حوارات

مطاوع: الثورة أزالت القذافي وعرّت الشعب

بوابة الوسط

حاوره: محمد الأصفر

محمد الأصفر وخالد مطاوع
محمد الأصفر وخالد مطاوع

لم ينقطع الشاعر خالد المطاوع رغم إقامته في الولايات المتحدة الأميركية عن وطنه (ليبيا). ويعمل مطاوع أستاذ مادة الإبداع في «جامعة ميتشيغان»، ومع ذلك تجده يتردّد على وطنه من آن لآخر.

ولم يكن غريبًا أن يكون حاضرًا في خضم الثورة الليبية، متابعًا لها لحظةً بلحظةً. «بوابة الوسط» التقته وكانت هذه السطور.

* الثورة أزالت القذافي وعرّت الشعب

بداية يقول: “إن التحمس للثورة كان أمرًا طبيعيًا بالنسبة لي لأن خروجي من الوطن أساسًا وعدم قدرتي للتواصل معه لمدة طويلة وتواجدي على هامش المجتمع الليبي مثل باقي المثقفين الليبيين كان ولازال مرتبطًا بسياسات النظام الذي أهدر دم الليبيين، وخرب اقتصاد البلاد ومؤسساتها الحكومية، وكوّن من خلال مدارسه وجامعاته أجيالاً محدودة الثقافة، لم تستطع أن تصمد أمام تيارات الجهل والتطرف. هذا خلاف عن الفساد والنهب واللامبالاة التي نمّاها النظام في العقلية الليبية، بالإضافة على أنه حرمنا، بإلغاء الأحزاب وكل مؤسّسات المجتمع المدني، من القدرة على تكوين مؤسسات، وعلى العمل الجماعي كله، وهذه عاهات كبرى لازلنا نعانيها. ترك القذافي فقط القبيلة، وهي مؤسسة تعتمد الشفوية، إذ لا قواعد ولا قوانين لها غير مصالح اجتماعية موقتة، في مجتمع رعوي، يعتمد على الفزعة والعصبية، وعوامل نفسية، لا تكفي للترابط الذي نحتاجه لتكوين دولة معاصرة”.

ويضيف: “قد لا نلوم نظام القذافي على كل شيء، لأنه لم يخلق بيديه كل العلل، التي نجدها في المجتمع الليبي. ولكن سلبية النظام كانت، كمثل من يقتني لحمًا، ويتركه في الهواء يفسد. نظام القذافي دمّر الكثير في ليبيا بسلبيته، وعدم اكتراث من عملوا معه بمصير البلاد. وما نراه الآن من قبلية وجهوية انتهازية، ومن تطرف ديني غشيم عنيف، كله من جراء نظام القذافي بشكل أو بآخر، لأن هذه هي الأفكار الوحيدة التي استطاعت أن تبقى في فتره حكمه. طبعًا إضافة لأنه خلق شعبًا فيه شرائح كبيرة من أشباه المتسولين الذين ينتظرون الدعم من الحكومة وأشباه اللصوص الذين يبحثون عن طرق للتحايل على قوانينها، أو لسرقة مصادرها. بات هذا الوضع الفاسد جليًا بعد الثورة وتفاقم خلالها إذ أن قطاعات جديدة من الشعب الليبي بدأت تسطو على المزيد من مصادر الدولة بالسلاح أحيانًا وبالاستحقاق… إلخ”.

