علي صدقي عبد القادر التجربة الشعرية الليبية الاستثناء في إثارة الجدل حولها بين مُعترف بها وبين معارض لها (حد نفي الصفة الشعرية عنه)، وهو ما لم تحسمه بعد دراسات تتصدى لتجربته ولقاموسه الشعري -إن جاز التعبير- ولمغامرته المبكرة في كتابة الشعر الحر محليا وربما عربيا (1) كذا تاريخه الذي سطره في انحيازه لكل تأنيث، ذلك الانحياز الذي لم يكن شعارات وأقوال وقصائد يرددها فقط (2)، فكما نادى بالحرية والاستقلال والجلاء التام للمستعمر عن ليبيا سني شبابه، نحت في ظلال تاريخ نساء عائلته بتنوره وفكره المتحرر ما آمن به لوطنه، في مرحلة تجاذبتها أراء ونقاشات نُخبتين (ما نتلمسه في الدوريات المحلية أربعينيات القرن الماضي نموذجها طرابلس الغرب) بين من تعلن مناداتها بدورٍ للمرأة في تنمية البلاد بتمكينها من ولوج مجالات العلم والعمل بمحاذاة الرجل، وبين إلحاح مرده الديني والاجتماعي المحافظ الذي يرفع سيف حجبها وقصر حراكها بين أسرتها، ثم زوجها، فقبرها!، إلا أن الشاعر والقانوني من تمسك رغم إكراهات ومناوشات المحيط بدور المُساند والراعي والمدافع -إذا ما لزم الأمر- فشقيقتيه (زينوبه، وخديجة)، وابنتيه (أحلام وتماضر) دفع بهن كنماذج يُحتذي بهن في المشاركة الفاعلة المبكرة، فهن من عاصرن جيلين في مشروع النهضة النسوية بطرابلس، التي دأبت بعض نسائها على محو أمية فتيات مدينتهن، ثم السفر ومغادرة الإقليم لتأكيد حضور المرأة الليبية مع شقيقاتها العربيات، ثم المشاركة بالكتابة الصحفية وتحريض من تخلفن عن المسيرة النهضوية، كما شجعهن على الكتابة التوثيقية (أدب الرحلات) فخديجة أول ليبية أرخت لرحلتيها للدراسة في مصر(1954م) ولندن (1961م) وهي سيرة رائدة لا تفتأ تشير فيها لدور الشقيق الأكبر (علي)، ولعل الخطوة الأبرز صياغته للقانون التأسيسي لجمعية النهضة النسائية(1958م) التي كانت خديجة نائبة لرئيستها، أما إبنته تماضر من تحصلت على الترتيب الأول في كتابة الخاطرة ثمانينات القرن الماضي بمسابقة بطرابلس ومازالت تحتفظ بنصوصها بما اعتبره والدها بذرة لكاتبة متمكنة مشجعا لها على نشره.
وسنقارب ذلك فيما تُصرح به هنا ولأول مرة إبنتيه: أحلام الابنة الكبرى لشاعر الشباب وخريجة الدفعة الأولى لكلية العلوم بطرابلس، وتماضر المعلمة أثناء لقائي معهما، تماضر كانت الأبنة والصديقة ومن رافقته في سنواته الأخيرة حين أصابه المرض واعتلال الصحة سنقرأ ما يمثل بعضا من سيرة حياته… بعيدا عما عرفهُ -مندهشين- محبوه، كتلك العبارات المؤكدة التي يشي فيها بسني حياته التي ستمتد الى مئات الأعوام… أو غرائبية نصوصه الأخيرة التي ثابر على نشرها كنص أسبوعي في ملحق ثقافي بجريدة محلية (الجماهيرية الثقافي). حدثتني أولا الجامعية أستاذة علوم الثانوية أحلام قائلة على لسان الشاعر الراحل:
أنا لو أولد من جديد ويخيروني وين تبي يكون وطنك نقول ليبيا
