يتناول كتاب صرخة الصحراء، الصادر حديثا عن دار الجموع للكاتب/الباحث الليبي الدكتور عابد الفيتوري الزيداني، التجارب النووية الفرنسية بالصحراء الجزائرية وتأثيراتها على الصحراء الليبية بمدنها وواحاتها. تلك التجارب التي لم يُسلط عليها الضوء فى الاعلام الليبي أو يكون للدولة الليبية روايتها الرسمية حول التجارب ذاتها أو الآثار الناجمة عن تلك التجارب القاتلة.وتأتي أهمية هذا الكتاب لاحتوائه على معلومات مفيدة وغير متداولة للمواطن خاصة من سكان الشمال الليبي، فلم يتم تناول هذه القضية فى الاعلام المحلي حتى بعد فبراير .
***
بتاريخ الثالث عشر من فبراير من عام 1960 م استيقظ سكان منطقة رقان الواقعة بجنوب غرب الجزائر على صوت انفجار ضخم، تبين لاحقا ً أن المنطقة كانت حقلا ً للتجارب النووية الفرنسية حيث تحول اكثر من 42 ألف مواطن من سكان المنطقة إلى فئران تجارب لجنرالات فرنسا. فالمؤلف يذكر فى المقدمة شهادة احد الشبان من رقان:”فهمنا من كلام الجنود الفرنسيين فيما بينهم أن أمرا شديد الخطورة سيحدث، ومنهم من كان يذرف الدموع حين يتحدث فى الموضوع، لم نكن نعرف ماهو حجم الكارثة التي ستلحق بنا، واستلمنا كعمال مهنيين لدي الفرنسيين سلاسل طُلب منا تعليقها على رقابنا من أجل حمايتنا، مثبت بها سائل داخل قطعة زجاجية صغيرة وكأنه مقياس، ثم عاد الفرنسيون لأخذ تلك السلاسل”.
كانت القنبلة النووية المجربة فى الصحراء الجزائرية تعادل فى قوتها القنبلة التي ألقيت على هيروشيما بأربع مرات، كما لم تُتخذ الاحتياطات اللازمة للقيام بتلك التجارب النووية، كما أن بعضها باء بالفشل، ما أدى إلى تفاقم الخسائر الناجمة عنها، حيث لقي المئات حتفهم فورًا، كما سُجلت بين سكان الجنوب الجزائري ولادات مشوهة وفقدان لأجنة، والاصابة بالعمي وبالاضافة لانتشار الامراض المرتبطة بهذا النوع من التجارب . التجارب لم تكن تحت سطح الأرض، بل كانت فوق سطح الأرض.
و يستعرض المؤلف فى الكتاب الاستغلال البشع للشركات الفرنسية للدول الافريقية كالنيجر وتشاد ومالي، ويتناول تقارير منظمة السلام الأخضر الدولية حول السرقة والتدمير الذى تقوم به شركة اريفا الفرنسية فى شمال النيجر التى يمتلك ثاني أكبر مخزون من خام معدناليورانيوم فى العالم.حيث تقوم الشركة الفرنسية باستغلال هذا البلد الصحراوي الفقير باسعار رخيصة ودون حماية لسكان البلد او الحفاظ على البيئة به. ويذكر المؤلف أن النيجر يزود فرنسا الغنية باليورانيوم الذي تستخدمه فرنسا في توفير حوالي 80% من إحتياجاتها للطاقة الكهربائية ويمول مشروعات فرنسا لإنتاج الطاقة النووية بالمجان تقريبا ً، بالمقابل دمار للموارد الطبيعية بهذا البلد، و اصابة الاطفال و النساء بالامراض المصاحبةلمثل هذا النوع من الانشطة .
