من أعمال التشكيلي بشير حمودة
سرد

حكايات ليبية..!!!

من أعمال التشكيلي بشير حمودة
من أعمال التشكيلي بشير حمودة

• الحكاية الأولي…!!!

حدثني صديق فقال: ((منذ زمن بعيد… كنت اعمل باحدى الشركات الحكومية… وكنا مجموعة من الشباب المتعلم والمتخرج حديثا… وكنا نتقد حماسا للعمل في بداية تعييننا ولكن سرعان ما فتر الحماس والتحقنا بشلة الموظفين الذين سبقونا بالعمل… نبحث عن سبل لقتل الوقت بالحديث والنقاش والجدل… واحياناً… كنا نخرج كمجموعة للبحث عن سلعة بالأسواق العامة… او الذهاب الى “البنكينا” لشراء سمك طازج… أو لقرية بنينة لشراء اللبن وخبزة التنور…!!! لم نكن نتغيب عن العمل ولكننا لم نكن نفعل مايفيد… وكثيرا ما كان الملل يغلبنا… فنتبادل الشكوى من كل الأمور من الساسة والمدراء… بل وحتى الزوجات والأبناء… كنا جميعا نفعل ذلك بدرجات متفاوتة إلا شخصا واحدا فينا… كان يجلس معنا لدقائق صباحية ويشاركنا فنجان قهوة دون ان ينتقد او يشتكي… ثم يستأذن للذهاب الى مكتبه))… أقول الحق… لم التفت اليه في بداية الأمر ولم اعره انتباها… غير ان الملل من جلسات الجماعة جعلني يوما ما اتجه الى مكتبه للحديث لدقائق معه وتدريجيا تعرفت بشكل أعمق عليه… فإذا به شخصية ايجابية حيوية ومنتجة… كانت امامه مجموعة من الكتب… وعندما استفسرت تبين لي انه يدرس اللغة الانجليزية باحد المعاهد ويعلم نفسه لغة لبرمجة الحاسوب… سألته عن كيف استطاع تحقيق كل ذلك… فكان مما قال: “الأمر كله يعتمد على فهمك ورؤيتك واستغلالك لأهم مورد لديك”… اعتقدت في البداية انه يتحدث عن المال ولكنه قال “أهم مورد لدينا هو الوقت… الوقت هو العمر… وهو المورد الوحيد الذي إن ضاع لا يمكن تعويضه واسترداده… وحينما انتقلت لهذه الوظيفة وجدت انها تمنحني كمية هائلة من هذا المورد الثمين فقررت أن استغلها لصالحي ولكن دونما التفريط في واجباتي تجاه الوظيفة… فانا اقسم وقتي إلى ثلاثة: الأول لأداء الوظيفة… والثاني للبحث عن سبل لتطويرها… والثالث لتطوير نفسي وإمكانياتي“… غني عن القول أن هذا الحديث القصير فتح أمامي أفاق لم أكن اعرفها وكان بداية اعتناقي لفلسفة جديدة في حياتي تقوم على حُسن استغلال الوقت… أو العمر.

• الحكاية الثانية…!!!

(1) في حفل لتكريمه ووداعه سألت الأستاذ رياض وقد أمضى سنوات طويلة بيننا: أنت أمضيت سنوات طوال هنا فلا ريب أنك كونت رؤية خاصة بك عنا… فهل شاركتنا إياها؟“… صمت لحظات… ثم أجاب: بكل صراحة… ليبيا بيتي… وأنتم أهلي… لقد عشت سنوات في السعودية والكويت ورغم المعاملة الرسمية الطيبة إلا أنني لا أستطيع أن أقول أنني تركت أصدقاء خلفي من الجنسيتين. فلم تطأ قدماي بيت احد من زملائي في العمل ولم تتم دعوتي لمناسبة اجتماعية، كانت علاقاتي مقصورة في علاقات العمل والتي لا أنكر كونها طيبة ولكن شعوري بالعزلة هو ما عجل برحيلي رغم إغراء المرتب“.

(2) ثم استطرد قائلاً.. “لكنكم هنا في ليبيا تمتازون بالكرم والبساطة ولم اشعر بوجود حواجز بيني وبينكم على الاطلاق. وها أنا أغادر واترك ورائي العشرات من الصداقات الحميمة. ليبيا تمتاز بأنها أكثر مجتمع بدون عوائق طبقية او مذهبية او قبلية تحول بين اناسها أو تمنعهم من التعامل بحرية وبأن يختاروا اصدقائهم ونسائبهم بكل حرية… ربما أنت لا تعلم قيمة ذلك ولكني أعلم لأنني أتيت من مجتمعات بها فواصل وحواجز دينيه ومذهبية وعشائرية بل وحتى سياسية ترسم حدود خفية وتشل حرية الحركة والتواصل فيما بيننا… كما أن وقت الازمات هناك درجة من التعاطف بينكم مذهلة تختفي فيها الخصومات… بل دعني أدهشك بالقول بأن درجة التسامح التي رأيتها هنا لم أراها في مكان أخر… نحن لدينا ان تقاتلت عائلتان فالصراع قد يمضي لعقود و الخصومة لأجيال… انتم ينتهي التقاتل بينكم في صلح إجتماعي وتنحصر الخصومة في العائلات… بل أنني شهدت عائلات تعود للتعامل مع بعضها البعض بعد مضي عقد من الزمان على الاقتتال وهذا أمر مستحيل في بلادي“.

