تاريخ

الخرافة والرمزية والهويّة في إيطاليا وليبيا مابعد الإستعمار

مفتاح السيّد الشريف

تحت هذا العنوان: Staging Memory: Myth, Symbolism and Identity in Postcolonial Italy and Libya – نزل أخيرا إلى الأسواق الأوربيّة كتاب الباحثة الإيطاليّة “ستيفانيا ديل مونتي”. وهي من الكتّاب المعادين للإيديولوجيّة الإستعماريّة. وقد أهدت الكتاب إلى “شعب ليبيا، إذ أن ذكرياتي في الغد هي من صُنع أحلامي اليوم”، وقدّم له المؤرخ الليبي مفتاح السيّد الشريف بملاحظات نقديّة إختصرتها المؤلفة واختارت لها عنوان “الذاكرة وسوء التمثيل وتشويه الهويّة والقمع المطلق”. ويسرّ (ليبيا المستقبل) أن تنشر فيما يلي المقدّمة كاملة في نصها العربي:

عن المصدر
عن المصدر

“ما جذبني إلى هذه الدراسة أنها، إلى جانب تحليلها لمسائل الذاكرة، فهي تطرح قضيّة تقصير متعمّد وتجاهل معيب من إيطاليا الدولة الأوروبيّة العريقة في الحضارة والثقافة، لحقائق تاريخها الإستعماري في ليبيا، حتى بعد أن تخلّصت من سيطرة الديكتاتوريّة الفاشيّة لحوالي سبعة عقود. ولقد استطاعت الباحثة ستيفانيا ديل مونتي في تحليلها لهذه الظاهرة الإيطاليّة، أن تشخّص بدقّة بواطنها وأعراضها. ويسرّ شخصا ليبيا مثلي أن يثمّن هذا العمل لأنني عملت في إيطاليا عدّة سنين منهمكا في التنقيب عن حقائق إستعمارها لليبيا، ومارست الكتابة عنه وما زلت. ولأن “الذاكرة هي اليوم حقيقة أناشيد لأصوات متنافرة، والمؤكّد الوحيد الذي يمكننا جميعا الإتفاق حوله هو أن كل شخصين ينشدان مصطلح الذاكرة لا يمكنهما إستخدامه بنفس الطريقة” كما ذكرت الباحثة، فسوف أعرض ما عنّ لي من ملاحظات باختصار، مبتدءا بالذاكرة عن “تجربة” الإستعمار الإيطالي في ليبيا:

