قراءات

الدكتور عبد الرحمن بدوي: “سيرة حياتي” .. أيام الدكتور في ليبيا

اكملت قراءة السيرة الذاتية للدكتور عبدالرحمن بدوى المعنون بـ”سيرة حياتى” المكونة من جزئين كبيرين ، الصادرة فى العام 2000 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

غلاف كتاب_سيرة حياتي

ماجذبني لقراءة سيرة الدكتور بدوي رحمة الله عليه، الطويلة نسبيا،هي الأيام التي قضاها بدوي في ليبيا. فالدكتور بدوي صاحب مكانة قيمة علمية فكرية رفيعة، وهو يعد من أبرز الباحثين و المفكرين العرب في القرن العشرين، وأغزرهم إنتاجاً، إذ تخطى نتاجه حاجز ال 100 كتاب أوصلها البعض إلى أكثر من ذلك الرقم في اشارة لوجود عدد من كتبه وابحاثه لم يجد طريقه للنشر بعد. و توزعت كتاباته واهتماماته ما بين التأليف والترجمة والتحقيق والإبداع أيضاً، وقد اعتبره البعض أول فيلسوف وجودي مصري منذ شيوع عبارة قالها له طه حسين أثناء مناقشته بحثه حول (الزمن الوجودى) لنيل درجة الدكتوراة الخاصة به في 29 مايو 1944 قائلا: “أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى”.

فإهتمامي كباحثة في التاريخ، التاريخ الليبي المعاصر والحديث، دفعني لقراءة مذكرات الدكتور بدوي في إطار تجميع شهادات من عاصروا مرحلة بناء دولة الإستقلال والتغيرات التي طرأت على المجتمع الليبي خلال تلك الحقبة التي أنتهت بإنقلاب سبتمبر 1969م. كما أن الدكتور حل ضيفا على ليبيا في فترة في غاية الأهمية من تلك الحقبة، من سبتمبر 1967 إلى مايو 1973، فترة إرهاصات الإنقلاب، تأثر الرأي العام الليبي بالمد القومي الناصري وحالة الغضب العام في الشارع العربي عامة بسبب هزيمة 1967، وفترة الإنقلاب و من بعدها بدايات الإستبداد في ليبيا.

ملاحظات بدوي حول تلك المرحلة وجدتها مهمة ومفيدة في مجملها، يعتريها الإسهاب في نواحي لا علاقة لها بالمرحلة، لكن المذكرات لفتت إنتباهي لمسائل هامة، مثل إمتناع بريطانيا عن إنقاذ نظام الملك بالرغم من أنها تمتلك قاعدة كبيرة في شرق البلاد والشلحي استنجد بهم، إسراع القيادة المصرية في دعم الإنقلابيين، وهم حفنة من الضباط صغار الرتب ومجهولين مشيراا إلى زيارة عبد الناصر ليبيا في ديسمبر 1969، بعد أقل من أربعة أشهر من الإنقلاب وبعد أيام من إحباط محاولة آدم الحواز الإنقلاب على القذافي، وتأثير إندفاعات القذافي في مشاريع الوحدة، مع مصر وسوريا والسودان، على عموم الشعب الليبي حيث زرعت الكراهية عند الليبيين ضد أشقائهم العرب وتجلت تلك الكراهية في أعمال العنف ضد المصريين إثر سقوط الطائرة الليبية فوق صحراء سيناء.

ما كتبه عن تأثير الإجراءات والخطوات الإستثنائية، التي أتخذها القذافي للسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، على عامة الشعب مهم جدا حيث بثت الخوف عند الناس، فكتب عن مشاعر الناس صبيحة إعلان القذافي عن “الثورة الثقافية” يوم 15 أبريل 1973 “استيقظ الناس صباح الإثنين 16 أبريل ليجدوا بلدهم بغير قوانين تحكمها، ولا موظفين مطمئنين في وظائفهم، ولا محاكم تتولى الفصل في منازعاتهم، بل فوضى شاملة ….. قرار لا مثيل له في التاريخ البشري.” وهو ما مكن القذافي من المضي قدما لتأسيس نظام حكم شمولي سيطر على البلد أربعة عقود من الزمان.