لم يكن أبا عاديا كان صديقا، بابا هو اللي شجعني على دخول الجامعة في الوقت اللي كانوا فيه زميلاتي (يادوب) ثلاث سنين ابتدائي ويمنعها بوها من مواصلة دراستها في ذلك الوقت فما بالك بالجامعة، والدي شجعني وكان هو اللي ياخذني بسيارته، أنا درست بكلية العلوم مكانها سيدي المصري عام 1963م، لكن ليس نفس المبنى يومها كان مبنى صغير وقديم، كنا سبع طالبات: فاطمة الأسطى، فطومة الغدامسي، وداد العرادي، درست معها إعدادي وثانوي، ومزينة العرادي شقيقة د. وداد وأتذكر أنه كانت مديرتنا السيدة رباب أدهم في مدرسة طرابلس للبنات كانت الثانوية الوحيدة، لما رجعت عمتي خديجة من لندن عملت بها، المدرسة كان فيها ابتدائي وإعدادي وثانوي ومعهد، كان الوالد ياخذني بالسيارة صباحا، ويجيء الساعة الثانية ظهرا، يروح بيا نتغذى، وبعدين يردني للمحاضرات العملي مساء، الى أن توفر مطعم في الجامعة، فأصبح يوصلني صباحا والمساء يروح بي، كان يشجعني على المثابرة والتفوق، وفي العطلات كنا نسافر مع بعض خارج البلاد، ونمشوا للمحلات المختلفة والمقاهي، كان رفيقا ممتازا في الرحلات كنت أحكي له عن زملاء ودراستي وأساتذتي، نلاحظ في زميلاتي لما يحكوا عن أبائهم، البنت ما تتجرأ تحكي أو تطلب من بوها حاجة، كنا نتفق معاه في أي موضوع يناقشه معنا بتواضعه الشديد، معه نتحاور نتشاور نستفيد هو يسمعنا ونسمعوه وبعدين يقول هذا رأي وأنت حرة إختاري ما تشائين هذا شأنك وتحملي مسؤليتك، وكان يعجبني جدا لما يعطي نموذج لموضوع معين ويختار ما يحفظ من الشعر العربي مدللا لقوله من أمرؤ القيس… المتنبي… زهير… الفرزدق يستشهد بعظماء الأدب والشعر والتاريخ، وعنده لكل مقام مقال كان مُتحدثا بارعا مقنعا دون ادعاء . ذاكرته نشطة ولماحة ولاقطة وكنت أضحك وأقول له: ياليتني جئت في زمن الكلمة القوية والمعبرة، كان أبي أيضا كريم جدا معنا… ودود، شخصية نوعية في تعامله معنا (بنات العائلة)، تصوري بعد ما تزوجت أيضا كان هو مكمن أرائي وأسراري، بابا ليس معنا فقط يتعامل برحابة، شقيقاته هو من رباهن وعلمهن كان أكبرهم ولما توفي جدي كان أبي تجاوز العشرين بقليل، لكنه أحتضنهم وأهتم بهم احتواهم ورعاهم بقلبه الكبير وحنانه، وأعتقد أن أي زوجة كان أحساس طبيعي أن تحمل بذور غيرة تجاه العاطفة الكبيرة اللي منحها والدي لعائلته إخوته وأخواته، والدي حنون حتى مع أطفالي كان يأتي لزيارتي ويراني معهم هم يتقافزون ويلعبون فيطلب مني أن أحببهم في وطنهم ليبيا كان جدا حريص على هذه الفكرة، هو كان يحب وطنه جدا يقول لي شوفي ليبيا هذي موقعها الممتاز ويقول لي: أنا لو أولد من جديد ويخيروني وين تبي يكون وطنك نقول ليبيا، عنده وطنه ليبيا حاجه لا توصف كلنا قد نحب وطننا لكن حبه مختلف وطرابلس كانت أيضا حبه.
صدقي الشاعر والقانوني
والدي في آخر أيامه قبل الدخول للمستشفى أخر مرة أي أحد عنده استشارة قانونية لا يتأخر عنه يتصلون به بالهاتف فيجيب على أسئلتهم، قضايا ومشاكل الناس ومازلت أذكر مرافعات والدي عن الناس الوطنيين اللي رافضين الأوضاع أيام المملكة الليبية بعضهم أخرجه من السجن، وتحمل الكثير من من عادوا مواقفه تجاه الحق والثورة، والدي أول ديواني أصدره كان أحلام وثورة في ذاك الوقت كلمة ثورة في العهد الملكي 1952م ومع بدايات الستينات في الملكية مسألة صعبة تخيلي ينادي بالثورة كان الواحد قليل لما يسمع بأحد ينادي بالثورة أو حتى يلفظ الكلمة، كلماته سببت له متاعب كثيرة، ويومها أيضا كتب في مقدمة أول الديوان أن أطلق أسم أحلام أسم أبنته، وأتذكر أن مرافعات والدي بها لمسة أدبية أكثر منها قانونية كما اعتدنا سماعها،والدي يكتب نثر وحتى من كان يطلب منه التوقيع على أوتوغراف، كان حريص في نثر عباراته في أي مقابلة صحفية ارتجاله النثري كان متميز وموزون لا أقول هذا لأنه والدي.
