آمال عوّاد رضوان
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ برعايةِ المجلس المِليِّ الأرثوذكسيِّ الوطنيِّ في حيفا ندوةً، للباحثِ النصراويّ خالد عوض بعنوان: الحنين إلى الماضي، والسّجلّ المُصوّر للمدينةِ الفلسطينيّةِ، وذلك بتاريخ 25-2-2016 في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، وسط حضورٍ من المهتمّين بشأن تاريخ بلادنا، وما تأتّى عليها تاريخيّا وجغرافيّا ووطنيّا من احتلال وتزوير حقائق، تحت شعار- أرض بلا شعب؟! شارك بمحاضرةٍ قيّمةٍ الباحث التاريخيّ د. جوني منصور، حولَ أهمّيّةِ الصور التاريخيّةِ المُوثقة لوجود الوطن والشعب، ثمّ كان عرضٌ شرائحيٌّ لصور فوتوغرافيّةٍ تاريخيّةٍ وأثريّةٍ، تدحض المقولة: فلسطين أرضٌ بلا شعب، مع شرح وتوضيح الباحث خالد عوض، وبعدَ العرض كانت مُداخلاتٌ للحضور، ونداءٌ صارخٌ بأهمّيّة تجميع الصور الفوتوغرافيّة أو أيّة قصاصات من مجلات وجرائد قديمة، أو اي أثر قد يخدم حضارتنا وتارخنا كشعب وكوطن، وعدم الاستهانة بموضوع الصور والوثائق، وفي نهاية اللقاء تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة د. جوني منصور: عمليًّا، ما هو التصويرُ الفوتوغرافيّ؟[1] إنّهُ حِفظُ الماضي بكلِّ تفاصيلِهِ وأحداثِهِ الّتي جرَتْ في لحظةٍ ما، سواءً كانَ فرديًّا أم جماعيًّا. وقالَ أحدُهُم: إنّ الصورةَ الفوتوغرافيّة هي “مرآةُ ذاتِ ذاكرة”، وآخرُ: “حفظُ الحاضرِ للأبد”. ويُمكنُنا رؤيةُ أشخاصٍ وشعوبٍ ومواقعَ بعيدةٍ جدًّا بلحظةٍ واقعة الآن. *الصورةُ عندَ التقاطِها تُشكّلُ علاقةً ثنائيّةً بينَ المُصوّرِ والموضوع، لكن بعد ذلك، تبني بُعدًا آخرَ، وهو علاقةٌ ثلاثيّةُ الأبعادِ: الصورةُ وموْضوعُها والمَشاهدُ، ويَخرجُ المُصوّرُ مِن دائرةِ اللعبةِ التصويريّة. *أيضًا: المُصوِّر حدّدَ لنا موْضوعاتٍ في الصورةِ، ونحن نُحدّق بها ونُفسِّرُها، بمعنًى آخرَ، أنّ للمُصوّرِ سُلطةٌ على بَصَرِنا، فالمصوّرُ هو الذي يُقرّرُ ما يَجبُ أن نراهُ.
*ما هي الصورةُ إذن؟ لا أعني الورقَ المطبوعَ، إنّما هي ناقلةٌ للمَعنى، وهي وثيقةٌ مَرئيّةٌ لدراسةِ التاريخ. *أنا أتعاملُ معَ الصّورةِ كما أتعاملُ معَ الوثائقِ التّاريخيّةِ، آخِذًا بعيْنِ الاعتبارِ الظّرفَ الزّمانيّ والسّياقَ التاريخيّ، وأيضًا آخِذًا بعين الاعتبارِ تلكَ الاعتباراتِ الأيديولوجيّةِ الّتي أثّرَتْ على المُصوّر. *سنجدُ أنّ الصورةَ الفوتوغرافيّةَ مِثلَها مِثلَ الوثائقِ التاريخيّةِ الّتي وضَعَها الأوروبيّونَ بخصوصِ بلادِنا. *باعتقادي، أنّ صورَ الأمكنةِ والأشخاصِ والعائلاتِ والجَماعاتِ تُعيدُ تَشكيلَ الوعيِ المَعرفيِّ والانتمائيِّ، والذّاكرةَ الفرديّةَ والجمْعيّة، (إذا كانت الصّوَرُ في حالةِ فلسطين مثلًا).