بخلاف الإسهاب في بعض النواحي، بدوي لم يحسن تناول بعض القضايا بموضوعية و ومنهجية علمية، ربما بسبب طبيعة شخصيته الحادة، وربما بسبب المعاملة السيئة التي تم معاملته بها من طرف شرطة النظام الإنقلابي، حيث تم إعتقاله بدون إبداء أي أسباب لمدة 17 يوما، مباشرة بعد الإعلان عن “الثورة الثقافية”، وأفرج عنه يوم 5 مايو 1973م وأعطوه مهلة 72 ساعة لمغادرة ليبيا.

كان بدوي واسع الثقافة والعلم، وأكثرإلماماً بالتراث العربي والغربي على السواء، بالاضافة الى اجادة الدكتور بدوي للغات عدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية واليونانية واللاتينية بالإضافة إلى اللغة العربية،رحل عن دنيانا عن عمر يناهز 85 عام في القاهرة بعد عودته عام 2002من منفاه الاختياري في باريس التي اختار الاقامة بها.

******

السيرة الذاتية للدكتور عبدالرحمن بدوي المعنون بـ”سيرة حياتى” مكون من جزئين كبيرين و الصادر في عام 2000 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

تصل عدد صفحات الكتاب إلى 765 صفحة، حيث لا يحتوى على مقدمة، ولا خاتمة، ولا فهارس هجائية للأعلام أو للألفاظ، ولا حتى قائمة محتويات، ممايرجح احتمال أن الدكتور عبدالرحمن بدوي كان يفكر في كتابة أجزاء أخرى لاحقة للسيرة. الكثير من أجزاء الكتاب كُتبت على فترات متقطعة، حيث يعكس جانب كبيرمماورد في المجلد الاول قيام الدكتور بدوي بـتأليفه قبل حوالي ثلاثة عقود من تاريخ النشر، كما يسود الكتاب خلل كبير في بنائه الفني، فهناك حشد من الاستطرادات الطويلة المملة التي لاطائل من ورائها. فهو يتناول مواضيع خارج سياق السيرة التي يفترض ان تتمحورحول حياته الشخصية وانجازاته العلمية. فهو إن وصل إلى ميونيخ ليقيم بها قرابة الشهرين، أسهب في الحديث عن الأهمية السياسية والعلمية والفنية للمدينة. وإن هو زار بيروجيا يحدثنا عن موقعها الجغرافي وتاريخها السياسي ويزودنا بقائمة بعناوين المحاضرات العامة التي حضرها، وبصفحة عن موسم الموسيقى المقدسة فيها، ثم يزور البندقية ليوم او اثنين عام 1946 فيرى ضرورة لأن يذكر أهم مبانيها وكنائسها، ومن اشتهر من أدبائها ومفكريها وعلمائها وأشهر مكتباتها وطوائف رهبانها، ولايكتفي بذلك بل يسرد علينا في سبعا وثلاثين صفحة العطلات التي قضاها في هولندا.

كما يسرد الأحوال السياسية والاقتصادية في ليبيا وقت اقامة الدكتور بدوي فيها، و يستعرض مختلف القبائل واللهجات والطرق الصوفية وأشهر أعلامها، ويتطرق للتركيبة السكانية والقبائل واللهجات ويتحدث عن اليهود في ليبيا بشيء من التفصيل وعن صلاتهم بالحركة الصهيونية، كما أسهب في عرض تاريخي للمذهب الإباضي وأعلامه، وتحدث عن الطرق الصوفية وعن دراساته لتاريخ الفلسفة في ليبيا وإسهاماته في اثنتين وستين صفحة. هنا ربما يرى البعض بأن الاستطرادات المملة خارج السياق تقدم معلومات مفيدة عن التاريخ والمجتمع في ليبيا خصوصا مع شح الدراسات والابحاث العربية حول ليبيا في تلك الفترة التاريخية، لكن القاريء للسيرة الذاتية سيصُدم بما دونه الدكتور عبدالرحمن بدوي عن ايامه في ليبيا، فهو يصم شعب بأكمله بالعقم ويراها بلاد لاقيمة لها، ويتسرع في اصدار الاحكام، وتكوين آراءه عن البلد منذ لحظة وصوله لبنغازي حيث سيعمل ويقيم لمدة ستة أعوام،ويساهم في إثراء المكتبة الليبية بمؤلفات قيمة، مع جهوده في التدريس بقسم الفلسفة بجامعة بنغازي .