مواقفه من المرأة
والدي كان مناصرا ومدافعا عن المرأة ليس في عائله فقط بل حتى صديقاتي أذكر أنه عندما يسمع مني أن أحد أولياء زميلاتي أوقف ابنته عن الدراسة يذهب إليه ويحثه ويلح عليه ليترك ابنته تواصل تعليمها (تبتسم) والدي كان حتى لما نزعل من صديقه وأجيء وأشكى من عيب فيها يخلق لها مبرر بأنها لم تقصد وربما عندها ظرف دفعها الى ذلك ويبعد عني أي أحقاد أو قطيعة قد أقررها نتيجة موقفي وكثيرا ما كنت أُغير رأي.
تُسمعني بصوتها ما كتبتهُ في تأبين والدها:
كان والدي رحمه الله إنسانا رائعا، وصديقا وأبا وودودا وفيا محبا لأبنائه، كان يداعبنا ونحن أطفال ويحكي لنا طرائف وأساطير تأخذنا بعيدا في نوم هادئ وأحلام جميلة، كان حريصا على تعليمنا، ويشجعنا على الاطلاع والمعرفة، في سنوات الدراسة الأولى كان يجلس معنا واحدا تلوا الاخر، ليساعدنا في أداء واجباتنا المدرسية،فيبسطها لنا ويفك رموزها الغامضة، عشنا مع والدي رحمه الله طفولة سعيدة، مُنعمة بكرمه وصدقه وحنانه، كان عندما يعدنا بأي شيء يفي بوعده، ولا نذكر أبدا يوما قط انه تراجع عن هذا الوعد (تعلق وهذا صحيح مستحيل عنده)، كان يسعد معنا عند استقبالنا لأصدقائنا الأطفال ويقدم لهم الأشياء التي تدخل البهجة في نفوسهم وعند نهاية الموسم الدراسي يأخذنا جميعا الى دول عربية واروبية أحيانا، أبي العزيز نم قرير العين هاديء البال (تخنقها الدموع فأطلب منها أن تتوقف لكنها تواصل) لأنك عشت طوال حياتك إنسانا صادقا، أحببت وطنك فأحبك أبناء هذا الوطن الطيبين، كنت وفيا لهم فكانوا هم أيضا أوفياء لك حتى في مماتك ، إنك ذلك الإنسان الصادق الذي عاش حياته شامخا، لأنه كان رجلا شريفا صادقا لا يعرف النفاق والتملق، إن مدينة طرابلس الجميلة التي طالما تغنيت بها في أشعارك، تبكي لفراقك، وشوارعها وأزقتها تسألني عنك كلما مررت بها عندها أفقد القدرة على الكلام، والحركة وأشعر بأن فراغا موحشا ومظلما مخيف يحيط بي من كل جانب بسبب غيابك عنا وعن هذا البلد الخير وأبنائه الأبرار. (انتهت الورقة التي تُنشر لأول مرة)… وعدت لاسترجع معها صفحات من ذكريات الأب والشقيق.
_____________________
هوامش:
1- اثناء زيارتي الشاعر علي صدقي عبد القادر بالمصحة (مصحة طرابلس – طريق المطار) قبيل وفاته بأسابيع، رفقة الأستاذ يوسف الشريف والذي توجه بسؤال له عن بدايات نشره لقصائده، وهل واكبت ذات الفترة التي أعلنت فيها نازك وأيضا السياب نصوصهما الشعرية الحرة، فأجاب بأنه بدأ في نشرها أربعينيات القرن الماضي في الصحف ما يقارب ذات تاريخ ريادة الشاعرين العراقيين.
2- يعلن الباحث نجم الدين غالب الكيب (علي صدقي عبد القادر شاعر الشباب – المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان – ط1- 1975م) الى أن قصيدته (أ لأني امرأة) هي أقدم النماذج الشعرية في تاريخ القصائد الليبية التي وقفت موقفا واضحا الى جانب حق المرأة في الحرية الاجتماعية مطالبا برفع القيود عن كاهلها، يقول فيها:
أ لأني كنت امرأة
لا ترى عيني عناقيد الضياء
وأزاهير النهار
تتدلى من شعاع الشمس فوق الطلقاء
ألا أني كنت امراة
لا يرى النور بعيني المطفأة
ويظل الحلم المكبوت في المحجرين
وتموت الرغبات في الحياة
قبل ان تشهد أعراس الربيع
نشر بموقع ليبيا المستقبل