قراءات

نادرة عويتي الناقدة

الكاتبة نادرة عويتي
الكاتبة نادرة عويتي

في زحمة قراءاتي، قرأتُ للأديبة والكاتبة الراحلة نادرة عويتي روايتها “عند مفترق الطرق”، ثُمَ عرفتها ككاتبة للمقالة وصاحبة قلم رشيق، من خلال مقالاتها المتتابعة بملحق الجماهيرية الثقافي، وأخيراً اكتشفتها كناقدة أدبية بعد البحث في شبكة المعلومات العالمية، ولئِن كانَ تناولها لبعض الإصدارات الأدبية انطباعياً إلا أنها أضافت للنصوص المقروءة بُعداَ أخراَ وأُفقاً جديداَ بقراءتَها الموضوعية التي لا تقل جمالاً عن النص الأصل.

فعلت ذلك مع ديوان (بُن يتحمص.. جزر ممكنة) للشاعرة سعاد سالم، ومع المجموعة القصصية “عيون الكبرياء” للقاص عطية صالح الأوجلي، حيثُ انتبهت للعديد من النقاط الفنية في الإصدارين، وقامت بقراءتهما قراءة متأنية، لتصوغ من خلال القراءة ذاتها رؤيتها الشخصية، وهذا إن دلَ على شيء فإنهُ يدل على القراءة الواعية والمتفوقة للأديبة الراحلة، التي تنقّلَ قلمها ما بين هذه الأنواع الأدبية ومثلما أبدعت في السرد أبدعت في المقالة والتناول النقدي، رغم أنَ الراحلة ركّزت أو تركّزت جل كتاباتها في السرد ولم تتفرغ للكتابة النقدية التي كانت ستقدم فيها المميز والمُفيد لو أنها توسعت فيها وهذا يدل أيضاً على أنَ للراحلة قدرة على التفاعل مع النصوص الأدبية المختلفة إلى حد أن تُبلور عنها فكرة مكتملة  ورؤية مكتوبة ومدونة، ولا تركن الراحلة إلى القراءة السريعة والعابرة، تفعل هذا وهيَ المشغولة والمهمومة بالسرد الذي اتجهت إليه مُبكراً ولم تتخلى عنهُ حتى أواخر حياتها بعد أن وجدت فيهِ وسيلة تعبيرية فنية جمالية لقول ما تُريد قوله بطريقة مضمرة أو صريحة ومن خلاله تُقدم رؤيتها للحياة وتُشارك في إثراء الوجدان الإنساني.

وتُشي القراءات النقدية بتمكن الكاتبة من أدواتها وقدرتها على الغوص في تفاصيل المتن المقروء وفض مغاليقه، وهيَ لا تكتفي بالقراءة المستعجلة والسطحية لتتوغل إلى ما وراء القول باحِثة عن تأويلات غير مصرح بها ودلالات مخفية ومضمرة، وحتى أبعاداً قد لا يعيها كاتب النص نفسه ويتجلى أثر هذه الأجتهادات في قراءتها لقصائد ديوان الشاعرة سعاد سالم، حين تمهد للقراءة التي اعتبرت القصائد ذاتية لا تقول إلا صاحبتها، وهو ما تعتبره الناقدة أمراً طبيعياً لإصدار شعري أولي وتقول عن ذلك ((يطيب للمرأة الكاتبة عادةً أن تترك جنينها الأدبي البِكر يتغذى من مشيمة مغلقة لا صلة لها بالعالم الخارجي)) ورأت أن الشاعرة أنجزت   نصوصها الشعرية التي تطمح إليها، والتي من جهة أُخرى عكست كل ثقافتها ورؤيتها الشعرية الآنية والسابقة.

ولقراءته لم تكتفي الناقدة بالأطلاع على الديوان فحسب وتطلب منها الأمر العودة إلى متون نقدية أُخرى لتنير قراءتها بضوءِها وهيَ تُشير في هذا المجال وبلا مواربة إلى كتاب (شعرية السرج السابح) للشاعر سالم العوكلي وكذلك تشير إلى مقدمته لديوان بن يتحمص جزر ممكنة وتستعيد بعض ما جاء فيهما من أحكام نقدية، وتُمرر الناقدة الراحلة من خلال هذه الدراسة رأيها في الأدب النسوي الذي اعتبرتهُ أدباً إنسانياً عاماً بصرف النظر عن خصوصيته كإبداع تكتبه المرأة، لتبدأ بعد ذلك في استعراض بعض نصوص الديوان وقراءتها بِجُمل مُركزة تُلاحِق المعنى المُعلن وغير المُعلن وتبرز جماليات النصّ.
وفي إشارتها إلى مسألة توارد الأفكار أو ما يُعرف أدبياً بالتناص تُشير الناقدة إلى عنوان إحدى قصائد الديوان وهو ” مقعد من بُكاء ” وتُحيلنا بعد ذلك إلى نص لنزار قباني يحتوي على ذات الجملة الشعرية، وهذا كما أسلفنا يدل على سِعة اطلاع الكاتبة الراحلة ورحابة فكرها– وهوَ ما نرى أنهُ ضرورياً للناقد للأضطلاع بمهمته–

