قراءات

«ذاكرة الميدان».. استدعاء واعٍ لصفحات التاريخ

كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.
كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.

أهداني صديقي العزيز الكاتب والباحث شكري السنكي كتابه: «ذاكرة الميدان.. الإعدامات العلنية في أبريل 1977م».. قرأته، فامتثلت على شرفات ذاكرتي أحداث وقصص وروايات.. وتجلت تواريخ وظهرت وجوه وسمعت نداءات.. صراخ وأنين وراء قضبان الزنازين وتراءت صفحات من سيرة القهر والإهانة للمواطن الليبي الذي أهدر معمّر القذّافي دمه وماله وأحلامه. ثم غيب مجال البصر والسمع والإدراك بمتلازمة: «عدي بينا يا قايدنا»، وانكشفت أمامي صور لرجال وبطولات وتضحيات، حيث عايشت بعض أحداث الكتاب رأي العين، وسمعت عن بعضها من أصدقاء مقربين عاشوا تجربة المعتقلات والسجون، وآخرين حكوا عن مراحل النضال.. وعن مرارة البُعاد عن الوطن وصقيع أرصفة المنافي.. وبعض ما جاء في الكتاب أقرأه لأول مـرة.

يتحدث الكتاب عن أول إعدامات علنية حدثت في ليبيا بعد عهد المستعمر الإيطالي البغيض، ويسجل سيرة ثلاث ضحايا من ضحايا عهد الاستبداد المقدر عددهم بالآلاف، وهم: عمر علي دبوب، محمّد الطيب بن سعود، عمر الصادق الخازمي المعروف باسم «عمر المخزومي». ويوثق بشكل احترافي دقيق لعدة محطات تاريخية مر بها الشعب الليبي، تدور في معظمها حول مشاهد بطش السلطة وتنكيلها بالليبيين، خصوصاً الذين رفعوا راية النضال، وتمسكوا بمطالب الحرية والكرامة، واستبسلوا في الدفاع عن حق الشعب الليبي في العيش في دولة مدنية تديرها مؤسسات ذات شرعية قانونية في ظل دستور وقضاء نزيه عادل.

كتاب ذاكرة الميدان، استدعاء واعٍ لصفحات التاريخ من خلال عرض لحكايات الأماكن عبر مسار الزمن. وإضاءات كاشفة على ماضي ليبيا النضالي، حيث يتجلى الدور الكبير للحركة الطلابية في قيادة المواجهة المبكرة ضد الحكومة الفاشية في بواكير تشكلها.

يمنحك الكتاب فرصة مقارنة المشانق ووجه التشابه :بين «خرابين ياوطن».. حين ترثي فاطمة عثمان في زمن الفاشست الطليان، وفي العام 1928م، مناضلين من مدينتها هون اعدموا شنقاً امام ناظريها.. وبين خراب من نفس القماشة حدث على يد فاشست ليبيين في ساحة الكاتدرائية في أبريل 1977م في مدينة بنغازي. جرى إعدام المناضلين عمر علي دبوب ومحمّد الطيّب بن سعود شنقاً في ميدان الكاتدرائية وسط مدينة بنغازي في 7 أبريل 1977م، وحرص الضابط الليبي عبدالله السنوسي بأوامر قائده الليبي معمّر القذّافي على ترك الجثتين الليبيتين معلقتين من الظهيرة إِلى حلول الظلام.

يقال عن الذاكرة، “حاسة أخرى”، لأنها قادرة على استدعاء المتشابهات، وبمقدورها أيضاً الإبحار في الماضي والعودة إِلى الحاضر بسرعة خارقة !. تحدثك عن معتقل في زمن بعيد، ثم تنقلك إِلى معتقل في زمن قريب أو حاضر.. تقول لك إن «معتقل المقرون» هو «معتقل بوسليم».. فالمواطن المعتقل في كلتا الحالتين ليبي.. وأن «المحكمة الطائرة» في عصر الفاشست هي «محكمة الشعب» في عهد القذافي.. فالمحكوم بالشنق هو المواطن الليبي.

