امرأة خارج العزلة [*]
ملامح من سيرة الرائدة الليبية خديجة عبد القادر [**]
الجزء الثالث (الأخير)
(… هذا ما يجعلُ الذات تقوم بهذا السعي آخذةً على عاتِقها مهمة التألق، إذ كل تألُق هو موقف تجاه الحياة والتجربة، وهذا الموقف يمثلهُ في أسمى معاني المُخاطرة والمُجازفة ورُوح المُبادرة، “كُن أنت”). نيتشه
• مُشاهدات وأراء خديجة:
كان ماسبق عن مواكبتها للأحداث الفنية والثقافية، ولكن في المجتمع المفتوح انطلقت كاتبتنا بهدف الاكتشاف والمعرفة لكل ما يدور حولها مندمجة في الحياة اليومية للمجتمع البريطانى، فتارة تعلن رأيها المنتقد لتعايش الانجليز مع روتينهم الصارم الرتيب – ونذكر هنا أن خديجة تطرح عنوانها (اللازمة) لرحلتها اللندنية، بانطباعاتها عن بلاد الثلج والضباب والتقاليد بما يوحى – بحسبها – بدلالات الجمود والتجهم والنمطية – وتارة أخرى تنقل لنا ما يدور في ساحة (الهايد بارك) في وصف مستفيض وترجمة دقيقة تصل حد رصد المساجلات الدائرة في عين المكان، وهي من تصف سلوك رواد هذا الفضاء الذي تفتخر به بريطانيا وتخصص له يوم الأحد فخديجة تنتقدهم في أحيان إما لتناقض أفعالهم مع الأيديولوجيا التي يدعونها كانتقادها لدعاة الوجودية فنلمس نقداً علمياً مما يدل على اطلاع ملم بهذا المذهب، أوتعلن تعجبها مما يطرحنه فتيات الهايد بارك اللائي تدعين إلى نبذ مؤسسة الزواج باعتبارها مقيدة وصارمة، مستعيضات بمشاعية العلاقات العاطفية وعلى اتساعها ودون قيد رسمي، كما توثق خديجة لحالة إنسانية أخرى يدعو صاحبها – بنفس الحديقة وذات اليوم – إلى الرأفة بالسجناء وتوسيع الخناق عنهم بإطلاق سراحهم ولو في أيام العطلات فقط. ولم يغب عن اهتمامها المعالم الدينية فنجدها تروي أحداث صلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) في جامع شاه جيهان وهي تغطي مراسم الصلاة بالإضافة إلى وصف المسجد والمواقف والأجواء التي مرت بها بداخله كالتقائها شقيقة الملك محمد الخامس وتعرب عن إعجابها بتواضعها وأفكارها المتنورة.
إن المقام لا يتسع لذكر كل مشاهداتها واحاطاتها بكل ما يجرى في مدينة لندن وضواحيها في هذه الإلمامة السريعة فمن بين المعالم السياحية التي أسهبت في وصفها متحف الشمع البريطاني ولعل من أبرز وأطرف ما ذكرته نبذها لشخصية تشرشل الذي وصفته بأنه عدو للعرب وعدا عن ذلك تجتهد خديجة لتقديم تعريف تاريخي مفصل لفضاء المكان بكل ما فى زواياه وأركانه من مجسمات لشخصيات عالمية متعددة.
• مواقف خديجة:
ورغم انهمامها بالمعرفة الثقافية للآخر من ناحية وانشغالها أيضاً بدراستها والتي سافرت من أجلها والذي يبدو من خلال كتاباتها أن اندفاعها لتحقيق طموحها بالدرجة الأولى هو من أجل الوطن الكبير من مشرقه إلى مغربه (مسؤلية المغترب) فحضورها للفعاليات الثقافية المختلفة واحتكاكها على المستوى الثقافي الفني، أيضاً ما نقرأه عن اهتمامها بالجانب الفكري القومي السياسي الذي يدرس حال ووضع العرب فهاهي تخبرنا بحضورها ندوة عن القضية الفلسطينية وقد اقتادت زميلتها الأمريكية متعمدة من أجل إطلاعها على الحقيقة لشعورها – خديجة – بأن الإعلام المُغرض يروج صورة سيئة مغايرة لحقيقة العرب وهي بالتالي وفي الآن نفسه تريد أن تعرف الأمريكية بحقيقة العرب عن كثب.
