(لا يوجد مجال لعبارات: هذا الشيء هو كذا وكذا, وله هذه الخاصية وتلك بل.. عوضاً عن ذلك توجد عبارات من نوع آخر مثل: هناك هذا الاحتمال أو ذلك لأن يكون هذا الشيء الفردي كذا أو كذا, وله هذه الخاصية أو تلك ولا يوجد في “الفيزياء الكوانتمية” (الكوانتم: هي أصغر كمية من الطاقة يمكن إطلاقها أو امتصاصها) قوانين تغيرات الشيء الفردي مع الزمن, بل يوجد عوضاً عن ذلك قوانين تحكم تبدلات الاحتمال مع الزمن، أن التغيير الأساسي الذي أدخل إلى الفيزياء وبواسطة “فيزياء الكوانتم”, هو وحده الذي جعل من الممكن تقديم شرح ملائم للصفة المتقطعة والإحصائية للإحداثيات في ميدان الظواهر..)
إنفلد – إينشاتين
… عند ما قلت لصديقي غير الحميم أن لدّي سؤالاً نظرياً, قبل أن نتحدث عن عينات (نصوص) عشوائية لبعض الكتاب والأدباء وعن الرابطة (كمؤسسة) رفع يده وقال:
– لحظة.. أعتقد أن تعبير عشوائي غير ملائم هنا, ذلك أن آلية اختيار النص للاشتغال عليه وتفكيك بنيته, تعتبر نصاً أيضاً, حتى وإن كانت هذه الآلية هي (المادة الخام) قبل التجلي النصي. إذ لو سألتك عن كيفية الاختيار?، فأنك ستجيب عن الكيفية التي تمت بها هذه الآلية, أي كيفية اشتغالك الحجاجي (مستندات ودلائل نصية), أي “نحو النص” أو حتى “الخطاب” أي ما يجمع تلك النصوص في بنية خطابية محتملة.. أما السؤال عن (لماذا) الاختيار?، فإن الإجابة ستخرج من حقول “علوم النص” ونظرياته المقترحة إلى علوم الأيدلوجيا..
أي سيكون الكلام (الإجابة) عن الشخص أو ما يسمونه التحليل النفسي والتاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي والقومي والوطني والراهن والعالمي.. الخ، تلك القائمة من (الصفات), والتي قمت بعملية إحصائية لها من بعض الكتابات-النصوص ووجدتها أكثر من خمسين صفة تقريباً, وهي صفات بشكل عشوائي للكلام عن أي ظاهرة بشرية, ويمكنك أن تُسقط منها ما تشاء, أو استبدال أي لفظة منها بأخرى, بدون أن تتأثر بنية الكلام, أي سياسي بدلاً من ثقافي أو تاريخي بدلاً من اجتماعي أو قومي أو وطني أو نفسي وهكذا.. فإن أقل ما توصف به نصوص هؤلاء الإيديولوجيون الموسوعيون والذين يكتبون (ويهدرزون) في كل شيء وأي ظاهرة.. وأفكر في الفصول الأربعة والمؤتمر (البوسيفي) وكلمات الافتتاح الدبلوماسية والمملة في الفعاليات الثقافية!!?.. أنها نصوص الاستسهال والهلوسة والتي لا تنتج معنى.. لكل ذلك فأنت ملزم بأن تجيبني على: (كيف الاختيار?) , ومن ثم نتحدث عن (كيف?) هي تلك النصوص المختارة?.. ونستبعد بالتالي الكلام عن (لماذا?) أو أسئلة الهوية والماهية للنصوص وأصحابها ? فتلك من فعاليات (الكلامنجية) رواد المرابيع الثقافية!?.
وإذا كان العلماء في علم الأمراض مثلاً, لا يعيرون أدنى اهتمام للبحث في أصل السرطان وأسبابه, ولماذا? بل يرون ذلك غير عملي وغير مفيد أيضاً في كيفية علاج المرض!?.. فإن أبحاثهم لا تركز كثيراً على إحصائيات المرضى وأعمارهم وعاداتهم وتاريخهم الشخصي والاجتماعي, بل تركز أساساً على (كيف?) يعمل هذا المرض?.. كما يرى علماء الفيزياء النووية أن البحث عن أصل الكون وتاريخه وهويته ولماذا?.. ليس فقط إنه جهد لا طائل من ورائه فقط, بل هو غير مفيد وغير عملي أيضاً، يبحثون عوضاً عن ذلك – في كيف تعمل (الطاقة, الحقل.. الخ)?.. وكيف تعمل الأنظمة الإحداثية المحتملة في الكون?… الخ.