*بدأ التّصويرُ الفوتوغرافيُّ في أوروبّا عام 1839، وانطلقَ مُصوّرونَ يُصوّرونَ فلسطين. لماذا هذا الاهتمامُ بفلسطين؟ إنّها الدّراساتُ الدّينيّةُ والكتابيّةُ على وجهِ التّحديدِ، وتَطلُّعاتِ أوروبّا الاستعماريّةَ، لاكتشافِ خبايا وخفايا الشّرق، ونقلَ الأماكنِ المُقدّسةِ إلى المعرفةِ الأوروبيّةِ، والاهتمامُ بالآثارِ كانَ عاملًا مُهِمًّا في فلسطين ومصرَ أوّلًا.
*كانتْ صورةُ المَشرق (الليفانت) أو (الأورْيَنت) في القرن الـ 19 مرتبطةً بالرّؤيةِ الرومانسيّةِ لمنطقةِ “ألفِ ليلة وليلة”، للسّحرِ والرّغباتِ الجسديّةِ الدّفينةِ والمَكشوفةِ، فجاءتْ رسوماتُ ولوحاتُ فنّانينَ رحّالةٍ أوروبيّينَ لتُثيرَ مُخيّلةَ الأوروبيّين حولَ الشرقِ كمَوقعٍ جاذبٍ، أشهرُهم دولكروا وروبرتس. ومِن بينِ الصّورِ الأولى الّتي التُقِطتْ في الشّرقِ، لنساءٍ يرتدين أزياءَ مُتنوّعةً. لكن في فلسطين حصريًّا، ارتبطَ التّصويرُ بالأماكنِ المُقدّسةِ مُرافقةً معَ المُبشّرينَ الذينَ وَصلوا في القرن الـ 19. وأحدُ المُصوّرينَ المِهنيّين هو دوايت المندورف الأمريكيّ، وهدفُ زيارتِهِ التّصويرُ لكتاب أسماهُ: “حربٌ صليبيّةٌ بالكاميرا على البلادِ المُقدّسة”، وذلك في 1901. قامَ بتصويرِ مئة صورة لمواقعَ دينيّةٍ مُرتبطةٍ بالإنجيل. لكن سبقهُ مُصوّرونَ أوروبّيّون وأمريكيّون كثفوا مِن تصويرِهم لفلسطين. فحسب أحد الإحصاءات، فإنّ 250 مُصوّرًا قاموا بتصوير فلسطين بين 1839 و 1885.
*مَن هم المصوّرون؟ يُصنّفهم الباحث د. عصام نصار على النحو التالي: *المُصوّرون الزائرون، *المُصوّرون الأجانب المُقيمون في المنطقة. *المُصوّرون المَحلّيّون. أمّا بالنسبة للمُصوّرين الزائرين فهدفهم التقاط صورٍ لأغراض النشر في كتب مَثلًا، أو لمعارضَ، أو لعملٍ تبشيريٍّ قامت به جمعيّة تبشيريّة أمريكيّة أو أوروبّيّة. أمّا الأجانبُ المُقيمون في استنبول وبيروت والقاهرة والقدس، فكانت لهم استوديوهاتٌ ومختبراتُ تحميض، ثمّ انتشروا في مدن أخرى، مثلا في حيفا كان سافيذس اليونانيّ، وهارتش الأرمنيّ، ومن أبناء البلاد داود الصابونجي ابن يافا، وكارابديان من القدس، ثمّ خليل رعد المعروف بخروجه من الاستوديو للتّصوير خارجَهُ، مُوثقا لحظاتٍ هامّة في تاريخ فلسطين.