وقد ساهمت خديجة في إثبات مصداقية الشخصية العربية وموضوعيتها في الحكم على المواقف والأشخاص إذ تستند في ذلك على الشرعية الإنسانية المجردة من أي انتماء ديني أو عرقي وما يدعم هذا الانفتاح والتسامح الثقافي والاجتماعي بتنوع وتعدد جنسيات وانتماءات صداقاتها اللاتي كن يختلفن في تخصصاتهن الدراسية ولم يجمعهن معها إلا مبيت الطالبات.
ووفاءً لشخصية حقيقية مثقفة وليبية نادرة في وقتها – وربما الآن أيضاً – أذكرُ بعضا من مواقفها النبيلة التي تنم عن شخصية معتزة بانتمائها الوطني والقومي فعندما شاهدت مخطوطات عربية محفوظة في المتحف البريطاني وحين تتعرف أن أحداها عن هارون الرشيد تنقل شعورها باعتزازها بالحضور الثقافي العربي في عمق أوروبا المتحضرة، كذلك وفي حديقة كيو قاردن تترجم لنا حميمية علاقتها بالوطن فنخلةٌ واحدة تثير فيها الحنين إلى التراب الليبي.
إلى هنا وأجدني مُفعمة بالكثير من الاعتزاز والفخر – والاندهاش – بهذه الفتاة وبمزيد من الإعجاب عندما أعرف أن فتاة ليبية عمرها ثلاثة وعشرين عاما تجرؤ على إلقاء محاضرة عن ليبيا في لندن بجمعية التاج النسائية وهي أعرق مركز للنشاط النسوي (مازالت مُوثقة في ارشيف الجمعية) ولها نشاط فعال على مستويات اجتماعية وفكرية، تلك الدعوة التي رتب لها ورعاها المجلس الثقافي البريطاني فقد كان متتبعاً لخطوات خديجة وهي الممثلة لجمعية النهضة النسائية.
ولم تتردد خديجة في الإعلان عن مواقفها السياسية المؤيدة أو المعارضة فهاهي تؤيد الشخصية الفكرية العالمية براتراند راسل عندما سجن من قبل السلطات البريطانية بسبب رفضه لاستعمال السلاح النووي وتعرب عن تعاطفها معه، وتأملوا معي هذه الجملة حين تصف وبشجاعة بالغة تعاطف عامة الشعب تحت عنوان (بريطانيا تسجن السلام) تكتب: “وجد الفيلسوف نفسه في سجنه حرا كما لم يكن حرا من قبل واتسعت جدرانه لتحضن كلمات الناس الطيبين الذين انهالت برقياتهم عليه بعد ان ذابت أقفال الحديد والأسوار العالية لتستقر بين يديه كحكيات حلوه تتحدى أسوار السجن والسجان”.
• اهتمام الإعلام البريطاني بشخصيتها:
عند زيارتها للمجلس الثقافي البريطاني قوبلت بحفاوة بالغة حتى أن إحداهن حملت عنها حقيقبها اليدوية بعد أن بادرتها بإعجاب: أنت الفتاة الليبية؟ فبدا واضحاً وكما تكتب خديجة صاحبة الموقف أنهم على اطلاع بنشاطاتها ومواقفها، ولعل ترشيحها لدورة تدريبية مبكرة (محليا وعربيا) في علم المكتبات مؤشر لذلك الانتباه، ومن مهمة هذا المركز الثقافي الاهتمام بمن هن ذوات وزن ثقافي متفردات باهتماماتهن الفكرية والثقافية، وقد كان من أهم نشاطاتها الإعلامية أحاديث صحفية ومقابلات إذاعية مسموعة إحداهما لهيئة الإذاعة البريطانية/الركن العربي، وأخرى للركن الأوروبي.