فقد دام هذا الإستعمار أكثر من ثلاثين سنة بمرحلته الأولى “الليبيراليّة” من 1911 إلى 1921. وينبغي القول هنا إن ما دوّن عنها بأقلام إيطاليّة في السبعينات من القرن الماضي – أي بعد ما يقارب من ثلاثة عقود- قد أتسّم في معظمه بسرد موضوعي وتوثيق لحقيقة الأحداث وتصوير للفظائع والأهوال التي ارتكبها الإستعماريون. واستحضر كمثل على ذلك كتاب “الحرب الليبية” لفرانسيسكو مالجيري – وهو عنوان يختلف عن ما دأب أن يطلق عليه المؤرخون الإيطاليون “الحرب الإيطاليّة التركيّة في ليبيا”. وقد تعمّق الكاتب في تحليل “التجربة” مفنّدا الحملات الدعائيّة للصحفيين دعات الغزو مثل بييفيوني وكورّاديني وبيرزياني، وتمجيد الشعراء والأدباء أمثال دانونزيو ومارنيتّي وجوفاني باسكولي وآدا نيقري وغيرهم. كما تجدر الإشارة إلى كتاب  “الضفة الرابعة” لسيرجيو رومانو. وقد ختم الكتاب بنبذة عن انقلاب القذافي وعلاقته بايطاليا. وثمة كتب أخرى كثيرة سلكت نفس النهج، دون ذكر كتب ريمون رايموند الفرنسي وماكولا الإنجليزي وغيرهما ممن شاهدوا عمليات الغزو والتنكيل كمراسلين لصحفهما، وكذلك كتاب “الحرب الليبية اٌيطالية” للروسيّة “زينائيدا بافلوفنا ياخيموفيتش”. أما المرحلة الفاشيستيّة التي استمرّت إلى حدوث هزيمة المحور في الحرب العالمية الثانية واندحار الإستعمار الإيطالي في ليبيا معها، فلم تعالجها – يا للغرابة-  إلاّ دراسات قليلة وكتابات متسرّعة ذات طابع صحفي. وبعكس المرحلة الأولى غطّى تعتيم متعمّد على حقيقة ما حدث فيها من بطش الفاشيست بالسكان. ولم تنل الفظائع التي ارتكبتها شخصيّات عسكريّة مستبدّة مثل الجنرال جراتزياني ما تستحقّه من التحقيق والتحليل، وكانت أوامره وأوامر بادوليو بتنفيذ عمليّات الشنق والتهجير، وإقامة المحاكم الطائرة وإنشاء معسكرات الإعتقال قبل أن يقيمها النازي لليهود بأكثر من عشرين سنة، لم نقرا عنها دراسات موثّقة وبالتفصيل إلاّ في بداية 1973 فيما نشره جورجيو روشات وزملاؤه في مجلة “حركة التحرّر في إيطاليا” وكذا دراساته عن الإستعمار الإيطالي في ليبيا وإثيوبيا والصومال وأريتريا التي صدرت سنة 1973 أيضا تحت عنوان “الإستعمار الإيطالي”. وهناك كتب ديل بوكا التي أشارت إليها الباحثة واستندت عليها كمراجع لفهم القذافي وكذلك الكشف عن حقيقة العسف الإستعماري الفاشيستي. وثمة دراسة موثّقة صدرت سنة 1979 ل “أيريك ساليرنو” تحت عنوان “الإبادة الجماعيّة في ليبيا” وقد حملت هذا العنوان الصريح لجريمة الإستعمار الإيطالي مع صور ووثائق وشهادات مسؤولين إيطاليين وكذلك مواطنين ليبيين عانوا من الفظائع وشاهدوا التقتيل الجماعي. وفيها أثبت المؤلّف حقيقة إستعمال الغازات السامة كغاز L,Iprite  بواسطة القصف بالطيران سنة 1930، وبأوامر من حاكم ليبيا آنذاك المارشال بادوليو الشخصيّة الشهيرة التي لعبت فيما بعد دورا هاما في ترتيبات استسلام إيطاليا عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وإذا ما قارن المرء بين ما انتجته إيطاليا من أدبيّات عن هذه الحقبة الإستعماريّة وبين ما صدر في فرنسا وبريطانيا عن المآسي في مستعمراتهما السابقة، لأدرك الفرق الكبير في خدمة الحقيقة التاريخيّة والأمانة العلميّة، وهما لا غنى عنهما ليس فقط لإثراء الذاكرة الجماعيّة للمجتمعات المختلفة، بل وفي خلق هذه الذاكرة أحيانا.