وربما مادفعه لهذا الحكم القاسي ماتعرض له من معاملة مهينة على أيدي رجال الامن حيث ألقي القبض عليه في ابريل 1973 ضمن حملات المداهمة التي طالت الجميع حينها إثر إعلان القذافيعن ثورته الثقافية في ليبيا، إذ تم اعتقال الدكتور بدوي لمدة سبعة عشر يوما،و يرجح هو ان سبب الاعتقال نتيجة لتهمة لفقت له من قبل زملائه العرب. طبعاً شخص حاد الطباع مثله ليس بالغريب أن يتعرض للكيد من أقرب الناس إليه،أو قد يكون أحد الطلبة الفاشلين في الكلية ممن انضموا لركب الانقلاب وتحولوا لمخبرين على اعضاء هيئة تدريس جامعة بنغازي وطلابها، هو من كتب ضده تقرير كيدي. كان معروفا عن الدكتور عبدالرحمن بدوي بأنه ذو مزاج حاد عنيف في الكره او الحب حيث يصفه الدكتور علي فهمي خشيم، احد تلامذته في الجامعة الليبية، بأنه : ” شخص مشحوناً بالغضب، حاداً في نقده وانتقاده، متبرما ً بكل شيء، شديد الظلم لمن عاصر من شخصيات *”.

***

يقرر الدكتور عبدالرحمن بدوي التقدم للعمل بكلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي بسبب ضيقه من المناخ العام بمصر في تلك المرحلة من الحكم القومي تحت قيادة عبدالناصر.

د.عبدالرحمن بدوي

و تنعكس تقلبات المزاج الحاد للدكتور بدوي منذ لحظة وصوله الى مدينة بنغازي في سبتمبر 1967، على الانطباعات الاولى حول بنغازي، فهو يصف الفندق الذي نزل فيه بشارع الاستقلال بالفندق الضيق الكئيب، مبديا ريبته وظنونه تجاه سكان المدينة من الساعات الأولى لوصوله إليها فهو لايتوانى عن اتهام موظف الفندق بالخداع لاقتراح الموظف على بدوي ان يستقل تاكسي للوصول الى الجامعة التي تقع على بعد أمتار من الفندق .

لكنه سرعان ما يعود للثناء على مدير الجامعة الليبية آنذاك “عبدالمولى دغمان” إذ يقول عنه :” ..كان أول مدير ليبي كفء، مختص يتولى هذا المنصب بعد ان تولاه قبل ذلك أشخاص لا شأن لهم بالعلم ولا بالجامعة، وقد مسح هذا اللقاء الاول الجميل بالأستاذ دوغمان الانطباع السيئ الذي بدأ يساورني”، حيث أشعره بالاطمئنان وغمره بالتقدير والاحترام طوال العامين الأولين من أعوام اقامته الستة في ليبيا اللذين كانا بحسب مادونه في سيرته بمثابة “.. الفترة المضيئة الخصبة في مقامي هناك أما السنوات الأربع التالية (من سبتمبر 1969 حتى أوائل مايو 1973) فكانت فترة قلق وتبرم بالمقام هناك وتربص متلهف للافلات من ليبيا، لكن لم تسنح لي فرصة في دولة أخرى، فاضطررت الى مواصلة العمل هناك كارها، لأني كنت عازما على عدم العودة الى مصر..”.

في الصفحات الخاصة بليبيا يقدم خلفية تاريخية مكثفة عن الأحوال السياسية وظهور الحركة السنوسية في نهايات القرن التاسع عشر، مشيرا ً للوضع الاقتصادي للبلد قبل وبعد اكتشاف النفط، ولاينسى ان يتناول القبائل ودورها في السلطة التي يقسمها كالتالي:

1)الملك وحاشيته . 2) زعماء القبائل 3) النفوذ البريطاني 4) النفوذ الأمريكي .