• ملامح على هامش شخصيتها:
المُتتبع لسيرة خديجة يلاحظ طموحاً يتطلع ويندفع نحو الأفضل منذ أول لحظة انطلاقها وحتى احتجابها المفاجئ عن العمل الصحفي والإبداعي والذي كان إثر الحلقة الواحدة والثلاثين من سلسلتها الأسبوعية (ليبية في بلاد الإنجليز)، ذلك أن وجود خديجة في مناخ ثقافي يستظل بفكر متنور لذكور العائلة ممثلة بأب منفتح يؤمن بالحرية الشخصية لأبنائه والتي كان أخوها (علي صدقي عبد القادر) امتداداً لهذه الذهنية المنفتحة على الآخر، وقد صاحبتها هذه الذهنية وتسامت فوق كل الإحباطات والظروف الاجتماعية، وهذا التفكير الواعي المنفتح كان دافعاً لها لإبراز ملامح المجتمعات الأخرى في عمومها من ناحية وتوظيف ما استنبطته من إيجابيات في المجتمعات المتقدمة التي شاهدتها من أجل بعث وتحسين وجود ثقافة متنوعة للمجتمع الليبي وفاعلية منجزة للمرأة بخاصة، ويظهر ذلك واضحاً إثر رجوعها من رحلاتها واستيعابها لعناصر التقدم وصور النهضة التي تنشدها وتطمح لرؤيتها واقعا متجسدا في بلدها ليبيا بدءً من تأسيسها لجمعية النهضة النسائية وتمثيلها للمرأة الليبية في بعض المحافل، وأمانتها للمكتبة النسائية بطرابلس ونشرها لسلسلة من المقالات الصحفية التي تميزت بخطاب مغاير لما كان سائداً وعاماً في الدعوة لتحرير المرأة والتي لم تتقاطع مع مشروعها بل شكلت حلقة متصلة مكملة، وتفردها بأول سيرة نسائية رحلاتية (أدب رحلات) كانت الشاهد على مرونتها وقدرتها على التميز دون ذوبان أو عقدة دونية فيها خضوع لثقافة الأخر، فإن كانت خديجة تتعامل بحذر تجاه ماتنفتح عليه من تحولات اجتماعية – كونها تكتب من خلال ثقافتها المشرقية – فإنها تتعامل مع الوقائع الفكرية باعتبارها وقائع إنسانية فتعمل على نقدها أو تفكيك مكوناتها والأخذ منها كلما توافقت في عمقها مع رغباتها وطموحاتها في التقدم والنهضة، وبإيجادها لكثير من المواقف وتعايشها وتفاعلها مع الأحداث فيما نقرأه في سيرتيها (مصر أو لندن) بما يشي بأنها تملك خطابها الموضوعى والعقلانى وتصنع مبادراتها الذاتية بوعى وحماس وهى صاحبة رسالة ومشروع، تؤسس لقواعده برؤية متحررة وقد امتلكت أدوات التخاطب والتواصل بين ماهو ذاتى خصوصى وماهو كونى.