أمّا على المستوى الرسمي فإن أبرز ما نشرته مطبوعات الدوائر الحكومية الإيطاليّة يتمثّل في السلسلة التوثيقيّة المتقنة التي أصدرتها وزارة الخارجيّة الإيطاليّة، في عهد إيطاليا الديمقراطيّة الجديدة، وبإشراف العشرات من الشخصيّات السياسيّة والنيابيّة والأكاديميّة خلال الستينات من القرن الماضي، وتحت العنوان الشامل “إيطاليا في أفريقيا”. واحتوت السلسلة على وصف تفصيلي لأعمال إيطاليا في مستعمراتها الأفريقيّة، مبرزة الإنجازات “الحضاريّة ” التي أحدثتها فيها. ويهمّنا منها المجلّد الخاص الذي يصف الحملة الإيطاليّة على ليبيا منذ البداية وحتى نهاية الحرب العالميّة الثانية. وما يلفت النظر فيه أنه في سرده وتحليله للمعارك التي خاضتها المقاومة ضد الغزاة المستعمرين، لم تخلو لهجته من التبجّح الإستعماري وأحيانا التشفّي، مع تزييفه للحقائق. (إعتمد عليه كاتب هذه المقدّمة في مؤلّفه الجديد عن فترة الإستعمار الإيطالي لليبيا والذي صدر في هذه الأيّام). وحتى عندما تطرّق المجلّد إلى هزيمة الجيش الإستعماري في معارك الجبل الأخضر ببرقة وفزان ومصراته وسرت بطرابلس الغرب مثل “لقرضابيّة أو بوهادي” سنة 1915، ذكرها على عجل. كما اختصر وقلّل من شأن إتفاقيات الصلح التي عقدتها السلطة الإستعماريّة مع السيّد إدريس السنوسي في برقة وزعماء المقاومة في طرابلس تتويجا لتلك الإنتصارات، والتي صدر على أثرها القانون التأسيسي بمنح الجنسيّة الإيطالية للمواطنين الليبيين مع منحهم حقوقا كانوا محرومين منها، وهو القانون الذي لم يطبّق إلاّ لفترة قصيرة في برقة وجزئيا في طرابلس. واختصر مؤلفو الكتاب حدث حصول إدريس السنوسي على الإدارة الذاتيّة لواحات برقة وافتتاح أول برلمان منتخب فيها، وإعلان الجمهوريّة في طرابلس الغرب بموجب هذه الإتفاقيّات، إذ جاء العهد الفاشيستي ليلغيها ويشرع في أعمال البطش والقمع المعروفة. ولا ننسى أن الإدارة الإيطاليّة بعد الحرب العالميّة الثانية حاولت بالمناورات الدبلوماسيّة مع الحلفاء التشبّث بالوجود الإستعماري في طرابلس الغرب، وأوضح دليل على ذلك مشروع بيفين وزير جارجيّة بريطانيا ومعه الكونت سفورزا وزير خارجيّة إيطاليا، وهو المشروع الذي سقط بالتصويت في الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وبفضل كفاح الأحزاب الوطنيّة الليبية في ذلك الوقت ضدّه. وقد سجّل المؤرخون الليبيون هذه الأحداث ومنهم كاتب هذه المقدمة في مؤلفات عديدة.

والمجال لا يسمح بتعديد الأمثلة الكثيرة لرقابة الحظر التي ما تزال الإدارة الرسميّة الإيطاليّة تنتهجها حتى اليوم كما قالت الباحثة. وقد عانى كاتب هذه المقدمة عندما أنتج سنة 1978، بمساعدة صديق، شريطا سينمائيّا صوّر الغزو الإيطالي وما ارتكبه المستعمرون من أعمال الشنق والإضطهاد، واختتم بزيارة موسوليني للبلاد ورحلته فيها من طبرق إلى طرابلس والتي تسلّم فيها “سيف الإسلام” من أحد الأعيان العملاء. فقد قضى هذا الكاتب عدّة أسابيع وهو ينتقي من عشرات أشرطة “الجورنالي دي اتاليا” في استوديو “لوتشي” لقطات متفرّقة لمشاهد وأحداث جرت دبلجتها لتخرج في شريط متسلسل الأحداث. ولكنه لم يتمكّن من عرضه في إيطاليا، بل بثّته في ألمانيا قناة (NDR)، وعُرض في فرنسا خلال محاضرة بمركز بومبيدو سنة 1979. كما أن الكاتب تحصّل بصعوبة على التقارير السريّة للولاة الإيطاليين الذين حكموا ليبيا، والتي تعكس أساليب حكمهم وفهمهم لأوضاع السكان، ومحاضر مفاوضاتاتهم مع زعماء المقاومة. وقد ظهرت في كتابه المتداول الآن في الأسواق بعنوان “أسرار ووثائق المقاومة ضد الغزو الإيطالي”. وثمة تجارب عديدة دوّنها المثقفون الليبيون في مؤلفاتهم. ومن المؤسف أنها جميعها باللغة العربيّة، ولهذا السبب – كما يبدو- لم يرد ذكرها كمراجع في دراسة الباحثة ديل مونتي.

