كشف لنا كتب السير الذاتية عما خفي من تفاصيل في حيوات الكتاب، تلك التفاصيل التي غالبا ما تكون هي المعدن الأول الذي يشكل وعي الكاتب الذي يصلنا من خلال كتاباته، لذا لا تنفصل سير الكتاب المبدعين مطلقا عن أعمالهم.
تحاول الكاتبة والروائية السويسرية من أصل مجري الراحلة أغوتا كريستوف (1935-2011) في كتابها “الأمية: سيرة الكاتبة” أن تجيب عن عدّة اسئلة مثل هل من الممكن أن يصل كاتب إلى القول؟ وما الفائدة من الكتابة؟، وفي هذا السياق تقول كريستوف، التي توقفت عن الكتابة العام 2005 “لقد صارت كل الأشياء سواء بالنسبة إليّ، حتى الكتابة. لقد أعطتني الكتابة الكثير، لكنها ما عادت تمنحني الآن شيئاً”.يقول مترجم الكتاب، الصادر ضمن منشورات الجمل، محمد آيت محمد “في سيرتها المقتضبة تشير أغوتا كريستوف إلى أنها أصيبت بمرض القراءة منذ سن الرابعة وأنها لم تتوقف يوما عن القراءة، إن علاقة أغوتا كريستوف بالقراءة والكتابة وحتى الحياة، علاقة مبنية على مصالحة خاصة بالنسيان، بدل التذكر ثمة سعي حثيث إلى النسيان، وعوضا عن الكشف عن المقروء والتصريح بالخلفية التي أتت منها الكتابة ثمة عمل دروب يقوم على المحو”.
ولدت صاحبة ثلاثية “الدفتر الكبير، والبرهان، والكذبة الثالثة”، في قرية تشيكفاند بهنغاريا، كان والدها مدرس القرية الوحيد، ثم اضطرت العائلة للانتقال إلى بلدة كوزيرغ بسبب ظروف الحرب التي تسببت في سجن والدها وتشريد الأسرة، والالتحاق بمدرسة داخلية كانت أقرب إلى ميتم.
وفي المدرسة الداخلية حيث الصمت إجباري بدأت في تحرير ما يشبه دفتر مذكرات قالت عنه “اخترعت كتابة سرية حتى لا يتمكن أحد من قراءة مذكراتي”.
تروي كريستوف أنها عندما بلغت سن الواحد والعشرين اضطرت بسبب مشاركتها في أعمال ثورية لأن تهاجر رفقة زوجها وطفلتها لاجئة إلى النمسا، لتستقر في مدينة نيو شاتل السويسرية. تقول “أمس كان كل شيء أجمل/ الموسيقى خلل الأشجار/ الريح خلل شعري/ وفي راحتيك المبسوطتين كانت الشمس”.
عندما تريد والدتها معاقبتها على أمر ما ترسلها إلى الوالد في المدرسة الذي بدوره يجلسها في المقاعد الخلفية مع كتاب مصور وعن ذلك كتبت “هكذا إذن، أصابني دون أن أنتبه مرض القراءة الذي لا شفاء منه في الرابعة من عمري، أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي: جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق مطروحة في الطريق، وصفات مطبخ، كتب أطفال. كل شيء مطبوع”.
عندما كانت تذهب لزيارة أهل والدتها في مدينة تتوفر على الكهرباء والماء يأخذها الجد ويجول بها على بيوت الجيران لتقرأ عليهم الجرائد بطلاقة، دون خطأ وعن هذا الشعور كتبت “باستثناء فخر جدي بي، لم تحمل لي القراءة إلا اللوم والاحتقار من قبيل، إنها لا تفعل شيئا. تقرأ طيلة الوقت”.
وفي هذه المذكرات اعترفت بأنها لا تزال تحس بتأنيب الضمير، حيث يذهب جميع الجيران إلى أعمالهم، وهي تجلس إلى طاولة المطبخ لساعات كي تقرأ الجريدة عوض أن ترتب البيت أو تغسل الصحون، عوض أن تغسل الملابس وتكويها أو تذهب إلى التسوق، عوضا عن تحضير المربى والحلويات، وخاصة عوض أن تكتب.
تقول أغوتا كريستوف “في البدء لم تكن سوى لغة واحدة. الموضوعات والأشياء والأحاسيس والألوان والأحلام والرسائل والكتب والجرائد كانت هي تلك اللغة، لكن عندما بلغت التاسعة ورحلت من قريتها سكنت مدينة يتحدث سكانها الألمانية وبالنسبة إليهم أي المجريين كانت تلك اللغة عدوا لأنها تذكرهم بالاحتلال النمساوي.
وبعد سنة على مغادرة القرية احتل البلاد الروس ففرضت اللغة الروسية في المدارس”، واعتبرت أغوتا كريستوف أن ذلك بمثابة عملية تشويه ثقافي على المستوى الوطني، قوبلت بمقاومة سلمية طبيعية، مقاومة غير مركزة.
وعندما وصلت في سن الواحد والعشرين إلى سويسرا استقرت في مدينة يتكلم سكانها الفرنسية، فتقول “واجهت لغة مجهولة تماما بالنسبة إلي. وهناك بدأ نضالي لقهر تلك اللغة المركبة، نضالا محتدا وطويلا، نضالا استمر طيلة حياتي”، وتضيف “أتكلم الفرنسية منذ أزيد من ثلاثين سنة، وأكتب بها منذ عشرين سنة، ومع ذلك مازلت لا أعرفها حق المعرفة. لا أستطيع أن أتحدث بها دون أخطاء، ولا أستطع الكتابة بها دون الاستعانة بالمعاجم التي أرجع إليها دائما، مكرهة أنا على الكتابة بالفرنسية. إنها تحد تخوضه امرأة أمية”.
وكيف يصبح المرء كاتبا؟ فتجيب “حين نكتب بإصرار وأناة، دون أن نفقد البتة إيماننا في ما نكتبه. ينبغي في البداية أن نكتب، ثم ينبغي بعد ذلك الاستمرار في الكتابة، حتى لا يثير الأمر اهتمام أحد، حتى يتملكنا الانطباع بأن كتابتنا لن تثير قط اهتمام أحد، حتى حين تتراكم المسودات في الدرج وننساها بينما نكتب أخرى”.
___________
نشر بصحيفة العرب