***
وتبقي أخطر التساؤلاتالمطروحة بالكتاب تلك المتعلقة بالجنوب الليبى خاصة مع ظهور مشروع النهر الصناعي لتزويد الشمال الليبي بالمياه الجوفيه من الصحراء الليبية.إذ يتسائل الدكتور عابد حول الاجراءات التي اتخذتها إدارة مشروع النهر الصناعي للتأكد من صلاحية المياه الجوفية للإستهلاك البشري و الري، و هل جرت عمليات قياس لنسبة الإشعاع والتلوث الذري لحوض غدامس وجبل الحساونه ولغيره من الاحواض، و هل قياس الإشعاع النووي من ضمن الإجراءات الروتينية.إذ ثمة حاجة للبحث والتحقيق فى الاضرار التي قد تكون لحقت بسكان اقليم فزان من جراء هذا الانفجار النووي. فالمؤلف يشير إلى معلومة غير متداولة على نطاق واسع، بقفل بيوت بمنطقة وادي عتبه بالجنوب الليبي، فلم يبقى لها أى اثر بعد التفجير، كما ظل الناس يقومون بدفن من 3 إلى 5 أشخاص يوميا لفترة طويلة، بالإضافة لظهور مئات الحالات من الأمراض السرطانية المجهولة السبب، مع انخفاض مستوي الخصوبة فى كل جيل عن الذي قبله، خاصة وسيول الامطار التي مصدرها الصحراء الجزائرية تغذيالمياه الجوفيه فى فزان و ربما هي المصدر الرئيس لها.
ويربط المؤلف بين التجارب النووية الفرنسية بالجزائر وبين الاستعمار الفرنسي القصير لاقليم فزان، بعد هزيمة القوات الايطالية المتمركزة بالجنوب الليبي، فقد سعت فرنسا إلى ضم غات وغدامس للإدارة الفرنسية الاستعمارية بالجزائر بدءا من العام 1942 إلى غاية عام 1956، و يشدد على أن الأرشيف الفرنسي حول هذه القضية لم يكشف عنه بعد و يعتبره مهم جدا، فمن غير المستبعد أن يكون قد تم طمر نفايات نووية بفزان.بالإضافة لضرورة معرفةمعلومات تفصيليةكتأثير حركة الرمال والرياح ووجه الأودية او عند سقوط الأمطار وتدفق المياه الجارفة خلال السيول والفيضانات بتلك المنطقة لمعرفة مدي الأضرار الناجمة عن تلك التجارب القاتلة .
ويرى المؤلف بضرورة مطالبة فرنسا بالاعتذار الرسمي الصريح حول جرائمها النووية بالصحراء الافريقية (الجزائر-ليبيا) وباقى دول الجوار ، وتقديم التعويض المادي والمعنوي بمايتلائم والاضرار التي لحقت بسكان الصحراء، بالإضافة لدعوة فرنسا لفتح الإرشيف المحتوي على الوثائق الفرنسية المتعلقة بالتفجيرات النووية وادراك الحقائق الكاملة بشأن اماكن دفن النفايات السامة، كذلك الإرشيف المتعلق بفترة احتلالها لإقليم فزان بليبيا وسياسات الاغلاق والترهيب التي انتهجتها آنذاك.
بالإضافة لأيقاف عبث شركة اريفا الفرنسية والتلوث الناجم عن انشطتها فى التنقيب عن اليورانيوم بالصحراء في النيجر.
***
الكتاب هو عبارة عن مجموعة مقالات للمؤلف منشورة على مدوناته العديدة احدها تحمل نفس عنوان الكتاب(صرخة الصحراء) ، احتوي على مقدمة عامة سريعة، ثم تناول مجىء الفرنسيين لاقليم فزان بعد دحر القوات الإيطالية المحتلة، لتبدأ مرحلة اخري من الاستعمار الغربي ولكن هذه المرة المحتل فرنسا التي تعمل جاهدة لاستمالة قلوب وعقول الفزازنه قبل اللجوء لاستعمال العنف والقوة بتهديد وتعذيب كل من يرفض استمرار الوجود الفرنسي، كما تعتقل المقاومين لسياسة الضم التي عملت الادارة الاستعمارية الفرنسية على تنفيذها فى اقليم فزان باتخاذ اجراءات ادارية بألحاقه إداريا بولاية قسطنطينة بالجزائر، كما يتطرق لنقطة مهمة هى استعباد الفزازنه واستخدامهم بأعمال السخرة فى شق الطرق وتعبيدها بالصحراء لربط المركز الادارية الواقعة تحت السيطرة الفرنسية فى الجزائر وجنوب ليبيا وتشاد والنيجر.