أي أن البحث العلمي يدرس الظاهرة تزامنياً (الآن وهنا).. أي البحث في بنية الظاهرة (وكيف تعمل وتشتغل?) آلياتها واقتراح إجابات محتملة وممكنة, وليس البحث والدراسة التعاقبية للظاهرة, أو بالتعبير السمج (التطور التاريخي للظاهرة)..
وقد صاغ “دي سوسير” (رائد البنيوية وإن لم يسمها صراحة كمصطلح) هذه المنهجية, في القطيعة الأبستومولوجية مع الدراسات اللغوية آنذاك, على نحو باهر ومذهل, إذ تعتبر الصياغة أحياناً – أكثر أهمية من النظرية نفسها, ومن خلال مثال, نقي وشفاف, لعبة الشطرنج: إذا افترضنا أن هناك لاعبين أمضوا فترة من اللعب وجاء فضولي ما, ونظر إلى وضعية القطع في الرقعة أمامها.. فإن أسئلة مثل: ما هي النقلات السابقة?.. أي وضعيات القطع في الرقعة وتعاقبيتها, تاريخية اللعبة.. وما هي النقلات التي كان من المفترض أن يلعبها كل منهما?! والتأمل في شخصيات ونفسياتهما (هوياتهما?), أو ماهية قطع الشطرنج? مصنوعة من حجر رخام خشب.. الخ.. ليست مفيدة وعملية, لأن الأمر المهم والحاسم والمطلوب التفكير فيه هو نتيجة اللعب: الربح أو الخسارة.. وذلك لا يكون إلا بدراسة الرقعة تزامنياً, أي وضعية القطع كما هي عليه واحتمالات النقلة التي سيقوم به اللاعب صاحب النقلة وإمكانيات الرد عليها من قبل خصمه.. وهنا قلت له:
… إن تحفظك هذا يزعجني وفيه تكرار, ولكنه غير ممل كثيراً, كما أنك اقتربت من سؤالي إلى حد ما.. فإذا استبعدنا مفاهيم قيمتي أرسطو: الصواب والخطاب أو الحقيقي والزائف, كما تقول, ولأن (خطاب الاختلاف) لا يخضع لها, وهو مغاير وجديد ضمن منظومة مفاهيمية أخرى بديلة.. كيف لنا أن نعتبر ذلك الخطاب منهجياً وعلمياً ? ولماذا لا نعتبره مجرد رأي أيضاً (تأويل), مثل كل الآراء أو النظريات والمذاهب أو الاتجاهات.. الخ? رد قائلاً:
– إذا كانت تزعجك الملاحظات, يمكننا, ويبدو ذلك ضروري أحياناً, أن نقترح قاموساً, لاتفاق تعاقدي بدئي, لأن وفقط, وأن نقبل ما يترتب على ذلك من نتائج, ولا يكون ملزماً لنا أو علينا حجة فيما بعد. فكما يقول الفيزيائيون (الفلك والكوانتم مثلاً): أن مفهوم الشيء أو الحجم أو الجوهر والأصل (الهوية والماهية) هو من أكثر المفاهيم بدائية (حتى الآن هل هناك غيرها!?). بل هناك الظاهرة ضمن هذا النظام الإحداثي فقط, وتغيره المحتمل في الأنظمة الأخرى المحتملة..(وقرأ عليّ ما قاله أينشتاين والتي جعلتها مفتتحاً هنا) وكذلك الظاهرة اللغوية كظاهرة فيزيائية, و(خطاب الاختلاف) والسيميائية (أرغانون) الجهاز القانوني له, كمنظومة مفاهيمية محتملة أخرى وجديدة, ولكنه ليس بديلاً أو نظرية أو اتجاهاً أو مذهباً.. الخ، الصفات, التي توظفها (علوم الإيديولوجيا) بفوضى وعشوائية, رغم عمليتها المنتجة تداولياً. إذ ليست هناك نظرية علمية بديلة لأخرى.. وحتى مجموع القطائع المعرفية, والتي