يعرض الكتاب «خطاب زواره التاريخي في سنة 1973م»، أو ما عُرف بـ«خطاب النقاط الخمس»، والذي يمكن أن نسميه أيضاً «خطاب المفخخات الخمس»، والذي هو أحد نتائج حماقات عسكر سبتمبر. استهدف الخطاب القوانين والجهاز الإداري والبناء المؤسسي للدولة.. فنسفت مؤسسات الدولة الليبية الناشئة.. دولة الاستقلال التي أسسها الأب المؤسس الملك الراحل إدريس السنوسي، وبسواعد وعرق وجهود ومواقف رجال وطنيين مُخلصين أوفياء. ولا شك، أن مَنْ يجرؤ على إلغاء القوانين بإلقاء خطاب، لن يتردد في تعليق مشنقة لمعترض في الغد.. وأن مَنْ يتحسس مسدسه ويأمر بإغلاق صحيفة واعتقال صاحبها ويهدد بأن لو ظهر كاتب أحد مقالات هذه الصحيفة أمامه لقتلته.. ليس ثمة ما يردعه عن ارتكاب مجزرة بحق 1200 سجين سياسي «مجزرة سجن بوسليم في 29 يونيو 1996م».

الذاكرة تحذرك من خوض تجارب فاشلة، ومن رفع شعارات بلا مضامين لا يتفق عليها مسبقاً «شعارات المزايدة»، وترشدك إِلى حقيقة أن نهاية كارثية لشعارات لامعـة: «حرية.. اشتراكية.. وحدة» في قطر ناصري عروبي مجاور، قد أنجبت حتماً كارثة أشد هولاً في تجربة قذافية عروبية مُماثلة. فالذاكرة تحذرك من خوض تجارب مشابهة، وتقول لك: “رد بالك” من خوذة تقفز من معسكر.. ثملة بالألقاب والنياشين والرتب.. تشهر في وجهك بندقية. ثم توعدك بدولة «الأمن والأمان».

الذاكرة تحذرك وترشدك فقط، ولا تجبرك على الاختيار.. لذا يعمد الطغاة والمستبدون إِلى طمس الذاكرة أو تشويهها بتغييب الوعي.. من خلال تيار متدفق من سرديات ملفقة.. وتزوير الحقائق بإعلان إنجازات فوق ركام من خرائب فاضحة.

يعرفنا كتاب ذاكرة الميدان بكوكبة من المثقفين والحقوقيين والمعلمين ورواد اندية وطنية وتشكيلات طلابية وحزبية.. «جمعية عمر المختار».. «حركة القوميين العرب».. وحقبة لاحقة أخرى يستعرض فيها الكتاب دور «الاتحاد الاشتراكي» و «حركة اللجان الثورية» ومشاهيرها الذين قادوا حملات المطاردة والاغتيالات والتصفية للمعارضين في الداخل والخارج، تنفيذاُ لأوامر «القائد» والذي قال بعد حملة التصفيات: ” لقد بدأت المعركة ولن أتراجع حتًى ينزف الدم، ويجري في الشوارع”. فانتشي هؤلاء الغوغاء والحاقدون بأوامر القائد واندفعوا نحو القتل وهم يهتفون: «صفيهم بالدم يا قائد.. سير ولا تهتم يا قائد».

يمنحنا الكتاب الإحساس بنبض الأمكنة ورمزيتها وحركتها وتأثيرها في مسار الاحداث: ميدان الكاتدرائية.. ضريح شيخ الشهداء عمر المختار.. جامعة بنغازي.. جامعة طرابلس.. ميدان الشجرة.. ميناء بنغازي الشاهد على شنق الفنان عمر المخزومي ورفيقه المواطن المصري أحمد فؤاد فتح الله. ويعتبر كتاب السنكي مساهمة معرفية وتوضيحاً تاريخياً.. تطلبت في تقديري الكثير من الجهد والبحث والتدوين.. والحرص على إثبات شهادة الشهود.. وسرد الوقائع بتفاصيلها الدقيقة.. حسب ما تتطلبه الأمانة العلمية.. وتقتضيه المسؤولية الأخلاقية والأدبية.

أختم بفقرة للكاتب: “أخيراً.. لابد من تضافر الجهود، والحرص على التوثيق وكتابة التاريخ، وأن يكتب الباحثون والمؤرخون أبحاثاً تفيد الحاضر والمستقبل من خلال رصدها للماضي وتسجيلها لأحداثه وتفاصيله، ويقدمون للامة دراسة تحليلية للاستفادة منها، والبناء عليها”.

الأربعاء الموافق 15 نوفمبر 2023م

مقالات ذات علاقة

كتاب (محمود أحمد المنتصر ودوره السياسي في ليبيا) إثراءٌ للمكتبة السياسية والتاريخية

يونس شعبان الفنادي

أبطال زوسكند في ”ثلاث حكايات وملاحظة تأملية“

ناصر سالم المقرحي

حبر على ورق: حكايات من البر الانكليزي

أحمد إبراهيم الفقيه

اترك تعليق