توجّهاتُ المُصوّرين: المُصوّرُ المُرافقُ لبعثةٍ أثريّةٍ يَلتقط صورًا لآثار. المُصوّرُ المُرافقُ لبعثةٍ تبشيريّةٍ يُصوّرُ أماكنَ دينيّة مُقدّسة. المُصوّرُ الزائرُ يُصوّرُ الأماكنَ التي يزورُها، وبعضُ الأشخاصِ يَظهرونَ فيها. فما هو القاسم المشترك؟ إنّهُ سحرُ الشرق، ونقلُ صورةٍ عن معالمِ الشرقِ للأوروبّيّين الذين لديهم صورٌ مُتخيّلة للشرق وناسِهِ ومَعالمِهِ، أمّا ميزاتُ التصويرِ فكانت التقاط صورٍ، لواجهاتِ كنائسَ ومساجدَ ومواقعَ مُقدّسةٍ أخرى، وتصويرُ مَشاهدَ ذاتِ صِلةٍ بالتوراةِ والإنجيل، مثلا الراعي حاملًا لجدي، الفلاح (المزارع) يبذرُ بذارَهُ، ويَحصدُ القمحَ أو يحرثُ الأرضَ، إنّها صورٌ كتابيّة.
أمّا ظهورُ الأشخاص في الصورِ الفوتوغرافيّةِ فكان قليلًا في البدايات، وعمليّةُ التغييب هذه تُشيرُ إلى حالةِ إزدراءٍ وإقصاءٍ وتهميش لناسِ المنطقة، فمناطق كاملة ظهرَت فارغة مِن الأشخاص، وشوارع في القدس والناصرة وطبريا ويافا. هذهِ الحالة التصويريّة استفادت منها الحركة الصهيونيّة، لتوهِمَ اليهودَ في أوروبّا وخارجها أنّ هذه الأرض بدون شعب. لكن عندما تغلغلَ المُصوّرونَ أكثرَ في عُمق حياة الناس، مِن خلال مواسمَ دينيّةٍ، كعيد الفصح وموسم النبيّ موسى والغطاس في الأردن، بدأت تظهرُ صورٌ لأشخاص. مثال واضح: رُتبة غسْلِ الأرجل في ساحةِ القيامةِ في القدس عام 1901 لألمندورف، وحشود الناس بكثافة، ماذا كتبَ المندورف تحت الصورة؟ ” حشودُ الحجّاج وآخرون”، هذه اللامبالاة والتهميش للفلسطينيّين تُدلّلُ على أيديولوجيّةِ المُصوّر، فعمليّةَ تغييب الفلسطينيين أبناء المكان ليست عابرة، إنّها تجاهلٌ مقصودٌ، ففلسطين بالنسبةِ للمُصوّرينَ هي موقعٌ دينيٌّ وأثريٌّ، حتى أنّ المُصوّرَ الأمريكيَّ ويلسون في ثمانينيات القرن الـ 19، وصفَ وجودَ الفلّاحينَ قربَ طبريّا بأنّهُ لا يَنسجمُ على الإطلاق مع طبيعةِ المنطقة، وإنّهم “مُنَفّرون”! ويلٌ لكَ يا ناكرَ وجودي يا ويلسون، يَعني بذلك؛ أنّ الناسَ لا يَصلحونَ للتصوير، بسبب شكلِهم الخارجيّ وملابسِهم الرّثّة. في حين أنّ المُصوّرَ الأسكتلنديّ “جون كرامب” خابَ أملُهُ مِن عدم قدرتِهِ على تصويرِ نساءِ بيت لحم الجميلات، لأنّهُ عرفَ أنّهُ سيُواجهُ صِدامًا معَ عشائرِ المنطقة.