ويتناول بشكل مكثف رؤساء الوزراء وانتماءاتهم القبلية ودورها في وصولهم لهذا المنصب، ويستعرض بشكل سريع صلاحيات الملك الحاكم الفعلي المطلق رغم الصلاحيات الممنوحة نظريا للملك في ضوء الدستورالليبي أنذاك.

ليمر بعدها على سكان ليبيا والعناصر الاساسية في التركيبة السكانية،ولا يغفل حتى تعداد الكاثوليك والبروتستنت واليهود حسب احصاء صادر عام 1966 .

كما يستعرض وضع اليهود الليبيين في ظل الانظمة الحاكمة المتعاقبة على ليبيا، و يتناول تفاصيل مركزة حول العلاقات بين الليبيين سواء من المسلمين او اليهود، وتأثير قيام اسرائيل باحتلال فلسطين على هذه العلاقات، وتحولها الى صدامات وسعي لاخراج اليهود من البلد.

ليأتي بعدها لتناول المذاهب الإسلامية في ليبيا منها: الإباضية،التي يسرد لنا بشكل مكثف تاريخ ظهور هذا المذهب في ليبيا، وأبرز العلماء الاباضيين من المسلمين الوافدين على ليبيا لنشر هذا المذهب، بالاضافة إلى تناول العلاقة بين هذا المذهب وتاريخ المنطقة في العصور الوسطى الاسلامية. ويرى الدكتور بدوي بعد دراسة متفحصة لهذا المذهب بإنه الأقرب الى مذهب أهل السنة، بل ويصفهم بأنهم أهل اعتدال، ويحاول تعليل أسباب انتشار هذا المذهب بين البربر لمساواته بين المسلمين كافة في الترشح للخلافة،في حين تقول باقي فرق الاسلام أن الخلافة لاتجوز إلا لمن كان من هو من قبيلة قريش العربية، لهذا فطبيعي، من وجهة نظر الدكتور بدوي، أن يرحب البربر بمذهب يفتح أمامهم فرصة الترشح لخلافة المسلمين.

ويواصل الدكتور عبدالرحمن بدوي تناول النشاط الفكرى والسياسي لإباضية ليبيا، يتناول نشاط أبرز واشهر الاسر البربرية وهي أسرة الباروني ويستعرض بعض الاسماء كسليمان وأبوه عبدالله كشعراء وعلماء فقه ولغة، بالاضافة لتناوله لشخصية من بربر جبل نفوسة هو الدكتور عمر النامي إذ كان معجبا ايما اعجاب بالنشاط العلميوالفكري للدكتور النامي.

كما يتطرق لشخصيات صوفية كالسيد عبدالسلام الاسمر و أحمد الزروق،يسهب في تناول الطرق الصوفية في ليبيا كالشاذلية وباقي الطرق الأخرى على رأسها من حيث السلطة وسعة الانتشار :الطريقة السنوسية. فيشير الى ظهور ونشأة هذه الطريقة وكيفية انتشارها في ليبيا، وعن اهم ملامح مذهب السنوسية فهو يستغرب من “امتزاج الوهابية مع التصوف السنوسي”، رغم إقرار محمد بن عليالسنوسي بإنه على مذهب المالكية، ويتناول بدوي جهود السنوسية في التصدي للاستعمار الاوربيفي وسط افريقيا،بالدخول في معارك وحروب تمتد حتى وقوع ليبيا تحت الاستعمار الايطالي. ويشرح الدكتور بدوي عن سبب فقدان الطريقة السنوسية لطابعها الحربى بعد اعلان استقلال ليبيا، إذ يذكر قيام السيد ادريس السنوسي بادماج المجاهدين في الجيش الليبى الموحد، ويفسر عدم حدوث أى مقاومة ضد انقلابيو سبتمبر 1969، فلو استمر المجاهدون على الولاء لزواياهم لقُضي على هذا الانقلاب فور وقوعه، لارتباط الزوايا بالسيد ادريس رئيس الطريقة السنوسية آنذاك .

ويرى الدكتور عبدالرحمن مبالغات بعض المستشرقين والعلماء والمؤرخين حول انتشار هذه الطريقة ووقوتها وتأثيرها، ويحاول ترجيح أسباب إنتشار هذه الطريقة الصوفية في مناطق كثيرة من افريقيا وباقي أنحاء العالم الاسلامي .