وهكذا فإن “الذاكرة الجماعيّة لإيطاليا ما بعد الحرب كانت ضحيّة لٌلأسطورة وفقد الذاكرة ورقابة الحظر” كما أكّدت السيدة ديل مونتي، وصحيح أيضا ما ذكرته عن استخدام القذافي منذ صعوده إلى السلطة في “انقلابه العسكري” سنة 1969 لتاريخ الإحتلال الإيطالي في ماكينته الإعلاميّة بشكل مكثّف. وهو إستخدام أثبتت الوقائع والأدلّة والمتابعة الدقيقة أنه كان يهدف إلى التلميع الشخصي للطاغية وتغذية مرض النرجسيّة المصاب به، وليس من أجل “الحصول على التوافق بين الليبيين وكمحاولة لبناء الهويّة الوطنيّة في بلاد ضعيفة متشظيّة كما ذهبت السيدة ديل بونتي. لا سيما أنها قالت بعد ذلك مباشرة إن الليبيين بعد الثورة سنة 2011 بدأوا عمليّة “إستعادة هويتهم المفقودة. وهذا إعتراف إذن بأنها كانت مفقودة في عهد القذافي. وهو الصحيح، ففي خلال العقود الأربعة من حكمه شوّه القذافي الهويّة الوطنيّة لليبيين بمحاولاته الفاشلة في ألباسهم مرة ثوب الإسلاميّة ومرة أخرى القوميّة العربيّة وثالثة “الأفريقيّة” وكلها حسب مفاهيمه هو الممسوخة، والتي دأب على ترديدها ليلا نهارا بضخّ إعلامي ممجوج، وبخطبه ومحاضراته المتواصلة. ولعله في إطلاقه كلمة الجماهيريّة على دولته مع صفات أخرى، جعلت إسمها أطول إسم مثير للسخريّة في العالم، وكانت محاولة لإخفاء إسم “ليبيا” منه بالتدريج، إذ كان يطلب من أبواقه الإكتفاء بصفة “الجماهيريّة” كإسم لدولته، علما بأن هذه الكلمة في اللغة العربيّة هي صفة وليست إسما لدولة الجماهير كما فسّرها المتابعون الأجانب. وليس صحيحا ما ذهبت إليه الباحثة في نفس الفقرة من بحثها، من أن المجتمع الليبي ظل أسيرا لتاريخه، حسب تفسيرها لكتابات أحمد إبراهيم الفقيه الروائيّة، فقد ظلّ الليبييون محتفظين بهويّتهم الوطنيّة والإسلاميّة العربيّة الضاربة عميقا في التاريخ مثلهم مثل إي مجتمع آخر عانى ما عانوه. ولقد عكسوا هذه المعاناة منذ أن داهمهم الغزو الوحشي وما اقترفه المستعمرون ضدهم في أشعارهم الشعبيّة التي صوّرت مأسي الشنق والقتل الجماعي ومعسكرات الإعتقال، وكذا جاء ذلك في أقوال شعرائهم الكبار. وما يزال الليبيون يتذكرون كل ذلك عبر الأجيال، ويحيون ملحمة “القرضابيّة” وذكرى الشنق الوحشي لقائد مقاومتهم وشيخ شهدائهم عمر المختار، مثلما يخلّد الإيطاليون معاركهم كانتصارهم في معركة فيتوريو فينيتو في الحرب العالميّة الأولى، أو في ليبيا، حيث ما يزال نصب معركة شارع الشطّ بطرابلس سنة 1911 يتوسّط أول  Via Nomentana أحد أكبر شوارع العاصمة الإيطاليّة. وأذكر أنه حتى الثمانينات من القرن الماضي كانت فرقة من (البيرسلييري) تستعرض قوّتها أمامه في شهر أكتوبر من كل سنة ذكرى المذبحة.

وقد شرحت الباحثة في نقد تحليلي فيلم “أسد الصحراء” عن بطل المقاومة الليبيّة عمر المختار، ولست مقتنعا بأن القذّافي الذي موّل إنتاج الفيلم كان يرمي من ورائه تحقيق أماني “الوحدة” والكرامة” وصنع الهويّة الوطنيّة” كما عبّرت الباحثة في تحليلها، فبالنسبة إلى معظم الليبيين، حاول القذافي طمس ذكرى عمر المختار، بأن نقل جثمانه من الضريح الوحيد والرئيسي  في بنغازي الذي نسفه بالديناميت، إلى منطقة سلوق وهي رغم أنها القرية التي شُنق فيها المناضل الليبي، إلاّ انها منعزلة، ودفنه في قبر عادي مجهول بها. وبعد أن كان الضريح، كما تقتضي قواعد البروتوكول قبل إنقلاب 1969، رمزا يزوره رؤساء الدول والوفود الأجنبيّة، فرض القذافي قبر والده ليكون في العاصمة طرابلس هو وجهة الزوّاراالرسميّة، وأن يُغمر بباقات الزهور والإحترامات كبطل للمقاومة ضد الإستعمار الإيطالي، رغم أن والده كان مواطنا عاديا لم تثبت مشاركته في حرب المقاومة.