إلى جانب أسلوبها الأدبي المتميز (في حينه) المحتفظ بطلاوته (الآن) فنقرأ مما كتبت العديد من الصور الجميلة التي تنم عن روح شاعرية متذوقة للفن بمختلف تمظهراته. “فالرحلات من خلالها يتعرف القارىء ليس فقط على الأمور التي يعرفها الجميع والتى يستطيع كل انسان أن يصل الى ماهيتها بل وبالذات على ما تعرف عليه ذلك السائح دون سواه وماهية انطباعاته الخاصة”. (البرتو مورافيا- رسائل من الصحراء ص 21)
ولعل الفضل في هذا الزخم المعرفي فيما تنقله وتترجمه يرجع في أغلبه إلى معرفتها الواسعة للغة الإنجليزية التي مكنتها من تحصيل المعلومات على اختلاف مصادرها عند كل معلم تاريخي سياحي وقفت عنده، أو ما تعرضت له من مواقف واقعية عايشتها في عمق المجتمع البريطانى فمن رجل الشارع العادي إلى المعارض في الهايد بارك إلى اهتمامها الخاص بحضور المرأة في المجتمع البريطانى مزكية تنظيمها لوقتها ونجاحها في التوفيق بين عملها وبيتها وأسرتها، واهتمامها بتثقيف ذاتها فلم تخل حلقة من سلسلتها دون اشارة للمرأة في المكان ناقلة لقارئاتها صورها قصد الإفادة من تجربتها وتمثل كل ماهو إيجابى فيها، بما في ذلك مقابلاتها ولقاءاتها التي قامت بها داخل الأوساط الثقافية الإنجليزية.
إن تفاعل فتاة ليبية في عمرها في ذلك الوقت مع مختلف هذه المناخات وسعيها الى إشباع فضولها الأدبى والفنى والعلمى حول الغريب والأخر والهناك يدل على اطلاع مفتوح وواسع على مختلف مباديء العلوم وعلى منهجيتها العلمية التي لا نُغالي إذا ما صنفناها كباحثة منهجية إثنوغرافي في توثيقها الدقيق لكل مشاهداتها وملاحظاتها العينية، فكتاباتها تدل على اجتماع أركان مهمة في شخصيتها المتفردة المعتدة بنفسها والتي أضحت نتاج دراستها والتراكم المعرفي المنهجي بالإضافة إلى حب الإطلاع وروح المغامرة والاكتشاف الميداني والمعرفة التاريخية والانفتاح الثقافي.
غرام خديجة بالتوثيق والسرد لأحداث مرت بها، خديجة من تتعاطف مع حادثة زلزال مدينة المرج لتكتب خاطرتها القصصية (موعد على العشاء)، وبإمعان النظر في تاريخ يوميات ليبية في بلاد الانجليز (وقد صار كتاباً بين ايديكم) لكم ان تقاربوا وتتلمسوا أن هناك تحفز وموهبة للكتابة الموثقة لنشاطها كليبية فاعلة، وأن لها قلماً رشيقاً سلساً، ليس بالكتابة التقريرية والسردية فقط، فهناك وصفٌ وتغزلٌ بما يُلفت انتباهها من جماليات تنسيق وترتيب واناقة أينما وقعت عيناها عليه!.
نشر بموقع ليبيا المستقبل
________________________________________________
[*] مقدمة كتابي ( ليبية في بلاد الانجليز – خديجة عبد القادر) – صدر 2009.
[**] خديجة عبد القادر مواليد 1938م طرابلس- أول مُوفدة للدراسة العليا (بالخارج) 1956م معهد سرس الليان، مصر – مؤسسة لجمعية نسائية، بطرابلس1958م (حسب ما أوردت في كتابها المراة والريف والمرفق بالاشهار القانوني للجمعية ولوائحها التنظيمية،- اول مندوبة متخصصة تنموية تمثل المرأة الليبية في مؤتمر دولى 1959م مصر – مؤسسة المكتبة النسائية الاولى، طرابلس 1959م، لها اصدار وحيد: المرأة والريف في ليبيا 1961م مطابع الأهرام – بيروت 1961م – بدأت النشر الصحفي (طرابلس الغرب) عام 1959م، وكان آخرها 1963م سلسلة حلقات ليبية في بلاد الإنجليز، ولها قصة قصيرة بعنوان دعوة على العشاء.