كما لايغفل عن تناول اللغات واللهجات، فيشيرلوجود لغتان مستقلتان هما:البربرية و العربية، ويبديبدوي دهشته من بقاء اللغة البربرية حية رغم وجودها في محيط عربي خالص، وقد حاول إيجاد تفسيرات لهذا الجانب. كما اشار الى تقارب لهجة أهل برقة في الشرق من اللهجة المصرية،في حين كانت لهجة أهل طرابلس في الغرب اقرب للهجة التونسية. ورغم محاولته لعقد مقارنات بين اللهجة المصرية و لهجة أهل بنغازي إلا أنه لم ينجح في فهم وتفسير كلمات وأشعار من بادية برقة، اغاني العلم الشعبية، كما لاينسى ان يشير الى تأثير الايطالية والتركية واستعمالاتهافي تلك الفترة من اقامتهم بليبيا.

ثم يخصص بعدها جزء من السيرة لتناول تركيبة السكان في بنغازيفيتناول بشكل سريع ومختصر أبرز الأسر البنغازية واصولها القبلية، ليشير للصفات الجسمانية لسكان المدينة، كما يشرح احوال المدينة من النواحي الاقتصادية وأساليب حياة السكان، ونوعية الحياة المتوفرة أنذاك .

بعد تلك المقدمة المسهبة حول الاوضاع العامة لليبيا،يخصص الدكتور بدوي جزء كبير من ذكرياته للحديث حول عمله في الجامعة الليبية كاستاذ، ثم رئيس لقسم الفلسفة من سبتمبر 1969 الى مايو 1973، درس خلالها طلبته المنطق والفلسفة الحديثة والمعاصرة ومناهج البحث العلمي والتصوف وعلم الكلام وفلاسفة الاسلام.

ويتناول التخصصات وتوزيع الكليات و النظام الأساسى للدراسة بالجامعة، وعن جنسيات أعضاء هيئة التدريس،كما يذكر الدكتور عبدالرحمن دوره في إثراء مكتبة الجامعة التي لم تكن تتجاوز الكتب فيها خمسة آلاف كتاب وقت وصوله للعمل بالجامعة، فعمل بمعاونة مدير الجامعة على تحويلها الى مكتبة جامعية حديثة تحتوي على اكثر من ثلاثين ألفا من الكتب الرئيسية والمراجع ودوائر المعارف، ويقول عن هذا الجانب :” .. لما وصلت في سبتمبر سنة 1967 وجدت مكتبة الجامعة فقيرة جدا ً في الكتب الجيدة والمراجع لكن بفضل معاونة مدير الجامعة أنذاك،عبد المولى دغمان، استطعت ان أجعل المكتبة تستورد عشرات الآلاف من الكتب الممتازة والمراجع الأساسية ودوائر المعارف، خصوصا في الفلسفة والأدب اليونانيواللاتيني والآداب الأوربية الحديثة وكل ما أمكن الحصول عليه من دراسات المستشرقين في الموضوعات العربية والإسلامية . وهكذا يحق لى أن افخر بأنني صاحب الفضل الأكبر في جعل مكتبة الجامعة الليبية تنتقل من حوالي خمسة آلاف كتاب في العلوم الأنسانية إلى حوالي ثلاثين ألف لما ان غادرت ليبيا يوم الثامن من مايو من عام 1973..”.

هذا إلى جانب قيام بدويباحياء مجلة (كلية الاداب) السنوية المتوقفة بعد صدور عدد واحد منها منذ عشر سنوات، فأشرف مع الدكتور مختار بوروعلى اصدار عدد لعام 1967 وعدد ثانى لعام 1968، حيث استكتب فيهما باحثين غربيين بارزين على رأسهم “ارنولد توينبى” المؤرخ البريطاني الشهير، و” فرنشيسكو جبرييلى ” المستشرق الإيطالي، كما كتب بدوي في العددين بحثين متميزين عن “الفلسفة القورينائية الليبية” و”ليبيا في مؤلفات ارسطو”.

