إرم نيوز
محمد بن لامين فنان في الأربعينات من العمر، ممتلئ الجسم مع مسحة رمادية تكدر وجهه البهي، فيه ميل للانبهار لا يعرف الكلل. محمد بن لامين، الذي عرف سجون القذافي، لم يستسلم لويلات العالم، وويلات ليبيا على وجه الخصوص، فهو يبدو مستجوباً الحياة بلا هوادة، بعين ساهرة لا تهدأ. من حوله، كل شيء فوضى . في سقيفة منزله في ميناء مصراتة، عاصمة ليبيا إلى الغرب، الواقعة بالقرب من الكثبان التي تجاور الشاطئ، محمد بن لامين جعل كل ما صنع حياته يتراكم من حوله. شاحنة بيك اب تغطيها الأتربة، وصناديق متراكمة، وملابس الغوص، كان محمد بن لامين غواصاً عظيماً، وبطبيعة الحال لوحاته وتماثيله ونصبه التذكارية وفنه المتراكم فوق ذكرياته.
أحلام خيميائية
محمد بن لامين فنان ليبي بأحلام خيميائية، من الموت يصنع الحياة، يفكك عظام أدوات الحرب ليحولها إلى شظايا السلام. يقول بن لامين “أريد أن أُبيّن وأثبت أننا ما زلنا هنا. ونحن هنا لأننا نغير. ما خسرناه نحوله إلى رمز للأمل”.
على مدى فترة طويلة كان محمد بن لامين يجمع وهو مُنحن آثار خطوط الجبهة لانتفاضة التمرد ضد للقذافي في العام 2011. لقد جمع أغمدة الرصاص والقنابل اليدوية والقذائف، والـ AK-47 بعد أن انتهى مفعولها. ومن هذه الأشياء المتناثرة شكل صوراً وأشكالاً واهنة لراقصين وكائنات مبتهجة ومجسمات ترنو إلى السماء وكائنات ممسوخة تستعرض دلائل عودتها للحياة. مخبأ بن محمد لامين معرض من أجسام مكسورة معرّض للشمس في ليبيا.
شهية حياة عنيدة
محمد بن لامين يعشق كلمة “مقاومة”، مثلما يعشق كلمة “الأمل” التي غالباً ما تأتي على لسانه وهو يقول “منح الأمل لليبيين”. إنه يكرر ما يمكن أن يسمى بالالتماس الصادق، لا سخف ولا سذاجة مفرطة، بل شهية حياة عنيدة عندما يكون كل شيء من حوله يحمل اليأس والموت.
الخيبة
بعد”تحرير” العام 2011، سرعان ما أصيبت ليبيا ما بعد القذافي بخيبة الأمل: لقد نسف التحول الديمقراطي، وتفتت البلاد إلى إقطاعيات متناحرة، والحرب الأهلية في صيف العام 2014 ، وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية التي جعلت من سرت، الواقعة على مسافة 225 كيلومتراً من مصراتة شرقاً، معقلها في شمال أفريقيا.
الخيميائي الصامت
الخيميائي بن لامين يغوص في الصمت فجأة في بعض الأحيان، فتختفي كلماته. ففي هدوء يفكر في شبابه الثائر. ولد في العام 1969، تاريخ الانقلاب في طرابلس الذي قاده الضابط الشاب الناصري، معمر القذافي. يقول مبتسما “عمري بعمر نظام القذافي”.
النظام وفن السحر
كان هذا عمر بن لامين حتى ثورة العام 2011 . ففي سنوات القذافي، لم تكن المقاومة أمراً بديهياً. فالنظام الذي كان عنيداً كان يتقن أيضاً فن “السحر” لحشد المواهب الناشئة. وكان محمد بن لامين واحداً منهم. فهوعصامي، ولهذا لم يكن يسعه أن يعرف ما الذي تعنيه “مدرسة للفنون الجميلة”.
عصامي
كان لفترة طويلة فنياً يعمل على قاطرة جرار في مصراتة. لكنه يقول “قرأت جان بول سارتر في ضوضاء الماكنات”. ولكن عندما بدأ يمارس الرسم، لم ينتبه إليه أحد ولم يلاحظه أحد. وقد دعي لتقديم عرض لفنه في القاهرة ثم في تشانغتشون (الصين). وذات يوم استدعاه وزير الثقافة، واقترح عليه أن يزين إحدى إقامات “القائد” في سبها في الجنوب. لكن بن محمد لامين اعتذر”لست فناناً سياسياً”، واعترض، وهنا بدأت المشاكل.
سنوات السجن
ثم جاءت القفزة الكبرى. ففيما كانت ساحات الثورة تلهب بنغازي تم إيقاف محمد لامين مع أخيه في فبراير ـ شباط العام 2011، في معرضه في مصراتة. وكانت التهمة الموجهة إليه التحريض على “الفيسبوك”، وهكذا احتجز 6 أشهر في سجن بوسليم سيئ السمعة في طرابلس. هناك في زنزانته، أمسك وعاء الأكل المصنوع من الألومنيوم، وانتزع منه قطعة حادة وبدأ يكشط جدران السجن ويرسم؛ صور سجناء بعيون مشرعة وهم يمسكون القضبان؛ أي “مقاومته” هو، وتعرض للتعذيب، لكنه امتنع عن إعطاء تفاصيل من قبيل الاحتشام.
الحاجة إلى المزيد من المعدن
ويقول محمد بن لامين في النهاية: “النحت انطلاقاً من مخلفات الحرب يعني تحويل شيء مصمّم للقتل إلى شيء جميل، إلى رمز للمحبة والرقص والإنسانية”. هكذا يقول، ولكن الأهم هو نظرته التي لا تخلو من عنصر المفاجأة والانبهار والحيرة والقلق. فلهذا الضيق قصة لا تنتهي: خيميائي مصراتة يعرف أنه سيحتاج إلى المزيد من المعدن. فالأمر أشبه بواجب “الأمل”. ولا مناص له من ذلك.