ومن ناحية أخرى فرغم انتقادنا لاستغلال القذافي الشخصي للفيلم، إلاّ أنه نال شهرة واسعة في جميع أنحاء العالم العربي، ناهيك عن إلهام الليبيين بمشاعر من الفخر والإعتزاز، لأنه الفيلم الوحيد الذي مجّد كفاحهم وأبطالهم بتمثيل ممثلين كبار وعلى نطاق عالمي. ولذا يستهجن المرء من الدوائر الحاكمة في  إيطاليا الجديدة الديمقراطيّة منعها لعرض هذا الشريط في وسائل إعلامها، بينما نراها قد سمحت بعرض وما تزال آفلام إضطهاد النازي ومحرقتهم ضد لليهود!. وفي هذا السياق يذكر كاتب هذه المقدمة أنه قابل في روما سنة 1968 (جوزيبي دايودييتشي) الذي كان حاكما على الجبل الأخضر والذي تعرّف على عمر المختار بعد إصابته في المعركة وسقوطه من على ظهر حصانه، لأنه سبق أن تفاوض معه. وقد ورد إسم دايودييتشي في كتاب الصحفي الدانماركي “كنود هولمبو” الذي دوّن فيه وقائع رحلته في ليبيا في بداية 1930 من الحدود التونسيّة حتى الحدود المصريّة وما شاهده وصوّره من فظائع الشنق والتعذيب الفاشيستية لليبيين، واصفا عمليّة إعتقاله هو نفسه واضطهاده من المحتلّين، وكذا مقابلته لرجال المقاومة الذين قبضوا عليه ظنا منهم بأنه جاسوس إيطالي، ولكنهم أفرجوا عنه بعد أن تيّقنوا من شخصيّته، فرووا له قصص عذاباتهم واعتزازهم بالكفاح تحت قيادة عمر المختار.. وقد أشاد الصحفي في كتابه بحسن معاملة دايودييتشي للسكان عندما زار إحدى المعتقلات معه، ولأنه لم يكن راضيا عن قسوة الحكم الفاشيستي. وهذا الكتاب ترجم إلى الإنجليزيّة في حينه. ومنذ 1968 تُرجم إلى العربيّة في ليبيا. ولكن لا نجد له ترجمة إيطاليّة لأنه من بين المحظورات في إيطاليا. ففيه سيجد القارئ صورة حقيقيّة لسلوك وتصرّفات الفاشيست المشينة في ليبيا من صحفي محايد وموضوعي، وفيه أحسن ردّ على ادّعاءات “رافأيلي كوستا” وكيل وزارة الخارجية الإيطاليّة  الذي ذكرت الباحثة رأيه السلبي عن فيلم “أسد الصحراء”.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يتطلّع الليبيون إلى التعويض كثمن لما خلفته الحرب، ولكن إلى نيل إالإستقلال لإعادة بناء وطنهم. ومنذ 1939 عمل الأمير إدريس وزعماء البلاد في المهجر بالقاهرة، والسعداوي مع زعماء آخرين بدمشق وتونس، على تحقيق الإستقلال، بعد أن ساعد الليبيون الجيش البريطاني عسكريّا في حربه ضد المحور. وعقب تحرير ليبيا تكوّنت الأحزاب الوطنيّة لتحقيق هذا الإستقلال، إلى أن أقرّته الأمم المتحدة في نوفمبر 1949. وما ذكرته الصحفيّة الإيطاليّة ميريلا بيانكي في كتابها عن القذّافي، كان نقلا لحديثه عن نفسه وتفسيره الخاص للتاريخ، كما كان تعظيما لشخصه إلى درجة التشبّه بالألوهيّة. والمعروف لدي الليبيين الثمن الذي حصلت عليه السيدة بيانكي من إصدار كتابها.