كما شارك في إلقاء المحاضرات العامة : الأولى في ديسمبر عام 1967 بعنوان :”تأملات في الحضارة العربية “، والثانية في مارس عام 1971 بمناسبة مرور خمسة عشر عاما ً على إنشاء الجامعة الليبية، وعنوانها: “فكرة الجامعة ورسالتها” ضاع نص كلتيهما من ضمن ما استولت عليه شرطة بنغازي من كتب بدوي عند مداهمة بيته في ابريل من عام 1973.

كما يخصص الدكتور بدوي جزء ليعرض لنا مؤلفاته في تاريخ الفلسفة في ليبيا حيث يقول:”لما كانت برقة إبان الحكم اليوناني من المراكز البارزة للفكر اليوناني، فقد رأيت واجبا ً على أن ادرس تاريخ الفلسفة في ليبيا في العصرين اليوناني والروماني..”، ويتناول في عرض مكثف مجىء الاغريق الى شرق ليبيا والأسباب وراء هذه الهجرة، ويستعرض تاريخ القبائل الليبية في تلك الفترة، ثم التاريخ السياسي للمدن الاغريقية منذ حكم أسرة باتوس حتى انتقال الاقليم لحكم البطالمة بمصر، وينتهي السرد بالفتح الاسلامي لبرقة، معرجا ً على أحداث الثورة اليهودية في الاقليم في العصر الروماني، ولايكتفي بهذا الحد من تاريخ الاقليم إذ يستطرد في عرض أهم الشخصيات الثقافية والفلسفية التي تنتمي إلى قورينا، متناولا فترة المسيحية في ليبيا في عرض مركز حول العلاقة بين الاسكندرية و قورينا وباقي مدن الاقليم .

وبعدها يستعرض بدويأهل العلم في طرابلس وبرقة مستعرضا لأهم الاعلام وإنتاجهم الأدبيالذي يراه هزيلا لايناسب التاريخ الطويل للاسلام في ليبيا فهو يختم حديثه بالقول أن ليبيا منذ الفتح الإسلامي وحتى العصر الحديث لم تشهد نشاطاً علمياً يذكر، بل هي بلد عقيم، حسب رأيه، حيث حاول تعليل هذا الشح في الانتاج العلمي والأدبيبأسباب عديدة، محاولا ً ربط الماضي بالحاضر في الجزء الخاص الأحوال العلمية في العصر الحاضر أي وقت وصوله الى ليبيا عام 1967، ناسيا أن البلد لم يكد يعرف الاستقرار والانتعاش بعد استعمار وحشي، و حربين عالميتين دارت رحاهما على أرضه فدمرت كل شيء، وتسببت في خفض عدد السكان الى أقل من مليون نسمة. فالمقارنة بين ليبيا في العصر الاغريقي او حتى الروماني لاتتناسب مع ليبيا في العصر الحديث بعد حصولها على استقلالها، لاختلاف الاحوال السياسية و الاقتصادية في كلا العصرين. مع الاسف خرج الدكتور بدوي عن الموضوعية والرصانة العلمية عند تناوله للمناخ العلمي والثقافي للبلد في تلك الفترة أي نهاية الستينات، وربما ماتعرض له من اعتقال ومصادرة كتب واضاعة أوراقه وابقائه في السجن أكثر من اسبوعين، حرك في أعماقه نوازع الغضب المغلف بالتجني المعروف عن شخصية الدكتور بدوي، فكتب تقييم قاسي لتجربة الشاعر الليبى أحمد رفيق المهدوي دون مراعاة لفروق وظروف بلد كليبيا عن بلده مصر يحاول سكانه إعادة بناء كل شيء من النظام السياسي وحتى انعاش الحياة الثقافية و إحياء هوية وطنية من خلال الأعمال الأدبية، والشخصيات العامة كرفيق، فيقول في سيرته :”.. كيما اعرف قيمة شعره. واذا بي لا أجد فيه الا قصائد ركيكة النسج، مبتذلة العبارة، تافهة المعاني. انه شاعر في الطبقة الدنيا من الشعر. فواعجبا كيف اشادوا به ومجدوه حتى كان بعضهم يقول عنه انه «احمد شوقي ليبيا» وهذا امتهان لاسم احمد شوقي لم يعرف مثله في اي مكان. وقد يقال ان القوم لا يعرفون شيئا عن احمد شوقي غير انه امير الشعراء، وأحمد رفيق هذا امير شعرائهم، فهو اذن احمد شوقيهم”.

