يوسف القويري
منذ سنوات كان الحديث عن “الشخصية الليبية” شيئاً يثير ضدنا عداء بعض المبشرين بالاتجاهات الفوضوية التي لا تعرف كيف يحرك التاريخ قدميه وفي أي اتجاه يمضي !
ولم يكن المناخ السياسي ساعتها قد اتسع وتطور – بفعل الدفع التاريخي – وامتلأ بخطوط منهجية واضحة وصريحة تلتمع بطول الأفق كما هي الآن .
فقد ساعد المبشرون الفوضويون على تحويل المعارك الحقيقة ضد الفقر ، والتخلف الحضاري ، وعلى إخفاء وجهنا الاجتماعي وراء الغبار ، وعلى بقاء خط الأفق دون إضاءة ، وكانت الجماهير التي لا تجد بين يديها منهجاً واضحاً للبناء تزدرد في غمرة التعويض العاطفي ضلالات المبشرين ، وتنظر بتشكيك مؤسف إلى “الشخصية الليبية” وكأنما هي شيء غريب ضار وليست صفة من الصفات كلون العيون وتكوين العظام!
وحينما قدم المفكرون المخلصون لعرش بلادهم ولقاضيا أمتهم الأساسية مفهوم “الشخصية الليبية” لم يكونوا بذلك مستكشفين لشيء داخل رؤوسهم ، بل ملاحظين مهرة للصفات الموضوعية الأصيلة في الواقع الاجتماعي . فـ “الشخصية الليبية” قانون لاجتماعي ليست له علاقة برغبة المفكر في رفضه أو الاعتراف به . وهو بذلك يشبه القانون الطبيعي الذي اكتشفه “نيوتن” وسماه “جاذبية الأرض” !
إن جاذبية الأرض موجودة – كما نعرف – قبل وجود نيوتن وهي لم تبدأ ببدء تفكيره ، وكل ما صنعه نيوتن حينذاك أنه لاحظها وانتزعها وصاغها كقانون طبيعي .
“الاتجاه إلى الداخل”
وبمعنى آخر فإن المفكرين لم يخترعوا “الشخصية الليبية” أو يولفوا خصائصها بقدر ما التقطوها من السياق التاريخي للأمة وأبرزوها وقاموا بتحليل محتواها العميق .
إن تطور البلدان لا يمضي بصورة متوازية ، فهناك عوامل اجتماعية وتاريخية واقتصادية تتحكم إلى حد كبير في مسيرة التطور .
فإذا كانت في فرنسا – مثلاً – طبقة اجتماعية رجعية تهيمن على وسائل الإنتاج العامة فليس بالضرورة أن تكون هذه الطبقة موجودة عندنا . وهي غير موجودة بالفعل لأن ظروف تطورنا التاريخي تختلف عن ظروف تطور فرنسا ، وإذا كانت هناك مشاكل معقدة للرأسمال الأوروبي فإن الرأسمال الليبي لا يعاني مشاكل مشابهة .
و.. “إلى الدواخل”
ولنضرب مثلاً أقرب : قضية الإقطاع في العراق أو في مصر ، هذه القضية شكلتها ظروف استيلاء كبار الملاك الإقطاعيين على الأراضي واستغلالهم الوحشي لملايين الفلاحين وتكوينهم لثروات فاحشة من عرق المزارع الصغير الذي لا يملك شيئاً ، واتساع هذه الطبقة وامساكها المطلق بوسيلة الإنتاج الوحيدة أي الزراعة هو الذي ساعدها لفرض نفوذها على السلطة . إن هذه المشكلة لا توجد في بلادنا أيضاً ، فلم يعرف تاريخنا قضية الإقطاع بنفس الكثافة التي عرفتها البلدان الأخرى ، ولم يخض الفلاح الليبي صراعاًَ من أي نوع ضد أصحاب الأرض المستغلين ، وحين جاءت إيطاليا وحاولت تنفيذ مخطط الاحتكار الزراعي عن طريق إنشاء المزارع الكبرى التي يملكها الإيطاليون فإن صراع الفلاح حينذاك لم يكن موجهاً ضد الإقطاع بقدر ما كان موجهاً ضد الاستعمار الذي انتزع منه الأرض .
وهناك أيضاً عدم استقرار الزراعة ومشاعية التملك للأرض التي كانت سائدة في ذلك الوقت على أسس قبلية ، وهي أشياء ساهمت بصورة حاسمة في تحويل صراع الفلاح إلى مجابهة مستمرة للعوامل الطبيعية القاسية ولبيروقراطية السلطة المركزية التي لم تكن تهتم به كثيراً .
أما القوة البشرية في الماضي فقد كانت تعمل في مجالين : الزراعة غير المستقرة . تجارة القوافل .
وكان الشكل الذي ينتظم ويحتوي هذه القوة هو : القبيلة .
والتوزيع الاقتصادي لها تقاليدها الخاصة في العمل والتعايش ، وهي في نفس الوقت مرحلة بشرية متخلفة وقد تفككت الوحدة القبلية في مجال تجارة القوافل عندما استقرت هذه التجارة في مراكز ساحلية نشيطة وبدأ أفرادها يتحولون إلى تجار لا تساعدهم بأي حال تنظيمات القبيلة التي تحد من حرية اتخاذ مواقف فردية .