هذا غير قدرتها على استحضار ما يُعزز رؤيتها النقدية عبر الأستعانة بمتون أخرى وشواهد أدبية مرت عليها في رحلتها التي قطعتها مع القراءة التي هيَ أساس كل إبداع سواء كانَ شِعراً أو سرداً أو نقداً. وبسطر لا يتعدى عدد كلماته الثمان كلمات بعد استعراض جزء من نص للشاعرة تقول فيه:-

عندما
أخوض بلا رفيق
الأرصفة المبللة
رزمة لا تخص أحداً
تتسلقني الوحدة
تلك الرفيقة الطيبة
أتلاشى وسط ابتسامات
تخمة الحضور
وعجل العشاق الطازجين
للمقاهي الدافئة.

بجملة تعقيبية مقتضبة تقول فيها “شيء في هذا النص يطرح سؤال الهوية والجغرافيا” تضع قراءتها الخاصة وتفتح للقارئ باباً ليضع هو الآخر قراءته الخاصة وتحثه على إكمال المعنى الذي لا يكتمل إلا بقراءته من كافة جوانبه، لاسيما وأنها – أي الناقدة الراحلة – اعتبرت نفسها وسيطاً ما بين الديوان الذي اختارت قراءته وما بين المتلقي،ومن هذا المنطلق هيئت هذا المدخل والأفق الذي يمكن أن يكون بداية لقراءة جديدة مختلفة تماماً عن أي قراءة سابقة.

ولم تنسى في ختام المداخلة النقدية – والكلام دائماً عن نادرة عويتي – أن تُنير ذائقة المتلقي بوصفها للشاعرة بأنها مسكونة بالقلق الجميل وأن ديوانها يحمل بعض صفاتها، أي أن القصائد لا تخلو من القلق الباعث على الإبداع  والمكابدة التي تحث على الخلق الفني، وهذا برأيي حكم نقدي ناضج، هو الآخر يصلح لأن يكون مدخلاً لقراءة النصوص قراءة مغايرة أهتداءاً بحيثياته.

وبوصفها قاصة وروائية على علم ودراية بكل تقنيات هذا الفن، قرأت المجموعة القصصية الموسومة ب عيون الكبرياء للقاص والكاتب عطية صالح الأوجلي فقدمت من خلال هذه القراءة الواعية والتي تمس تخصصها في الكتابة، كونها هي الأُخرى تكتب القصة، قدمت إضافة معتبرة للمجموعة ووضعت إبداعاً على الإبداع الأصلي، حين توسّعت في تشريح وتقديم قصصها قصة قصة والوقوف عند بعض خصائصها الإنسانية والفنية، قرأت الناقدة فأوفت المتن المقروء حقه وقدّمتهُ تقديم العارف والمُدرك لما يُقدم، ولا غرابة في أن تُبدع في هذا لأنهُ ليس عنها بغريب وليس منها ببعيد.

كل هذا التنوع في الكتابات عند الراحلة يأتي في أسلوب أدبي راقي ورصين وجذاب يستحضر الصورة القلمية كما يستحضر التشبيه البليغ والتعبير المقنع والوصف القريب ولا يخوض في ما لا ضرورة له وينطبق هذا على مقالاتها كما ينطبق على مقالاتها النقدية وقصصها ورواياتها.

إذاً هذه بعض الإضاءات التي تثبت علو كعب نادرة عويتي في النقد وقدرتها على قراءة الأعمال الأدبية قراءة واعية ومدركة تستهدف إبراز جمالياتها اللغوية والتأويلية، رغم أنَهُ وبحسب اطلاعي المتواضع، الراحلة لم تُركز جهودها في النقد ولم تتفرغ له ولم تهتم به كما اهتمت بالسرد الذي أخذ جل مجهودها، ولو حدث أن اتجهت إلى النقد لقرأنا لها مقالات رائعة عن أعمال أدبية قدمها كُتّاب ليبيون، وفيما خسرناها كناقدة على ما يبدو ربحناها كساردة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد ولا ننسى بعد كل هذا الطواف في سماء إبداع نادرة عويتي أن نستمطر شآبيب الرحمة على روحها الطاهرة وندعو الله أن يشملها بواسع رحمته ويتغمدها بجميل رضوانه.

مقالات ذات علاقة

صحراء التتار . . نظرة خاطفة

ناصر سالم المقرحي

كتاب يؤرخ لثورة 17 فبراير في ليبيا وتحدّيات الولاء للحواضن القبليّة..

المشرف العام

سيرة كاتبة أمية تساوت عندها كل الأشياء

خلود الفلاح

اترك تعليق