ولاينسى تخصيص بضع صفحات لتناول موضوعالشخصية الليبية الذي طرحه رئيس الوزراء عبدالحميد البكوش (1933-2007) للمرة الأولى للنقاش العلنيفيعام 1967 ، ربما مدفوع بمخاوف من تنامي المد القومي الناصري، وتنامي حملات التشويه والمزايدات في إذاعة صوت العرب،التي كانت تُسمع على نطاق واسع ولها جاذبية كبيرة عند الغالبية العظمى من الشعب الليبي،ممادفع البكوش لطرح هذه القضية محاولا خلق انتماء وطني عميق لدى الليبيين، ونجد للدكتور بدوي تفسير يبتعد عن المنطق والعقلانية. فهو يرى في هذه الدعوة مجرد تقليد اعمى للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، باعتبار البكوش من أصول تونسية بحسب زعم الدكتور بدوي .

بعد ذلك يسرد لنا الدكتور بدوي من الصفحة 168 حتى الصفحة 222 تفاصيل عن عطلات شتوية وصيفية قضاها مابين عامي 1968 و 1969 في باريس و روما ومدريد، مليء بالكثير من المعلومات المسهبة حول التاريخ السياسي و الحالة الاقتصادية لتلك المدن وبلدانها، مستعرضا الاوضاع السياسية حينها، مع الكثير من التفاصيل المفرطة في طولها حول العمارة والفنون بكافة أنواعها في تلك المدن، حتى ينسى القارىء حديثه عن ليبيا، ولايتذكر بإن الدكتور بدوي مازال يسرد لحياته في ليبيا في أواخر الستينات .

وتحت عنوان العودة إلى ليبيا يتناول بدوي الانقلاب وأبرز المحطات في تلك المرحلة التي عاصرها بليبيا. فهو يتطرق لمحاولة آدم حواز الانقلابية في ديسمبر عام 1969، و التأييد القوي للقيادة السياسية المصرية لانقلاب 1969،والذي تمثل في قيام جمال عبدالناصر بزيارة بنغازيفي ديسمبر من عام 1969 أى بعد مرور اربع اشهر من انقلاب الضباط المغمورين بالجيش الليبي أنذاك .

ويطرح بدوي تساؤل مهم حول موقف بريطانيا من الانقلاب رغم وجود قاعدة عسكرية في”قاعدة العدم” شرق برقة،فمع وجود الملك ادريس خارج البلاد في حينها واستنجاد الشلحي ببريطانيا للاطاحة بالانقلاب، إلا أنها اعتصمت بالحياد التام أمام هذه الأحداث، ممايجعل الدكتور بدوي يرغب في الحصول على تفسير مقنع من هذا الموقف لبريطانيا مع احد حلفائها بالمنطقة.

ويستعرض الدكتور عبدالرحمن بشكل مكثف المشهد العام في البلد في تلك المرحلة، إذ يشير “قانون حماية الثورة” والذي بموجبه يحكم بالاعدام على كل من يقاوم الثورة بالسجن، وبالسجن على كل من ينتقد الثورة او يشترك في مظاهرة او اضراب موجهين ضدها.

وهذا القانون ربما يفسر حالة الخوف والذعر الذي اجتاحت الليبيين فلم يعتادوا مثل هذه الاجراءات التعسفية الظالمة في فترة الحكم الملكي لدولة الاستقلال، فالانقلابيون لم يكتفوا باصدار القانون فقط، إذ ارفقوه بحملات اعتقالات واسعة طالت الوزراء والساسة وكبار ضباط الجيش الليبي، وامتدت لآساتذة الجامعة و الكتاب والصحفيين وافراد الاسرة السنوسية ورجال اعمال وكبار التجار.