وتابع: “الآن نستطيع أن نقولها صراحةً، وأن نواجه بها أنفسنا. الثورة أزالت القذافي وهي بذلك عرّت الشعب الليبي، الذي بات أمام المرآة، يرى نفسه على حقيقتها، بكل فساده وعاهاته. وهذه لحظة وعي فريدة للمواطن، فبالرغم من كل البؤس الذي نشعر به عندما نعرف حقائق مؤلمة، إلا أن سقوط الأوهام، مثلاً بأننا شعب بسيط محافظ ومسالم… إلخ. كل هذه الإشاعات سقطت. اكتشفنا أننا شعب معقّد، وغير مسالم، وأن لدينا قدرات على التكتل، يجمعها العنف والرغبة في الغلبة. فهناك التكتل القبلي الجهوي، الذي كشّر عن أن أنيابه، بعد أن أصبح بيديه السلاح، وهناك التكتل الديني المتطرف. كلاهما أثبت أنه يفتقد لأي معنى للمواطنة، أو الإنسانية وأنه يستطيع أن يمارس التعذيب والابتزاز والذبح والقتل والدمار من أجل صلاحيات غير عادلة من السلطة والثروة. إذن نحن شعب قادر أن يتكتل من أجل مصالح مادية صرفة، ومن السهل أن تقنع شبابنا بأن يحاربوا من أجل مصراتة أو الزنتان أو ورشفانة، أو من أجل فكرة مبهمة، مثل تحكيم شرع الله، تسمح لك بكل أنواع العنف، وتدخل عليك المال والغنائم والسبي… ولكننا نفتقد القدرة، على أن نجمع الناس لتقاتل من أجل ليبيا الموحدة، والوطن والعدالة والديمقراطية. هذه حقيقتنا وهذا مجتمعنا، وهذه المصائب التي حدثت بعد الثورة، هي نتاج ثقافتنا، وللقذافي دور كبير في ترسيخ هذه الثقافة. ولكن القذافي راح ومن معه لن يستطيعوا أبدًا أن يرجعوه. المسؤولية إذن علينا نحن”.

*لابد للمثقف أن يثور

يقول مطاوع: “أرى أن المثقف الليبي، لابد ألا ييأس أمام هذه الحال، فهناك قطاعات كبيرة من الشعب الليبي، باتت مدركة لهشاشة بنية المجتمع، الذي تعيش فيه. وأنا أقول إن ما يحدث في ليبيا لا يزال ثورة مادام هناك ازدياد في الإدراك ورغبة حقيقية في التغيير… بالنسبة للمثقف، هذا التحول المعرفي الذي يجري له ولمجتمعه، أمر إيجابي، فمادامت معرفته تزداد، فهي مدخل للأمل والعمل. هذا إذا أراد المثقف أن يكون فاعلاً، وليس موظفًا في القطاع الثقافي. فكل أمراض المجتمع مكشوفة أمامه، وله أن يختار كل الوسائل لمعالجتها، ولا أن يكون محصورًا في تخصصه، فعلى الشاعر أن ينسى أن عليه أن يكتب الشعر فقط، والروائي كذلك… إلخ. لابد على المثقف أن يثور على مواقع الخمول والكسل في ثقافته، وممارساته الثقافية. فمجرد تواجده في الشارع سيفتح له سبلاً للتغيير، ولابد أن يدرك أن مشاريعه، لابد أن تكون في المجتمع، وفي البداية مع شريحة معيّنة ومحدودة من المواطنين، لابد أن تكون بسيطة لتتجذر ولتنمو”.

ويواصل: “ما رأيناه من خروج الناس في الشارع، مطالبين بالجيش والشرطة، كلها تعابير صادقة عن رغبة حقيقية في الدولة، وهي مبعث للأمل. ولكن علينا أن ندرك أن انهيار مؤسسات الدولة، الجيش والشرطة مع بداية الثورة، إن هذه المؤسسات كانت هشة، وكانت عبارة عن لائحة أناس موظفين لديها، أغلبهم يأخذون مرتبات دون أي عمل. وكذلك الحال في كل مؤسسات الدولة، إلا من رحم ربي. الدولة في آخر الدولة هي عبارة عن أفراد تعطي لهم مهمات ينفذونها، وإذا كان الأفراد لا يؤدون مهامهم، بسبب ما أو آخر ستسقط هذه المؤسسات. تونس جرت فيها ثورة، ولكن مؤسسات الدولة لم تنهار، أما نحن فحتى البريد لم يباشر عمله”.