يمكنُنا القول، إنّ المُصوّرين في المراحل الأولى قد أصيبوا بهوَسٍ دينيٍّ كبيرٍ، وامتلكوا رؤيةً دونيّةً لسكّان فلسطين، وإن أظهروهم في الصور، فكان ذلك نادرًا أو بصورةٍ مُشوّهة، لكن التحوّلاتِ بدأت مع نهايةِ القرن الـ 19، عندما ازداد انتشارُ آلاتِ التصوير، وكثرَ عددُ المُصوّرين، وبدؤوا بالقيام بجوْلاتٍ خارج أطر المواقع المألوفة والتقليديّة، فصوّروا قرى عربيّة في الجليل والساحل، كذلك التقطوا صورًا لأحداثٍ تاريخيّةٍ مركزيّة، منها افتتاح الخط الحديديّ بين يافا والقدس، وبين درعا وحيفا، وزيارة القيصر الألمانيّ فيلهلم الثاني وزوجته إلى حيفا وفلسطين، فحتى الحرب العالميّة الأولى اقتصر التصويرُ على اطرٍ دينيّةٍ، ومواقعَ مُقدّسةٍ وشخصيّاتٍ مُهمّة، لكن مع بدايات القرن العشرين ازدادَ ظهورُ التصويرِ العائليّ، حيث بدأنا نرى اهتمامَ عائلاتٍ بامتلاك ألبوم صور عائليّ، وهذا نمطٌ جديدٌ مِن السلوكيّاتِ داخل المجتمع، ويعني أنّ الألبوم هو عمليّة توثيق لحياةِ وتاريخ العائلة.
أمامنا عرضٌ مُصوّرٌ مُتميّزٌ لفتراتٍ زمنيّةٍ مختلفةٍ من تاريخ مُدنٍ مركزيّةٍ في فلسطين، وهي القدس وأريحا والناصرة وبئر السبع، سمّاها جامعُها ومُنسّقها ومُؤلّفُ المادّةِ النصّيّةِ حولها “سِجِلُّ مُصوّر”، إنّه الباحث الفلسطينيّ خالد عوض ابن مدينة بيسان المُهجّرة، والمولود في ناصرة البشارة عام 1964م. أنهى دراسته للدرجتيْن الأولى والثانية (الماجستير) في جامعة بير زيت، وأصدر مجموعة من البحوث حول يوم الأرض وشاعر الثورة نوح إبراهيم ابن وادي النسناس، ويُديرُ متحفَ التراث الفلسطينيّ في الناصرة، ويعملُ على إعداد مشاريعَ مستقبليّةٍ في هذا الميدان. نستضيفه هذا المساء في نادي حيفا الثقافيّ، كما نستضيفُ عرائس فلسطين الجميلات الحاضرات، وفي مقدّمتهنّ أريحا ابنة العشرة آلاف سنة، وقدسنا الغالية والحبيبة، وناصرتنا الصامدة وبئر السبع دائمًا عاصمة جنوب الوطن.
مداخلة الباحث خالد عوض/ صُورُنا وصُورُهم وأسطورةُ أرض بلا شعب: كان الشعورُ شديدًا، ولا يزالُ بحاجةٍ إلى بحثِ الواقع الفلسطينيّ، من خلال الصورة الفوتوغرافيّة، بحثًا شاملًا ودقيقًا، غيرَ أنّ قلّة المَصادرِ والمَراجع المُختصّة في هذا المجال، جعلت القيام بهذا العمل مُتعذّرًا، ولكن ومنذ أوائل التسعينات من القرن الماضي، بدأت بوادرُ ونواة هذا العمل تصبحُ أكثرَ وضوحًا، وذلك حين قام د. وليد الخالدي بإصدار مؤلفه الأوّل حولَ الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة، في كتاب أسماهُ (فلسطين ما قبل الشتات)، ومع التقدّم والتطوّر والأبحاثِ الجادّة، وظهور الإنترنت وغيرها من الوسائل المرئيّة، وفتح الأرشيفاتِ حول ما كان مُخبّأ ومخفيًّا من صور ووثائق ذات صلةٍ بالقضيّةِ الفلسطينيّة، اجتهدَ عددٌ مِن الكُتّاب والدّارسين لنفض الغبار عنها، وتحليلها وإبرازها بوجهها الحقيقيّ غير المُشوّه، ومِن الكتب الفلسطينيّةِ الهامّةِ التي تتحدّث عن تاريخ التصوير المَحليّ (الفلسطيني)، كتاب (لقطات مغايرة للتصوير المحلي المبكر في فلسطين)، لد. عصام نصار، و (أطلس جغرافية فلسطين) لد. سلمان أبو سته، إضافة إلى الكُتّاب الذين اهتمّوا بتوثيق الصورة الفوتوغرافيّةِ حديثًا، وإلى المؤسّساتِ والجَمعيّاتِ التي اجتهدت في السنواتِ الأخيرة بتوثيق وأرشفةِ الوثيقةِ والصّورةِ الفلسطينيّةِ قبلَ النكبة، وبعدَها كلّ هذا فتحَ آفاقًا جديدة للاهتمام بالصورةِ الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة.
