ، شاعرُنا يأبى إلّا أن يترجمَ لنا خلجاتِ قلبهِ، ويشاطرُنا أفكارَهُ وفلسفتَهُ ومواقفَهُ السياسيّةَ والاجتماعيّةَ والشخصيّةَ والأدبيّةَ، أحزانَهُ وأحزانَ الأمّةِ. من خلالِ هذه المقالة استعرضنا موضوعًا واحدًا وهو حنا ابراهيم شاعرٌ مثقلٌ بعروبتِهِ، الشاعرُ يصرخُ في وادٍ، ظنَّ ان صرختَهُ في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، لكنَّ صرختَهُ سمعَها من به صمم، هي لم تكن صرختُهُ وحدهُ، بل صرخةُ والمُ مجتمعٍ وشعبٍ يشاطرهُ همومَهُ وآهاتِهِ ومحطاتٍ في مسيرةِ شعبٍ .