* نريد الدولة ولا نريد أن ندفع ثمن تكوينها

يتواصل الحديث، فيقول مطاوع: “أرى أننا لازلنا في ليبيا نريد الدولة، ولكن لا نريد أن ندفع ثمن تكوينها، وانضباطها، لأننا عشنا وأكلنا وشربنا على فساد هذه المؤسسات، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. كلنا لديه أخ أو صديق أو قريب سرق أو لازال يسرق من الدولة، والقليلون منا من اتخذ موقفًا أمامهم، بل بالعكس أغلبنا استغل هذه العلاقات لتحسين أوضاعنا. لن تتكون الدولة، ولن يكون لها أي قدر، ولن تكون مؤسساتها فعّالة، إذا كنا ننتهكها، وإذا كانت مصادرها مشاعة لنا. هذا قرار لابد لنا كشعب أن نتّفق فيه: هل نريد دولة أم لا؟، هل نريد مؤسّسات أم لا؟ هل نحن مستعدون أن نغير من تصرفاتنا نحو الدولة أم لا؟”.

* عن الهوية الوطنية

وأكمل: “بالنسبة لما ذكرته عن الفريق الوطني، وفرحة الناس بانتصاراته، فهذا دليل واضح على أهمية الهوية الليبية لليبيين، ورغبتهم أن تكون هي الهوية الأعلى، ضمن ما يعرّفون به أنفسهم. الحقيقة أن الفريق الوطني كان منذ الثورة من أبرز وأجمل ما في ليبيا، فقد أظهر هؤلاء الشباب روح وتفاني وتعاون وانضباطًا، لا نراه في حياتنا عامة. كانوا فخرًا لنا ومثالاً حقيقيًا للعمل الجاد. وكما لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى فلا فرق بين شرقاوي ولا غرباوي ولا زنتاني ولا مصراتي ولا سرتاوي ولا تباوي ولا أمازيغي ولا عبيدي ولا عقوري إلا بالقدرة على اللعب، وكذلك على اللعب الجماعي، الذي يفيد الفريق. أمام الفريق الوطني كلنا كليبيين، نريد له الفوز، ونريد اللاعب الأفضل في المكان الذي يليق به، (الإنسان المناسب في المكان المناسب). ونريد أن تحترم قواعد اللعبة. أظن أن ما زاد من حرقة فرحتنا كليبيين من إنجازات المنتخب هو رغبتنا في أن تكون القدرة والاستحقاق هي الأساس فيمن يتم اختياره للمسؤولية أو التكريم وثقتنا أن المصلحة العامة كانت توجه اللاعبين ومدربي الفريق”.

ويضيف: “للأسف أن انتصارات الفريق الوطني وغيرها من الإنجازات الرياضية الليبية منذ الثورة لم يتم استثمارها لتأجيج الروح الوطنية. من يدرسون تاريخ الدول في القرن العشرين، يدركوا أن الرياضة وما تكوّنه من لحظات متزامنة من التلاحم والتماهي لعبت دورًا كبيرًا في تكوين الروح الوطنية بين الشعوب، والانتصارات وحتى الانتكاسات الرياضية كانت محطات في نمو الهوية الوطنية لشعوب كثيرة، مثل ألمانيا والأورغواي والبرازيل… الرياضة طبعًا ليست الوسيلة الوحيدة لتكوين روح التعاطف والتماهي التي يمكن أن تبنى عليها الهوية الوطنية. الثقافة لها دور كبير في هذا الأمر، فهي بالنسبة للفولكلور مصدر الأساطير والحكايات الشعبية، وما يعرفه عامة الناس عن تاريخ بلادهم. وبالنسبة للأدب الحديث في الرواية والقصة والمسرح وحتى الشعر فهي مصدر للشخصيات التي تعبر عن الصراعات الوطنية كما يواجهها الفرد. وتماهي القارئ وتعاطفه مع هذه الشخصيات يُنمي فيه روح الانتماء. طبعًا أنا أعني الثقافة التي ينتجها المثقف الحقيقي القادر. وأقصد بذلك الأعمال التي تتحدّى المواطن بينما هي تكوّن هويته أعمالاً مثل “الأيام” لطه حسين، و”امرأة في نقطة الصفر” لنوال السعداوي و”موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح و”رجال في الشمس” لغسان كنفاني، هذا بالنسبة للعالم العربي فقط، كلها أعمال تتحدى ثوابت الهوية وتكونها في نفس الوقت”.