حدثت منذ أكثر من قرن ودي سوسير ونيتشه واينشاتين من أعلامها, لم تكن بديلاً لما سبقها بل هي تعتبر كذلك (معرفية) ليس لدحضها حظها لما سبقها فقط, بل في قابليتها هي نفسها للدحض أيضاً. وهذا ما حدث خلال القرن الماضي من تطورات نظرية مذهلة ونتائج باهرة, إلى الحد الذي يجعلننا نقول إنها لا تخطر على بل هؤلاء الأعلام – صانعيها. والعلماء في فرع العلوم البحتة (التطبيقية) والسيميائية أحدها, يشتغلون على عدة نظريات مقترحة قابلة للدخص وليس للإثبات بكلمة واحدة جارحة ومزعجة أيضاً, ليس هناك في البحث العلمي! البديهية الواضحة أو النهائية, اليقين المسلم به, الحقيقة المطلقة و الجوهرية, من المؤكد أو في الواقع… الخ, بل هناك علاقات ارتياب واشتباه, والشك والاحتمال والانفتاح على تعدد الإمكانيات اللانهائية,, أي البحث في الظاهرة وآلياتها ومكوناتها البنيوية وعلاقاتها بالبنى الأخرى التقريبية.. أما ألفاظ مناهج أو مذاهب أو اتجاهات.
فأنا لا أفهمها إلا في إطار أنها بقايا رومانسية وطقوسية بدائية, إذ ليس في العلم مناهج. بلا منهجية واحدة هي الاجتهاد والإخلاص والجدية (ثني الركبتين), أما الاختلاف والتعدد فهو في المقاربات البحثية, لأنها فردية ونوعية وخاصة (يقوم بها أفراد أو فرق بحث!!), أي في الأساليب الإجرائية والمقترحة مع الانفتاح على كافة الاحتمالات في دراسة الظاهرة, وهي الكفاءة والأهلية لأي إنسان سوى, كما يقول (تشومسكى), ولذلك فإن كلامي لا يعني أن الأيديولوجيا خطأ وزائفة والبحث العلمي صواب وحقيقي، وهو البديل للتأمل والتفكير الأيديولوجي الرومانسي, بل كل ما هنالك أنهما حقلان مختلفان وفقط الأول قائم على الإثبات واليقين والحقيقة والوهم.. الخ، والثاني قائم (جهازه المفاهيمي) على الاحتمال والدحض.
أما حمى النشر وهستيريا النجومية, وهي أمراض ليست خاصة بنا, بل هي وباء منتشر في أغلبية إنتاج آلة النشر العربية مكتب ودوريات وصحف وبيانات.. الخ. والتي من أبرز أعراض هذا الوباء, استعمال هذه الألفاظ (كصفات) كمثيلاتها السابقة,
وخاصة حين يقولون: مناهج نقدية حديثة ومذاهب فكرية وسياسية وفلسفية وسياسية حداثية وما بعد حداثية.. الخ، متنوعة ومن أسلوبية وبنيوية وسيمولوجية ولساينة وسيميائية ووضعية وتفكيكية.. الخ.. ويمكنني أن أقوم بإحصائها أمامك الآن, وقد قمت بذلك فعلاً ووجدتها تجاوزت الثلاثين تقريباً, وكأنها مفاهيم أو نظريات مختلفة ومتناقضة ومتصارعة أيضاً بالمفهوم الأيديولوجي من إلغاء أو إثبات أو القرابين.
باختصار شديد: ليس أمام (محترفو الإلقاء) سوى الدخول إلى جماعة محترفي الطب البدائي (من أحجبة وكيّّّ وبخور وغيره), لأن عصر الإيديولوجيات الكبرى (الأوهام) قد انتهى تقريباً..
___________________________________
صحيفة الجماهيرية.. العدد:3997.. التاريخ:16-17/05/2003