يقولُ سامي أبو سالم في دراستِهِ حولَ التصويرِ الفوتوغرافيّ: بدأ المُهاجرون اليهودُ يَتدفّقون إلى فلسطين، وارتفعت وتيرة إقامة المستعمرات، وأمَدَّتْهم أوروبا وخصوصًا بريطانيا بالآلات الصناعيّةِ والزراعيّةِ الحديثةِ والسلاح، فأقيمت المزارعُ الخضراءُ والمَباني داخلَ المستعمرات، وهنا على صعيدِ التصوير الفوتوغرافيّ، آلافُ الصّورِ التقطها مُصوّرونَ يهودٌ لمَزارعِهم ومُنشآتِهم الجديدة وصدورِها إلى أوروبا، لدعايتِهم الجديدة في إبراز قدرةِ المُهاجرين اليهود على تحويل الأرض إلى جنّات عدن، فكانت هذه الصّورُ ذاتَ أثرٍ مُزدوَج، وذلك بتشجيع الطائفةِ اليهوديّةِ للرّحيل إلى فلسطين، ولكسب التأييد اللازم مِن أوروبا، الأمر الذي لاقى صدًّا واسعًا في الأوساط الأوروبيّةِ الرسميّةِ والشعبيّةِ، فكتبَ المندوبُ الساميُّ هربرت صموئيل (إنّ المستوطنينَ في كلّ أنحاءِ البلاد، يَعملون في الأرض بتلهُّفٍ وإيمان، إنّ المستنقعاتِ والقفارِ تتحوّلُ إلى حدائقَ غنّاءَ، بلادٌ مُتخلفة تتحوّلُ إلى دولٍ مُتطوّرةٍ، وهؤلاء الناس الذين يقومون بهذه الأعمال جديرون بأنْ يُحوّلوا العدوّ إلى صديق).
ويَذكرُ الباحثُ عصام نصّار مؤلف كتاب (لقطات مغايرة للتصوير المَحلّيّ المُبكّر في فلسطين)، إنّ المشاريعَ الاستعماريّة التي استهدفت فلسطين، حملتْ في طيّاتِها رغبة الانتماء لهذا البلدِ، وفي الوقتِ ذاتِهِ، تمثيلُ كلِّ ما يتعلق بهِ، على أنّه ينتمي إلى الخطاب الخاصّ بأصحاب هذه المشاريع، فالتنافسُ الاستعماريُّ أوّلًا، ومِن ثمّ التنافس اليهوديّ الفلسطينيّ ثانيًا، على كلّ ما يتعلق بتاريخ هذا المكان، جعلَ مِن مسألةٍ تاريخيّةٍ يُفترضُ أنّها بسيطة، مَحلَّ جدَلٍ وجدالٍ ولكن، فالفريضة المُبسّطة التي تقولُ إنّ المَحليّة ترتبط بقضايا مثل مكان الميلاد، أو العلاقة الأسريّة، أو مكان الإقامةِ، أو حتى الانتماء العرقيّ، أصبحت غيرَ مفيدةٍ البتة في إطار نقاشِنا الحاليّ.
