ما من مبرر يقبل به العقل او يرضاه الدين يبرر ما نعايشه ونشهده من مماحكات عبثية ومايغرقنا دون اختيار منا او رضا من غبار اللغط الأجوف والاسفاف الذي يحاذي الهذر الصبياني ، والتي يثيرها من يصرون على تأكيد علمانيتهم وحداثتهم وتقدميتهم ، ومن يصرون على أصالتهم واصوليتهم .. على مابين الأصالة والأصولية من تناقض .. وعلى صدور رؤاهم ومواقفهم عن الدين وثوابته ، وعلى انهم المنافحون عن الدين، ووحدهم من يذود عن حياض تلك الثوابت.
وأوضح دليل على افتقاد أولئك جميعا وما يصدر عنهم وما يمارسونه الى أي مبرر من عقل او دين ، هو سهولة سقوطهم ضحايا لفوضى الانفعالات العاطفية وصدوعهم بما تامر به تلك الفوضى .. وليس العقل او الدين كما يدعون .. وانسياقهم مع ايحاءاتها واملاءاتها.
ولو أننا أمعنا النظر عبر تلك الفوضى وسحب الغبار التي يثيرون ، لامكننا ان نرى بوضوح ان من يستسلمون لتلك الفوضى ويثيرون ذلك الغبار .. وبمعزل عما يدعونه وما يعلنونه .. إنما يفعلون ذلك بهدف مواراة ما ينكره العقل والدين من حالهم ، فما يكمن وراء تلك الفوضى وذلك الصراخ والاتهامات والادانات المتبادلة وجعجعة السلاح ، إنما هو في الحقيقة رفض الآخر .. المختلف .. وعدم القبول به ، والذي غالبا مايتم تصعيده الى عداء معلن بل وحتى الى إنكار ونفي وجود ذلك الآخر ومحاولة افناءه ، ورفض الآخر واالحال كذلك ليس اختياريا ، ففي وضعية كهذه لا ينظر الى الآخر الا كعدو يقف بمقابلنا موقف مرآة تعكس صورة ذاتنا وتضعنا في حضرة ذاتنا وما فيها من نقاط ضعف وقصور وهنات ، وتلك ولا شك عيوب بل عورات يحرص الجميع .. وخصوصا من يرسف في فوضى انفعالاته العاطفية .. على إخفاءها وإنكارها ، رغما عن ان ذلك الإنكار لا يعني ولا يحقق شيئا غير إنكار الذات ، فلا معنى وفق هذا الفهم لرفض الآخر غير كونه محاولة للهروب من الذات ومن رفضها . وهي على أية محاولة فاشلة ولاجدوى منها ما ظل الواحد منا مرتهنا للفوضى الانفعالية ، ويظل رفض الذات مؤكدا وراء رفض الآخر وفاعلا مؤثرا في الروي والمواقف والاختيارات ، ذلك انه ليس عرضا سطحيا لمواقف خاطئة بل هو تحديدا مازم كياني يطال الأسس التي ينبني عليها وجود الانسان ، ويمتد ليغطي على كافة أبعاد ذلك الوجود ، انه بتعبير آخر ، شرخ في ذات الانسان يشبه ثقبا اسود يستوطن حناياه ليمتص إمكانيات تحقيق وجوده ويستنزف قدراته وإمكانيات تفتحه إنسانيا .
واذا ما أوغلنا مدققين ، فلن نجد غير الجهل الذي يرين على الواقع .. ويسحب ظله على الموقف من الدين والعلمانية على السواء .. هو ما يقف وراء الفوضى وسحب الغبار ، ويجسد العورات ونقاط الضعف والقصور والهنات ، وكل ما يرغم الانسان على تزوير ذاته ويرغمه بعد ذلك على إنكارها ورفض الآخر الذي يذكره حضوره بما ينكر .
كما ان الجهل وكل ما يجيء عنه هو ما يأنف الدين والعلمانية عن مؤازرته ورفده وتبريره ، وذلك كاف للاقتناع ببراءة الدين والعلمانية مما نعيشه ونعايشه من فوضى ومن بوس في واقعنا اليومي ، والذي يبسط هيمنته ويسم بميسمه المتاح لنا والمتداول بيننا في كل جوانب ذلك الواقع الثقافية والسياسية والاجتماعية ، وكاف أيضاً لتأكيد حقيقة ان الدين ليس تخلفا ولا المومن به متخلف ، وان العلمانية ليست كفرا ولا العلماني كافر ، فالجهل فقط هو ما يحول بيننا وبين معرفة ذلك ، وهو مايمنعنا كذلك من معرفة ان ذلك التنابز بالألقاب والتعريض المتبادل بالمثالب الفعلية والمتوهمة لا يعبر عن إيمان ولا عن عقلانية .
فذلك كله ، سواء تدثر باهاب الدين وما يزعم انه تمسك بثوابته ، او لبس ثوب الحداثة والتقدم ، وسواء تبدى في انحياز قبلي او جهوي او ثقافي وكان موسوما بالعنصرية والتعصب .. حتى وان ادعى ما يغاير ذلك .. ليس في حقيقته غير انحياز أيديولوجي واصطفاف في موقع يناقض العقل والدين ، ويعمل بعلم من يقفه او بدونه على تقويضهما معا ، ولعلنا نرى في محاولات الايديولوجيات المختلفة .. وبغض النظر عن دعاواها .. تحويل مابين الدين والعلمانية من اختلافات .. لا تطال اتفاقهما الجوهري على تحرير الانسان من تسلط الايديولوجيات بالذات وذلك للحق هو الهدف الذي يسعيان اليه كلاهما .. الى خلافات مستعصية ولا أمل في مواجهتها اومحاولة ايجاد ما يمكن ان يقرب بين شقيها .
وأذن فتحرر الانسان من قبضة الايديولوجيات التي تدفعه بالعصي او حزم الجزر الى معاداة الانسان .. نفسه والآخر .. والى الاستلام لفوضى انفعالاته العاطفية ، وإغراق نفسه وغيره في غبار المماحكات الفارغة واللغط الأجوف ، ذلك هو الهدف الذي يلتقي عنده الدين والعلمانية وعليه يتفقان .