(3) قلت له حسنا… وماذا عن نواقصنا..؟… ضحك وقال مازحا… “أنتم لا نواقص بينكم… أنتم عويلة ربي… وانتم“.. قلت مقاطعا… لا تتهرب من الاجابة… رد… “انتم تمتلكون أسوأ القدرات التنظيمية… عجزكم هائل على التقيد بالنظام ولديكم كره ونفور طبيعي من الضبط والربط… كما أن لديكم ميل لتحدى السلطة يكاد يكون مرضي. بصراحة انتم تدللون ابنائكم لدرجة غير صحية بينما تحسنون تربية بناتكم. كما انتم مسرفون وتهدرون مواردكم وتعشقون الجدل الى درجة الادمان. الليبي للأسف يعشق الفردية… انتم لاعبو تنس طاولة بينما الحياة تحتاج الى فرق عمل والى العمل الجماعي… من يتفوق لديكم فالسبب هو مهاراته الفردية التي غالبا ما يتم تجاهلها فلا يجد امامه سوى الانزواء او الهجرة… بالنسبة لي هو أمر محزن بأن ارى المجتمع الليبي بهذه الصورة لأنني اعلم طيبة وذكاء وكرم الانسان الليبي… وهذا كل مالدي“… قلت حسنا… وماذا عن مستقبل البلاد؟… رد قائلا… “هذه البلاد تمتلك من القدرات والإمكانيات ما يمكن ان يجعلها جنة لو تعلم أهلها الانضباط والصبر… وأحسنوا إختيار واحترام زعمائهم“.

(4) هذا الحديث كان منذ عدة سنوات ولا زلت اشعر بانه يصف حالنا بصدق ودقة رغم تغير الكثير في حالنا وفينا.

• الحكاية الثالثة…!!!

منذ اكثر من عقدين من الزمان… تم إيفادي مع زملائي الى دورة تدريبية بإحدى المدن الأوروبية… كانت الدورة في مجال تقنيات المعلومات… وكانت ذات طبيعة تقنية دقيقة تجاوزت قدراتي على استيعابها بالشكل المطلوب… وجعلت منى متلقيا صامتا معظم الوقت على عكس الزملاء اللذين شاركوا بحماس ملحوظ. ذات يوم طلب مني أستاذ المادة البقاء بعد الدورة لندردش معا على كوب من القهوة الايطالية المميزة… وهذا ما تم. اكتشفت لاحقا أن الاستاذ اعتقد ان صمتي هو ناتج من خجل لدي… وبالتالي أراد ان يشجعني على كسر الجليد وعلى ازالة الرهبة والتوتر… كان الحديث عاما وممتعا… استمر ساعتين اكتشف فيهما كل منا الاخر… وتحول الى عادة يومية لم تنقطع طيلة مدة الدورة التدريبية… اكتشفت ان الاستاذ يتمتع بثقافة عالية ومعرفة موسوعية… خصوصا في مجالات الفلسفة والتاريخ والأديان. واذكر انه حدثني قائلآ: “كان والدي رجل أعمال ناجح ولديه علاقات تجارية واسعة مع البلدان العربية والإسلامية“… كما كان مهتما بالثقافة والمعرفة… واذكر انه كثيرا ما كان يقول في احاديثه… ان سر نجاحه التجاري هو الكعبة والسجادة… وكنت في صغري اعتقد انها مجرد مزحة او طرفة… حتى اتى يوما سألته عن مغزى قوله فقال: “عملت في صغري مع مسلم من البوسنة… كانت عائلته قد هاجرت وأقامت بشمال ايطاليا… وكان هذا الرجل عميق التدين… جميل الخلق… قليل الكلام… وكنت أتعجب كيف استطاع هذا الصبي المهاجر أن يشق طريقه بنجاح مذهل رغم محدودية تعليمه… فكان يبتسم ويقول… إنها الكعبة والسجادة… وعندما طلبت منه ان يفسر لى قصده… اجاب… في حياتنا لا بد من ان تكون لنا كعبة… أي وجهة محددة ثابتة لا تتغير نوجه نحوها اعمالنا اين ما كنا وكيف ماكنا… الكعبة هي الوجهة… هي القصد من هذه الحياة… فحياتك ضائعة يابني ما لم تكن لديك كعبة… وانا كمسلم قد من الله علي بان جعل فعل الخير… هو مقصدي ودليلي في تجارتي وعملي وكل سلوكياتي… دائما فعل الخير… في غناي وفقري… في صحتي ومرضي… في سعادتي وشقائي“. قلت له: وماذا عن السجادة…؟ أجابني: “السجادة هي لضبط الجهد… فكل جهد لفعل الخير له وقته وشكله المحدد كما في الصلاة… لا يجوز ان تصلي صلاة الجهر سرا… رغم ان الصلاة كلها خير… ولكن لها قوانينها… التي يجب إتباعها بدقة… لها سجادتها… تلك هي قصة الكعبة والسجادة… فهل أدركت ما أعنيه.“.

مقالات ذات علاقة

غياهب الحي المقابل

ذاكرة مجنون

فهيمة الشريف

رواية الحـرز (1)

أبو إسحاق الغدامسي

تعليق واحد

يوسف الزايدي 10 مارس, 2016 at 23:00

استمتعت كثيرا بقراءة حكاياتك , شكرا , آمل أن أرى المزيد.

رد

اترك تعليق