عواملُ افتقار حجب الصّور: لا بدّ مِن الإشارة أنّ الكتبَ والدراساتِ العربيّة، التي نشرتْ عن تاريخ المدن والقرى الفلسطينيّة، كانت تفتقرُ في غالبيّتِها للصورة الفوتوغرافيّة، هذه الصورة التي توثق المَعالمَ والمواقعَ والأحداث فترة الحكم التركيّ، في النصفِ الثاني من القرن التاسع عشر، وخلالَ فترةِ الاستعمار البريطانيّ حتى الاستيلاء على فلسطين، ويعودُ ذلك لعدّةِ عواملَ منها:
1* اقتصارُ التصوير في نهايةِ الفترة العثمانيّةِ على المُصوّرين الأوروبيّين وأبناء الطوائف غير المُسلمة، مثل الأرمن والسريان الذن كانوا من أوائل مُحترفي مهنة التصوير في فلسطين، وبالتالي اختفت الصورة في أرشيفاتِ الأديرة والكنائس. أمّا القسمُ الآخرُ مِن الصور اجتهدَ بتصويرها مُصوّرو الأميركان كولوني في القدس، لأغراضٍ سياحيّةٍ ودينيّة، وقد قامَ (ماتسون) بنقلها معه عندما غادر البلاد عام 1946م، وقدّمَها هديّة إلى مكتبة الكونغرس في واشنطن فيما بعد.
2ـ تسليمُ آلاف الصور الفوتوغرافيّة التي صوّرَها الانتدابُ البريطانيّ، إبان سيطرتِهِ على فلسطين لليهود، كهديّةٍ تُساهمُ في تسهيل احتلال فلسطين، حيث أنّ الانتدابَ البريطانيّ وقبلَ دخولِهِ فلسطين، قامَ بتصوير القرى والمدن الفلسطينيّة، وصمّمَ الخرائط العسكريّة والجوّيّة للسيطرة على البلاد، وذلك نزولًا عندَ رغبةِ بن غوريون، الذي ألحّ على حكومةِ الانتداب تصويرَ المَواقع الفلسطينيّة، بعدَ إقرار بلفور بإقامة الوطن القوميّ لليهود في فلسطين.
3ـ حجب الصور الفوتوغرافيّة وإخفاؤها ضمنَ مُخطّطٍ مَدروس مِن قِبل اليهود، كوْنَها تعكسُ الواقعَ الحقيقيّ للأرض الفلسطينيّة ومَعالمِها، وحولَ هذا الموضوع يَقولُ سلمان أبو سته مؤسّس هيئة أرض فلسطين: (إنّ بن غوريون لم يكتفِ بالعمليّةِ العسكريّة التي كان غرضُها الغزوَ اليهوديَّ في فلسطين عام 1948م، ومِن بَعدِها عمليّة التطهير العرقيّ التي سارتْ جنبًا إلى جنب مع العمليّةِ العسكريّة، بل كان يُؤرّقهُ أنّ هذه الأرضَ تشهدُ على تاريخ أهلِها الذي يمتدّ إلى خمسة آلاف عام، شهادةَ مُسجّلة في أسماءِ مُدنِها وقُراها وأنهارِها ووديانها، آبارها وينابيعها، هضابها وتلالها، مروجها وكرومها وبساتينها، قلاعِها وحصونِها، ومواضعَ أحداثِها وانتصاراتِها ونكباتِها، وفي نهايةِ الفقرة يَذكرُ: هذا هو الرصيدُ المعنويُّ الهائلُ، وهذا التراثُ العريقُ وهذه الأصولُ الضاربة في عُمق التاريخ، هي أبجديّة سيرةِ الشعب الفلسطينيِّ وسِجلِّ أرشيفِهِ الوطنيّ، لذلك رأى بن غوريون ضرورة إزالتِهِ، حتى لا تُواجهُهُ أشباحُ الضحيّةِ ومَعالمُ آثارِها، حتى لو استولى على الأرض.
من هذا المُنطلق اختفى جزءٌ أساسيٌّ مِن الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة، لتصبحَ حِكرًا لدولة إسرائيل التي واظبت على إخفائِها لسنواتٍ طويلة، خوفًا مِن إظهارِ حقيقةِ المكان والمَعْلم.