ويوضح: “العامل الآخر من تكوين الهوية الوطنية على الأقل في القرن العشرين، وما بعد هو إعادة كتابة التاريخ وتصحيحه، والتخلي عما فيه من أكاذيب، ربما كانت ضرورية في حين ما. المجتمعات القوية في عصرنا، تحاول أن تقلل من الكذب على نفسها، وألا تكون منهاجها التعليمية متناقضة لما يراه الصغار والشباب في حياتهم، وما يعرفوه عن تاريخ بلادهم. الألمان لا يقولوا إن الفترة النازية كانت جميلة، والأميركان يعرفون أنهم قتلوا الملايين من الهنود والسود، وأيضًا أنهم عنصريون وإمبرياليون والبريطانيون كتبوا تاريخ استعمارهم، بكثير من الصراحة، والمؤرخون الإسرائيليون فضحوا الكثير من الأكاذيب، التي كانت أساس العقيدة الصهيونية. هذه كلها علامات المجتمعات القوية؛ حيث كتابة التاريخ واستئصال ما فيه من أكاذيب، ضروري كنوع من الجراحة الروحانية للمجتمع”.

ويُفسر بقوله: “الأدب العربي قام ببعض هذا النقد، ولكن المجتمعات العربية لا زالت لا تطيق مصارحة ذاتها، ربما لأننا لازلنا شعوبًا محاصرة. ولكن لن يتغير أي شيء في بلادنا، إذا استمررنا في تكرار أساطير لا نصدقها. بالنسبة لليبيا المشكلة الثقافية أكبر وأسهل إلا حد ما أكبر لأننا ليس لدينا تاريخ عميق نستطيع أن نستثمره في تكوين الهوية الوطنية، والكثير منه ليس مشرفًا. تاريخ طرابلس مليء بالتمردات والعائلة القره مانلية كانت دولة مبنية على القرصنة، وبرقة بعد الفتح الإسلامي كانت منطقة خطرة مليئة بقطاع الطرق، ولم يكتب تاريخها إلا الحُجَاج الذي مرّوا بالمنطقة، وهناك فجوة لمدة ثلاثمئة سنة، لم يكتب عنها شيء. مصادري لهذين الاستنتاجين هما كتب: (“بنغازي متصرفيلك” لبازاما و”تاريخ طرابلس الغرب” للطاهر الزاوي “). ولا أظن أن وضع فزان أفضل بكثير. يعني تاريخنا كما وصفه الشاعر الشعبي عبدالمطلب الجماعي جيدًا عندما قال: “أرحم بوي خلاني هواوي”. وإذا أتينا للقرن العشرين حيث نجد كمًا أكبر من التاريخ سنرى نماذج كثيرة للنضال، ولكن أيضًا للانشقاق، وأن الحرب الأهلية التي نراها الآن، هي امتداد لحروب أهلية خلال الاحتلال الإيطالي، حيث إنَّ في إقليم طرابلس عدد الليبيين الذين قتلهم ليبيون آخرون، ربما أكثر من الذين قتلهم الطليان. ثم نأتي لفترة التحكم الطلياني في الثلاثينات والحرب العالمية الثانية والمملكة وعهد القذافي. ماذا سنكتب عن تاريخنا؟ وكله لم يكتب بعمق ولم نكتبه في خيالنا في فنوننا ليتعمّق فينا، وربما لأننا نجده لا يكفي”.

ويزيد الشاعر الليبي بقوله إن كل هذه الفجوات التي نجدها في تاريخنا وفقداننا ربما لمقومات الأمة المتناسقة، يجعل معضلة تكوين الهوية الليبية أسهل. هنا أعنى أنَّ علينا أنْ نركز على المستقبل وأن نخلق لأنفسنا ولليبيا حلمًا وطنيًا نتفق عليه، مبنى على قيم إنسانية مشتركة. دور المثقف والفنان هو بلورة هذه الأحلام الجديدة، لا أن يدغدغ المواطن برموز أصبحت بالية (الجمل، الحصان، براد الشاهي، الفراشيّة، الصحراء). لا أقصد بذلك أن يقدّم لنا المثقف والفنان مواعظ، ولكن أن يصور لنا الحياة كما يراها دون مساومة، وأن يكون عادلاً وثاقبًا وشاملاً في تصويره للحياة، وما يجري في خياله، وألا يبرئ نفسه أو عشيرته. هذا بالإضافة إلى القدرات الجمالية التي لابد أن تظهر في العمل.