وكان تفكك القبيلة في مجال التجارة أسرع من تفككها في مجال الزراعة ؛ لأن المجال الأول لا يهضم الوحدات الاقتصادية الكبيرة خاصة في بدايته ، ولأن الشكل القبلي يعوقه في التنافس والاختيار واستثمار متوفر الربح .
وبالإضافة إلى ذلك فقد ضمت المدن القليلة على الشواطئ بقايا القوة البشرية التي تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية وهي الحرفيين ، والموظفين في الدواوين والموظفين لدى رأس المال الأجنبي الذين كانوا يمثلون النواة الأولى للطبقة الوسطى الصغيرة التي تتردد بين جذورها الشعبية وبين مصالحها مع الإدارات المختلفة التي وفدت على البلاد .
حين نقدم هذا التحليل الجزئي فنحن نريد أن نؤكد به وجود “ظروف خاصة للوطن” ونريد أن ندلل على أن الظروف الخاصة ليست مجرد كلمة .
إن واقعنا المعاصر يتأثر بشكل أو بآخر بتلك الظروف ، وبالتالي فإن ظروفاً جديدة تواجهنا الآن ، وهذه الظروف الجديدة لا يمكن فهمها إذا عزلناها عن الماضي .
إن “الشخصية الليبية” هي النتاج النفسي لظروفنا الخاصة .
فحين نضع الفلاح الليبي أمام الفلاح المصري مثلاً فإننا نجد أن لكل منهما شخصية متميزة ، وليس ذلك لأن هذا ليبي وذاك مصري ، بل لأن تاريخ الفلاح الليبي يختلف عن تاريخ الفلاح المصري ، ولأن الظروف التي أحاطت بهما تتباين ، وكذلك أيضاً لو عقدنا مقارنة بين العامل الليبي والعامل البريطاني ، فالعامل البريطاني وليد تجربة صناعية واسعة وعريقة وخبرته التكنولوجية أوسع وتكوينه الاجتماعي مختلف ، والعامل الليبي منحدر ناشئ من الشكل القبلي وهو رغم انفصاله الاقتصادي عن القبيلة إلا أنه لا يزال مرتبطاً على نحو ما بالبناء الأخلاقي للقبيلة .
ويمكننا أن نطبق ذلك القياس على كافة الفئات الاجتماعية .
إن هذا لا يعني انفصالنا عن تجارب العالم الأخرى ، بل يعني احترامنا العميق لتجارب كل البلدان الأخرى مع عدم إغفالنا لخصائص الواقع الاجتماعي والتاريخي .
وحين أشار سيادة الرئيس محمد عثمان الصيد في خطاب رمسي له منذ عدة شهور إلى قصية “الاتجاه إلى الداخل” كان يلتقي في نفس الوقت مع الخصائص الوطنية للأمة . فقضيتنا داخل الحدود ، والاتجاه العاطفي أو الاتجاه الواعي إلى الخارج لا يحل هذه القضية إنما يعكرها .
وقد تطور هذا المفهوم واتضح في الخطابات الجديدة والتصريحات الصحفية التي حددت على نحو تفصيلي موقف الدولة من جملة قضايا الظروف الخاصة ، الشخصية الليبية القواعد الذرية ، مشروع السنوات الخمس السلام العالمي ، التضامن مع كتلة الشعوب المحبة للسلام ، أسلوب العمل الديمقراطي .
والذي يعنينا في هذا الإطار هو : الشخصية الليبية واحتضان الدولة لأهم مبحث اجتماعي وأخلاقي ومحاولتها الجادة لتطويره على المستوى السياسي .
وأبرز تلك المحاولات هو مشروع السنوات الخمس والاتجاه إلى تشييد قاعدة جزئية للصناعة وتوجيه رأس المال الوطني لخدمة الإنتاج العام وايجاد حل معين يرفض كل شعارات المساومة للمشاركة في تصفية الاستعمار والتساند مع القوى الديمقراطية العالمية في معركتها الفاصلة ضد كافة النظم الاستعمارية .
وأعمق هذه المحاولات على الإطلاق هو إعادة النظر في أعرض قاعدة اجتماعية للأمة وهي الفلاحين ، ووضع الترتيبات العملية لتطوير وسائل الإنتاج الزراعي التي ظلت هامدة ومتخلفة لفترات طويلة من التاريخ .
والرجل الذي بلور هذه المحاولة في كلمات قليلة وحساسة هو سيادة والي طرابلس الغرب الأستاذ فاضل بن زكري ، وكان شعاره الشهير الذي أدلى به إلى جريدة طرابلس الغرب “الاتجاه على الدواخل” شعاراً تطبيقياً يجدد موقف الدولة من القضايا الأساسية ، ومن قضية الفلاحين بوجه خاص .
إن الوطن هو قضيتنا الوحيدة .. ولا اختلاف في أن الأسلوب الديمقراطي هو الطريق الحقيقي لحل أحزاننا الاجتماعية .
نحـن نؤمن بذلك .. ونؤمن أيضاً بأن الأخطاء لا تعالج بإطفاء المصابيح ولعن الظلام ، بل بتعميق إيماننا بالشخصية الليبية وبترابك المفكرين وبالدفاع الذي لا يفتر عن الديمقراطية والدستور .
___________________________
نُشرت في العدد رقم 7 من مجلة الإذاعة الصادر في سبتمبر 1961