يتضمن الكتاب مراسلات المؤلف مع الخبير النووي الدكتور عبد الكاظم العبودى احد ابرز المختصين بمتابعة هذا الملف، أى التجارب النووية الفرنسية بالجزائر وبالمحيط الهادي وتأثيرات هذه التفجيرات على الحياة بهذه الاماكن، وتعتبر هذه المراسلات مفيدة وفيها ملاحظات جيدة قد تساعد من يرغب فى التوسع مستقبلا فى هذا الملف.
حاول المؤلف الفيتوري أن يوثيق معلوماته من خلال الاشارة لمصادرها المنقولة عن مقالات مترجمة من الصحف الفرنسية أو الجزائرية .
يضع فى الجزء الأخير من الكتاب آخر المستجدات والتصريحات حول الجنوب الليبي من قبل السياسيين الفرنسيين بالذات، بالإضافة لكل من سياسيى تشاد والنيجر، اللتان تسعيان مع فرنسا لتقاسم الأراضى والثروات الطبيعية للجنوب الليبي من خلال استغلال حالة الضعف السياسي للدولة الليبية منذ الاطاحة بنظام القذافي الذي عمل سابقا ً على مد نفوذه بهذه الأراضى أى شمال تشاد والنيجر من أجل استغلال اليورانيوم فى برامج القذافي النووي، ودخوله لمغامرة غزو تشاد بذريعة مساندة حركة تحررية انتهت بخسائر بشرية ومادية كبيرة لليبيا.
***
يحتاج الكتاب لمحرر كي يتم ترتيب الافكار والمعلومات المعروضة، و ان يضع تبويب للمواضيع، و أن يتم التهميش بشكل منظم ودقيق كي يساعد القارىء والباحث للتوسع مستقبلا ً فى القراءة والبحث حول هذه المسألة، بالإضافة لضرورة توفر مصحح لغوي للكتاب، و إعادة طباعته واعداد الصور المرفقة بالكتاب كي تظهر بشكل افضل.
كل ماذكرته من ملاحظات لاتقلل من قيمة الكتاب الذي يسلط الضوء على قضية غير معروفة فى وسائل الاعلام الليبى، ولا يوجد نشطاء يكرسون وقتهم لتناول هذه القضية المتعلقة بالأمن القومي الليبى بالإضافة للآثار البيئية والصحية المترتبة على تلك التجارب، ربما باستثناء الدكتور عابد الفيتوري الذى كرس جزء من وقته وجهده للفت الانتباه لهذه القضية، من خلال التدوين حولها لسنوات طويلة قبل أن يقوم شاكرا ً بجمع تلك المقالات التدوينية لإصدارها فى كتاب عن دار الجموع، تتوفر منه نسخة ألكترونية. احيي جهود الدكتور عابد الفيتوري، واحساسه العالي بالمسؤولية وبالواجب تجاه وطنه.
***
الدكتور عابد الفيتوري الزيداني: استاذ جامعي يقوم بالتدريس بقسم الفلسفة بجامعة سبها، صدرت له مجموعة كتب منها؛ “المذهب الظاهري والمنطق عند إبن حزم”، و “آهات جنوبية”،و “مذكرات سجين ليبي: أربع عقود داخل الزنزانة”، كما شارك فى تأليف “كتاب الجمعية الوطنية بفزان 1946- 1950”.
من مدونات الدكتور عابد: “عين على فزان“، “وجع السنين“، “صرخة الصحراء“، و “تغريدة ليبية“.