ويضيف: “لا يفوتني أن أقول إن الحركات الإسلامية استطاعت في العقود الأخيرة أن تنجح في تكوين هذا الحلم، لدى بعض الشرائح في المجتمعات الإسلامية، حلم الدولة الإسلامية الشبيهة بالمدينة المنورة في عهد النبوءة والخلفاء الراشدين، وكان هذا جزءًا كبيرًا من نجاحها، ولازال يستهوي الكثير من الشباب في بلداننا. ولكن بدأ يتضح أخيرًا أن هذا المشروع، كما تبلور من الإخوان للتكفيريين للوهابيين الجدد للقاعدة لداعش، أنه مشروع مكلف جدًا، أدّى لمقتل مئات الآلاف من المسلمين، على أيدي مسلمين آخرين، كما أنه غير مطابق للعصر، ويستهين تمامًا بالمرأة، وفيه كثير من الإقصاء، وينتهك الكثير من الحقوق في الرأي والتعبير والمعتقد والترابط، وهي مكتسبات إنسانية، لا يمكن التخلي عنها في عصرنا هذا. ومع ما أراه مع نهاية الحلم الإسلاموي، وإذ نحدق في الفجوات في تاريخنا، نرى أنه ليس لدينا إلا المستقبل، وهنا سيكون دليلنا ما نختاره من تاريخنا، (بعد أن نواجهه) وتاريخ الإنسانية عامة، ليكون قدوة لنا”.

ويتطرّق مطاوع في حديثه إلى قول على بن أبي طالب إن الفتى من يقول ها أنا ذا… ليس الفتى من يقول كان أبي. وأرى أن من يريد مستقبلاً لليبيا، لابد أن يحاول التعامل الصريح مع تاريخنا المعاصر، لمعرفة الذات الليبية. الموضوع هو ليس البحث عن جوهر ما، ليس هناك جوهر، ولكن أن نعرف أنفسنا عبر أحداثنا وأن يكون لهذه الأحداث وقع عاطفي بداخلنا. بالنسبة لما لم نتعامل معه، هناك الكثير لم نغطيه عن ليبيا في عهد القذافي، وهي دون شك كانت فترة صعبة وغنية بالأمثلة، من أناس حفظوا ضمائرهم وحاولوا أن يخدموا الوطن وبالعكس. الثورة أيضًا فيها أمثلة لأناس أصحاب ضمائر حية، وعمق إنساني وأمثلة معاكسة. كما أن تجاوب الليبيين مرة بعد مرة للعملية الديمقراطية والنزاهة التي تمت بها هذه التجربة، تعتبر محطة مهمة في تكوين الهوية الليبية الجديدة، كما كل الأحداث الإيجابية، التي جرت في وسط الدمار الذي يقوم به العابثون بليبيا الآن.

ويردف: “الأعمال الفنية الجيدة التي لا تساوم، بإمكانها أن تكون مصدرًا لهذه الهوية الجديدة. كون الشعب الليبي لا يتفاعل مع الفن المحلي، قد يرجع هذا لعدم تسويقه بشكل جيد من قبل من ينتجه، ولكن أيضًا لا ننسى أن الليبيين سئموا الفنون الوطنية قبل الثورة وبعدها، لكون الكثير منها غير صريح ومجامل. لن تتكون لدينا ثقافة وطنية بأعمال متواضعة وخجولة دون مرجعية لأجود فنون العالم. ولكن لا هوية دون فنون تتمخّض فيها هذه الهوية. الفنان الآن عليه أن يصنع لنا هويتنا، بدخوله بعمق في خياله وضميره. عليه ألا يخاف منا، فالأجدر أن نخاف نحن منه لما سيكتشفه عن نفسه وعنا”.