4ـ إغلاقُ الأرشيفاتِ في إسرائيل المُختصّة بالصورة الفوتوغرافيّةِ أمام الباحثين العرب لسنواتٍ طويلة، حيث أنّ هذه الأرشيفاتِ كانتْ وما زالت تُدارُ مِن قِبل باحثين ومُفكّرين، ويَدعمُهم جهازُ الأمن الإسرائيليّ، في المقابل، نشطت الأرشيفاتُ الإسرائيليّة بإبراز الصورةِ الفوتوغرافيّة لانتصاراتِها وحروبها التي خاضتها مع العرب والفلسطينيّين، فأنشأتْ أرشيفَ (الهجاناة) وأرشيف الجيش و(البلماخ)، وأرشيفاتِ الصّحفِ العبريّةِ التي وثقت الصورة الفوتوغرافيّة، في مجموعةٍ من الكتب التي صدرت بعدَ حرب عام 1967م، تحتَ عنوان النصر الكبير، في صُورِ (هنتصحون هجدول بتمونوت) The Great Victory in Pictures ، يشملُ الكتابُ مجموعة مِن الصّورِ التي قامَ بتصويرِها (يعقوب بوران ويحزقيل هماتبري)، ونقابة الصحفيّين ووزارة الأمن (الدفاع) الإسرائيليّة.
أمّا الكتابُ الثاني فهو عبارة عن موسوعةٍ مِن عشرةِ مُجلّداتٍ، قدّمَها مُؤلّفها تحتَ اسم (موسوعة أرض بلا شعب ـ الفترات الكبيرة لشعب إسرائيل)، تحوي مئاتِ الصور الفوتوغرافيّةِ للحقب التاريخيّةِ المختلفة، وأخرى للاستيطان في فلسطين، وللحقب التي حَكمتْ فيها كلٌّ مِن الدولة العثمانيّةِ والانتداب البريطانيّ وحتى حرب عام 1948م. إضافة للمادّةِ التاريخيّةِ وثقَ الكتابُ مجموعةً مِن الخرائطِ والوثائق التاريخيّةِ، والعملاتِ النقديّةِ القديمة، ومجموعة من الصور الفوتوغرافيّةِ للقدس اليهوديّة في مَراحلِها المختلفةِ وحتى احتلالها في حزيران عام 1967م، أمّا توثيق الصورة الفوتوغرافيّة، فتعودُ لنقابةِ الصحفيّين الحكوميّين الأرشيف المركزيّ، وقسم العلاقاتِ الجماهيريّة في هيئةِ الأمم المتحدةِ، ومتحف الإثنيّةِ والتراثِ، ومتحف كيدمان للعملات والنقد ومتحف البلاد، إضافة لاستعمال صورٍ أخرى يَملكُها بنحاس شهناب، أهرون تسوكرمان، يوسف شامي وغيرهم.
فكرة التوثيق: جاءتْ فكرةُ توثيق الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّةِ، التي كانتْ وما زالتْ مُغيّبة عن القارئ العربيّ والغربيّ لفتراتٍ طويلة، حيث يُلاحظ أنّ بداية اهتمامٍ خاصٍّ وإدراكٍ حقيقيٍّ، لأهمّيّتِها مِن قِبل الباحثين والمؤرّخين العرب والغربيّين، الذين رأوْا في الصورةِ الفوتوغرافيّةِ وثيقة تاريخيّة، يمكنُ اعتمادُها كمرجعٍ لإظهارِ الأماكنِ والمَعالم الفلسطينيّةِ المختلفة، وكشفِ حقيقةِ الكارثةِ التي ألمّتْ بالشعب الفلسطينيّ، إضافةً إلى إمكانيّةِ استخدامِها مِن قِبلِ الباحثين والدارسين، كمَرجعٍ بتدعيم أبحاثِهم ودراساتِهم المتعلقة بالقضيّةِ الفلسطينيّة.
_____________________________________
[1] اعتمدت في كتابة هذه المداخلة على مقال د. عصام نصار بعنوان: “فلسطين والتصوير الفوتوغرافي المبكر”. ومقال بدر الحاج بعنوان “تاريخ التصوير الفوتوغرافي في القدس” على موقع اخبار القدس على الشابكة، ومقال سامي ابو سالم بعنوان”التصوير الفوتوغرافي بين حداثة الاختراع والغاء الآخر كيف ساهمت الصورة الفوتوغرافية في انشاء الدولة العبرية” على موقع عالم الكتب العربي على الشابكة..