ولا يستطيع أي مطّلع ليبي أن يفهم القول بأن القذافي هو من نفخ الحياة في الذاكرة الليبية عن الإستعمار، لأن الذاكرة الجماعيّة الليبيّة كانت تستحضر طيلة القرن الماضي فظائع الإستعمار التي كان أبناؤه ضحايا له من عديد الكتب التي صدرت منذ الثلاثينات. وربما استطاع القذافي أن يستغلّ هذه الخاصية عند الليبيين فمارس الشعبويّة، لمعرفته بتذكّرهم الدائم لهذه الفظائع، ولكي يخلق هالة أو مجدا شخصيّا، إضافة إلى معرفته أن إيطاليا كانت دائما ضعيفة تجاه ماضيها في ليبيا. وجاءت الثروة البتروليّة في ليبيا والتي تضاعف ثمن البرميل منها، وحاجة إيطاليا الماسة إليها، لتشحن القذافي بطاقة جديدة من الإندفاع الطائش حتى أنه جمع رفات الموتى الإيطاليين في أرض ليبيا وشحنها إلى إيطاليا. وبعد سنوات يزور رئيس الحكومة الإيطالية سلفيو بيرليسكوني ليبا ويفتتح مع القذافي خط شحن الغاز إلى إيطاليا، وينعت بيرلسكوني صديقه في البونجا بونجا بأنه “بطل للحريّة” ثم يقبّل يده كعادة زعماء المافيا.. ومن جانبه يصرّح القذافي بأن بيرلسكوني هو أعظم رئيس حكومة إيطاليّة.. وليس هجوم القذافي على القيم الغربيّة، مثلما ذكر المؤرّخ ديل بوكا، برنامجا ممنهجا “لبناء الهويّة الوطنيّة”، فحرقه الآلات الموسيقيّة تحت شعار إن الشعب لا يطرب إلاّ لفنّه، كنت شخصيّا شاهدا على ذلك في وسط الميدان في طرابلس، حيث تجمّع بضعة من أفراد لجانه الثوريّة الذين نهبوا الآلات من المتجر الوحيد لها في كامل ليبيا (كان يملكه محمود القريقني في شارع الإستقلال) وأشعلوا فيها النار. وبعد أيام قليلة قرأت مقابلة له في مجلة Stern الألمانيّة قال فيها ردا على سؤال الصحفي عن كيف يقضي وقته قبل النوم بأنه: يُنصت إلى موسيقى بتهوفن ليهدّي أعصابه من إرهاق اليوم! وكذلك إختلق قصة إصابته بسبب إنفجار اللغم التي رواها ل “ديل بوكا”، فهي وغيرها من ألإدعاءات المثيرة للسخريّة والتي تكاثرت عبر العقود الأربعة من حكمه، ومثّلت في الحقيقة إحدى مفاتيح شخصيّة القذافي وهي: الإدعاء الكاذب مقرونا بنرجسيّة مفرطة وابتزاز الخصوم.