ووسط هذا المناخ الخانق الذي ذكره بالمناخ السائد في مصر في تلك الفترة والذي كان من اسباب تركه لبلده، سافر بدوي الى الولايات المتحدة الامريكية في رحلة علمية تلبية لدعوة لحضور مؤتمر للفلسفة الإسلامية وكعادته يملأ الصفحات التالية بسرد الكثير من المعلومات المفرطة في اسهابها حول تاريخ واحوال البلد ولايترك جانب لايتناوله في سرد مكثف يجعلني اعجز عن متابعة التركيز حول ذكرياته عن ليبيا حتى يصل الى العودة لبنغازي حيث يصف تحت عنوان وانزاح الكابوس وقع خبر وفاة عبدالناصر عليه فور سماعه في بيته ببنغازيفي سبتمبر من عام 1970.ويتناول الدكتور بدوي قضية الوحدة بين مصر وسوريا والسودان وليبيا، ثم تأثيرها على علاقات الجيران بعضهم ببعض. فيسرد الدكتور عبدالرحمن لحوادث العنف وأجواء الكره التي سادت مناخ بنغازيفي بدايات السبعينات بسبب هذه الاجراءات من قبل القذافيالذي لم يستفتيالشعب الليبيحول الوحدة ومايترتب عليها من ارتباطات والتزامات، فيذكر الدكتور بدوي تعرض عدد من المصريين للضرب على أيدي الليبيين بعد حادثة اسقاط الطائرة الليبية فوق سيناء من قبل طائرات حربية صهيونية. وبعد ذلك يتحدث الدكتور عن مشاريع الوحدة بين الدول العربية وعن تصرفات قائد الانقلاب تجاه مصر، مستطرد حول ماشاب العلاقات المصرية – الليبية في عهد السادات من فتور وحذر وترقب انتهي بصدام عسكري افتعله القذافي و سعى له.

ويختم الدكتور بدوي بسرده لفترة اقامته في ليبيا بعنوان ثورة ثقافية يعرض بشكل مختصر ومكثف لخطة القذافي في الاستيلاء على البلد وتحطيم مؤسسات الدولة، من خلال ماعُرف باعلان زوارة أو الثورة الثقافية مساء 15 أبريل من العام 1973 ليصف بدقة ماحدث من زلزال هز استقرار البلد حتى يومنا هذا .

ولم تمضى ثلاثة أيام على الاعلان حتى يطرق ضابط شرطة بملابس مدينة باب شقة الدكتور بدوي، وينتهي بتفتيش بيته و مصادرة بعض كتبه وأوراقه، والقاء القبض عليه وارساله الى سجن الكويفية الذي حول جزء منه لمعتقل سياسي مؤقت في تلك الفترة، ليظل في السجن لمدة سبعة عشر يوما وساعتين و24 دقيقة كما حسبها في مذكراته وهو يذكر كيف تحفظ ضابط المباحث العامة على سائر ما وجده من كتب ارسطو لانه ظنه بحسب التعليمات انه سارتر المتهم ككاتب وجودي خطر على اذهان الطلبة،و يقول بدوي: “..واحترت في تفسير ذلك وقلت في نفسي: وما ذنب ارسطو وما شأنه بما يجري في ليبيا من احداث..”، وظل الدكتور بدوي يطرح السؤال حول سبب اعتقاله على كل من قابلهم من مسئولين ليبيين ولكنه فشل في العثور على اجابة محددة وواضحة .

تم اطلاق سراحه في 5 مايو 1973 وطلب منه مغادرة البلاد في ظرف 72 ساعة، حيث غادر ليبيا عائدا ً للقاهرة .

***

قائمة مؤلفات الدكتور عبدالرحمن بدوي حول ليبيا:

– المدرسة القورينائية (صدرعام1969).

– الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة (صدرعام 1969).

– تاريخ الفلسفة في ليبيا (الجزء1) كرنيادس القورينائى (صدر عام 1971).

– تاريخ الفلسفة في ليبيا (الجزء2) سونسيوس القورينائى (صدرعام1971).

————-

*د.على فهمى خشيم ، هذا ماحدث “سيرة ذاتية” ، طرابلس ، منشورات دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2004.

**الصفحات الخاصة بليبيا من ص103-248 من كتاب سيرة حياتى ، عبدالرحمن بدوى ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، جزئين.

مقالات ذات علاقة

صالح بن دردف… وحكايات بنغازية (1)

سالم قنيبر

اسم لا يغيب

يوسف الشريف

رواية “زرايب العبيد” للكاتبة “نجوى بن شتوان”

المشرف العام

اترك تعليق