*مشروع مؤسسة آريتي حلم لم يكتمل

ويوضح: “بالنسبة لتكوين مؤسسة أريتي والعودة للعمل في ليبيا، فهي كانت كما ذكرت حلمًا جاء مع الثورة ولم يكتمل كما لم تكتمل العودة لأسباب عديدة. أريتي هي مشروع أتشارك فيه مع زوجتي الفنانة ريم جبريل، وهي المسؤولة الأولى على نجاحه، كذلك مع طاقم من الفنانين والفنانات والشباب والشابات الذين تجاوبوا معنا بحماس لم أشهده قبل. وصدقني يا أصفر عندما أقول إنَّ التعاون والتجاوب الذي رأيته من هؤلاء الشباب والشابات هو من أجمل ما اختبرت في حياتي وهو مصدر أمل كبير لي بخصوص ليبيا، لأنني متأكد أن هؤلاء الشباب المتنور المتحفّز يمثلون شريحة لا بأس بها من شباب ليبيا”.

ويؤكد أن: “فكرة أريتي أساسًا هي توفير فرصة للشباب للتعرف على أشكال فنية جديدة منتقاة من كل العالم وفتح المجال للتدريب والاحتكاك مع فنانين دوليين. كما أردنا أن نفتح قنوات التواصل بين الأجيال من المثقفين الليبيين المخضرمين والشباب. كان مهمًا بالنسبة لنا أن تكون برامجنا ذات قيمة فنية عالية وأن تكون منظمة بشكل جيد، حيث إن التنظيم الجيد بأقل كم من الموارد هو جزء من الثقافة التي وددنا أن نجذرها في الوسط الثقافي بعد أعوام من الابتذال والفساد المالي في عهد القذافي الذي لم نخلص منه بعد للأسف… كنا محظوظين بتجاوب عدد من المؤسسات المماثلة بالأخص دار الفنون التي فتحت لنا أبوابها واحتضنت نادي أريتي للسينما. وكذلك بعض مؤسسات الدولة التي وفّرت لنا مقراتها وقلة من الشركات التي قدمت لنا بعض الدعم. طبعًا واجهتنا بعض المشاكل أهمهما التشدد الديني الذي حرمنا من فرص تقديم عروض موسيقية أو من فتح المجال لعروض سينمائية أكبر. وكان هذا التهديد هاجسًا معيقًا بالنسبة لنا. المشكلة الأخرى هي قدراتنا التنظيمية وقلة التمويل ولذا لم نستطع أن ننمو بشكل أكبر… ولكن عمومًا مشروع أريتي لازال خبرة إيجابية ونتمنّى أن يقدم المزيد لطرابلس وليبيا عامة حالما تهدأ الأمور قليلاً. ما أتمناه في هذا الصدد هو أن يزداد عدد المؤسسات الثقافية في ليبيا وأن تركّز على مشاريع بسيطة ولكن تداوم وتثابر فيها. ليبيا مناخ ثقافي صعب ولكن هناك تعطش لما هو قيم والجمهور سيأتي إذا كان المحتوى جيدًا وإذا كان الشكل يتميّز بالحرفية وحسن التنظيم”.

*”الآن وقد ذقنا الأمل”

وعن جديده، يقول: “أعمل على ديوان جديد سيضم قصائد منها ما كتبت وقت الثورة، “الآن وقد ذقنا الأمل” وقصيدة كتبت مباشرة بعد مقتل القذافي “بعد 42 عامًا” وغيرها. صدر لي في المدة الأخيرة دراسة نقدية عن محمود درويش اسمها “محمود درويش: فن الشاعر ووطنه” تتحاور الدراسة عن تحولات درويش في تكوين الهوية الوطنية الفلسطينية والمصادر والأشكال الأساليب التي لجأ لها درويش ليصنع فنًا من شعره بالرغم من الضغوط السياسية التي كانت تحيط بمشروعه الشعري منذ بدايته. أنا الآن في طور الانتهاء من ترجمة ديوان أدونيس الأخير “كونشرتو القدس”، وكذلك في جمع عدة مقالات كتبتها عن الشعر في كتاب واحد”.

مقالات ذات علاقة

العارف: لا نقبل بالأغاني الجهوية (3/3)

المشرف العام

حـقـقـت فـي إيطـالـيـا ما لم أحـقـقـه فـي لـيـبـيـا

المشرف العام

الشاعرة خلود الفلاح: علاقتي بالأشياء فيها الكثير من الحميمية

المشرف العام

اترك تعليق