وعلى العموم فقد أجادت الباحثة في بسط الأمثلة في تحليللاتها متعدّدة الجوانب مثلما فعلت بالنسبة إلى قصة The Deserts of Libya لـ Mario Tobino وفيلم The Desert Roses لـ Mario Moneclli وصحيح، كما قالت الباحثة إن القصة والفيلم صوّرا الإزدواجية بين الفاشيست السيئين والجنود الإيطاليين الطيبين. ولكن أحداثهما جرت سنة 1940، وليس أثناء حرب المقاومة الليبيّة التي بدأت منذ الغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 إلى انتهائها بشنق عمر المختار سنة 1932. وهذا في رأينا نوع أخر من الأعمال الفنيّة التي تسعى إلى تحويل الأنظار عن حقيقة الكفاح الليبي، وإن جاءت في مظهر العداء للفاشية. كما تعمّقت الباحثة في تحليل الرواية الثلاثيّة “حدائق الليل” للأديب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، لتستنج منها ما يسند مقولاتها عن الذاكرة التاريخيّة، أساليبها وتأثيراتها. وربما جاءت الرواية أقرب إلى السيرة الذاتيّة للكاتب أكثر منها إنعاشا للذاكرة عن مآسي الإستعمار، حتى أن الباحثة وضعت لهذا الفصل عنوان “الغربة والتشرّد”. والواقع أن ثمة كتابا ليبيين آخرين سبقوا أحمد إبراهيم الفقيه في معالجة محنة الليبيين تحت الإستعمار الإيطالي وبأوضح صورة. وربما كان توفّر أعمال الفقيه باللغة الإنجليزيّة دعا الباحثة إلى اختيارها في التحليل. والمجال لا يسمح بالتطرّق إلى آراء مخالفة لتقييم الباحثة. ولكن يمكن القول إن الفقيه أصدر بعد ذلك باقتراح من أحد النقاد المصريين رواية “خرائط الروح” الطويلة جدّا. وفيها أيضا ملامح من الصراع الليبي ضد الإستعمار الإيطالي، مؤملا أن تسجل لدى وكالة (جينس) كأطول رواية في التاريخ! وبسبب تقرّب الفقيه والروائي الليبي الآخر غزير الإنتاج إبراهيم الكوني وغيرهما من الأدباء من القذّافي وتملّقهم له، فقد أغدق عليهم الهبات والمناصب الدبلوماسيّة في الخارج والتي قضى فيها بعضهم عشرات السنين، ما شوّه صورتهم لدى المهتمين بالفكر الليبيين، حتى وصمهم البعض بكتّاب السلطان. فالفقيه مثلا في تقريظه لهلوسات القذافي التي أسماها “القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء” والتي صدرت في التسعينات من القرن الماضي، مجّد القذافي كمبدع أدبي: “لرؤيته الإنسانيّة كواحد من أبطال التاريخ، ورصيده من التجارب والخبرات كقائد أممي” حسب رأيه، وختم تحليله بالقول “تحيّة لقائد الثورة مبدعا ومفكرا بهذا العطاء السمح الكريم الذي يثري العقل والقلب”. ولكن الفقيه كتب عشرات المقالات بعد ثورة 17 فبراير، وكذلك فعل الكوني، مندّدين بنظام الظلم والإستبداد وسلوكيّاته المشينة. ومما كتبه الفقيه في ذلك كان بتاريخ 20/11/2014 قائلا: “نجح نظام الطغيان الذي غزا البلاد على ظهر دبابة أميركية، وبنى خيمته فوق الجماجم والهياكل العظمية لضحاياه، في تجريف هذا الوطن سياسيا وثقافيا واجتماعيا”! ولذا فالفصل الذي أفردته الباحثة عن كتاب القذافي الأخضر، تعمّقت فيه كثيرا في الشرح والتفسير كنظريّة وأفكار سياسيّة بشكل لا يستحقّه. ولقد أنفق القذافي مئات الملايين من الدولارات في ترجمته إلى جميع اللغات (الحيّة والميّتة) وتوزيعه وعقد المؤتمرات  والندوات حوله في جميع القارات. وكان في ليبيا يخصّص له البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة ليلا نهارا ولحوالي أربعة عقود، وفرضه كمادة رئيسيّة في المدارس والجامعات، ووصل به الأمر في الثمانينات أن فرض على المكتبات عدم عرض وبيع غيره من الكتب الأخرى التي جمعها من المكتبات العامة والخاصة وكدّسها في الميادين وأشعل فيها النار، مقلّدا هتلر ومكارثي…  ومن سخريات القدر أن يشاهد القذافي بنفسه أثناء ثورة فبراير 2011، كيف حطّمت الجماهير الليبيّة النصب الضخم لكتابه الذي كان في مدخل مدينة  طبرق، وكيف قامت بجمعه والدوس عليه وحرقه في جميع أنحاء البلاد. ولا أملك إلاّ أن أعارض تشبيه ما دوّنه القذافي من كلام في كتيّبه بالأفكار التي دوّنها “جرامشي” في “دفاترالسجن”، حيث شرح المفكّر الإيطالي الكبير مثلا أسس وأهداف تكوين الحزب الثوري، بينما اعتبر القذافي “الحزبيّة إجهاضا للديمقراطيّة” وألغى دستور الدولة والبرلمان والإنتخاب وزج في السجون بمن ينتمي لأي حزب وبالصحفيين، وشنق السياسيين والطلاّب في الجامعات والميادين. ولأن الحديث يطول في هذا الموضوع، فإنني أختم بتهنئة الباحثة على دراستها المعمّقة لجوانب كثيرة من مسائل الذاكرة والتاريخ، حريّ بأن يقرأه كل مهتم بفترة إستعمار مرّ عليها أكثر من مائة سنة، وما تزال حيّة بوعي الذاكرة وتأثيراتها.

________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

يوم جليانة

محمد العنيزي

من أجمل المدن الأثرية في ليبيا .. تحول اسمها من «سيرين» إلى «شحات»

المشرف العام

تاكفاريناس.. قائد المقاومة الأمازيغية

أسماء بن سعيد

اترك تعليق